المؤلف الموسيقي إبن جديدة مرجعيون وليد غلمية
السيمفونيات الخمس للمؤلف الموسيقي اللبناني وليد غلمية: »القادسية« و»المتنبي« و»اليرموك« و»الشهيد« و»المواكب« وجدت طريقها إلى الإنتاج أخيراً بدعم من طلال ابو غزالة صاحب المبادرات المتعددة في هذا المجال. خمس سيمفونيات منتجة ومحفوظة أخيراً لرئيس المعهد الوطني العالي للموسيقى ـ الكونسرفاتوار، في عملية مراهنة رابحة لا شك على ان يكون لهذا العمل الضخم، الموسيقي بحالته الصرفة، مردود إبداعي يترك أثره وبصماته في التراث الموسيقي العربي. فالتراث قبل أي أمر هو قيمة وجودية في الوعي، والذاكرة ان حفظت هي حتمية وجوهرية عند الشعوب. التراث، ومنه اعمال وليد غلمية القيّمة، يستحق مبرر وجوده في حفظه واستمراره، وإلا يصبح مصيره العدم.
من هنا، تكمن اهمية الالتفاتة الجادة، التي قام بها ابو غزالة، والتي تؤكد معرفة وجهة تقدّمنا الموسيقي وتطورنا في هذا المجال الإبداعي. ليس عبر انتاج سيمفونيات واعمال غلمية فحسب، بل عبر الإحاطة الكاملة، بكل ما أنتجه وأبدعه كبار في وطننا الصغير. واحسب هنا، كملاحظة شخصية ان العولمة لها ايجابياتها في نشر التراث الموسيقي، من الفكرة القائلة بأن العالم كله غدا قرية صغيرة، وبأن ما ننتجه من ثقافات وفنون محلية، تغدو عالمية، كما أن ثقافات وفنون شعوب أخرى، تغدو بدورها محلية مع الشرط الاساسي لهذه العملية التبادلية التي أفضت إليها العولمة، وهو الحفاظ على شخصيتنا العربية الموسيقية الخالصة من كل هجين. هو شرط بسيط وواضح، لكنه حاسم لجهة تقديمنا فناً عربياً خالصاً، منفتحاً في آن على خصوصيات الآخر.
في جولة سريعة على أعمال غلمية المنتجة من قبل ابو غزالة، نعرض الى السيمفونيات الخمس. فالقادسية او »سيمفونيا الايمان« في اربع حركات (تم تأليفها سنة ١٩٧٦) وهي ترسم التحول من إنسان إلى إنسان بكامل مفاهيمه وأفكاره، وتقوم على موضوع لحني يلجأ إلى الأذان والقوالب الموسيقية التراثية العربية. المتنبي: او »سيمفونيا الإرادة والبطولة« أتت في ثلاث حركات (تم تأليفها سنة ١٩٧٨)، وهي ترسم طموح الإرادة وملاحم البطولة، وترسم في لوحتها الأولى ملامح الدهر والزمن (المتكرر في قصائد المتنبي) وتقوم على أسلوب التقاسيم في الموسيقى الشرقية، وصفها المجمع الموسيقي الاسكندنافي أنها »صوت جديد«. أما »اليرموك« او سيمفونيا الحرية، فهي في ثلاث حركات (تم تأليفها سنة ١٩٨٠) وهي ترسم ظاهرة انضمام النصارى العرب إلى جيش المسلمين ضد الروم المستعمرين، والانتصار الكبير في موقعة اليرموك. وتقوم على النغم البيزنطي الواضح في الموسيقى البيزنطية التي هي إحدى دعائم الموسيقى الشرقية العربية. »الشهيد« او »سيمفونيا البذل والعطاء« في اربع حركات (تم تأليفها سنة ١٩٨٢) وهي ترسم مسيرة الشهداء. القادة في التاريخ، وتجسد أن الشهادة والتضحية تعني الحياة، والسيمفونية مكونة من مادة موسيقية شرقية فولكلورية في بناء اوركسترالي سيمفوني ذي حالة درامية، بكل ما في النغم الفولكلوري من عفوية وسذاجة، وهذه معالجة موسيقية تظهر للمرة الأولى. أخيراً، »المواكب« مهداة إلى »جبران خليل جبران« (تم تأليفها سنة ١٩٨٤) وهي ترسم صورة الإنسان الجديد الآتي، والمتمثل بجبران في جديده الشكل والمضمون.
مثل مبادرة ابو غزالة، نماذج ومبادرات انتشرت في الغرب، وبقيت عندنا خجولة مما وضع المبدع الموسيقي في العالم العربي، في حال من حكم عليهم جوراً بالتغرب والانفصال عن الجذور، أو في حالة التقييم الإيجابي للأعمال الإبداعية، وهي تقوم غالباً على أساس الأغنية كوحدة، وهذا تقييم غير منطقي، لأن الأغنية ليست وحدها المقياس الإبداعي.
ثمة مواضيع وعناوين لنتاج غلمية السيمفوني، الموسيقي المحض كل سيمفونية تعيش بأنغامها، وباستقلال هذه الأنغام، في مستويات مختلفة، لكن في علاقة تبادلية من حيث البراعة التقنية، والوجه الذي يتعدى التقنية وهو زيادة وعي الفرد العربي في أهمية الموسيقى وما يدور للنغم في حالاته التعبيرية كافة، سواء الغضب ام السرور ام الزهو والرفض والبطولة وسوى ذلك من عناوين الحياة.
ثمة مستويات مختلفة، منفصلة بصورة آلية يلمسها المستمع بوضوح تام، غير انه يستعذب سماعها بطرق مختلفة في الوقت نفسه. سماع هذا النتاج يعطي المستمع إحساساً بأن الموسيقى روح من الممكن الركون إليها والاستئناس بها والتعبير من خلالها، وهي تشكّل المستوى الحسّي في ردود أفعالنا ومشاعرنا حيال العالم وقضاياه، وحيال قضايانا الشخصية اولاً. قد لا نعثر على المستمع المثالي العربي للموسيقى، لكنه في درجة أكيدة، سيشعر بقوتها وسيطرتها على مشاعره. الاستمتاع هو بعض الإتاحة التي توفرها الموســيقى، والوعي والمعرفة يعمقانه، فلنستمع إذن.
تعليقات: