الضاحية تنوء بحزنها وصدمتها واسرائيل توسّع رقعة استهدافاتها

انفرطت الضاحيّة طيلة اليوم في فضاءٍ محموم، من القنوط والضوضاء (علي علّوش)
انفرطت الضاحيّة طيلة اليوم في فضاءٍ محموم، من القنوط والضوضاء (علي علّوش)


الرائحة النفاذة فقط. على مدار يومين، وأنت في موقع الاستهداف، لا تتربص بك سوى تلك الرائحة النفاذة الّتي تنسل كخنجرٍ في الحلق.. مزيجٌ من رائحة الدمّ والبارود والإسمنت والقمامة والعرق والأجساد المحترقة والممزقة. تجول في الأزقة والشوارع الفرعيّة المُحيطة، لتشعر أن الضاحيّة تنوء بما هو أشبه بالكسوة الصلبة والثقيلة، إنّها حتمًا غشاوة الحزن الشفيف، الّتي لا تنقشع.

ما كان تخمينًا وظنًّا منذ أيام، صار هيّنًا فهمه اليوم: الأيام الكابوسيّة المُفعمة بالسّوداويّة والنكبة، لن تمرّ سريعًا. الحرب من أمامنا وإن استصعبنا فهمها. صوت الإسعاف، صوت التضرّع المستميت، صوت المجزرة، بات حدثًا يوميًّا في لبنان، رغم أنف المفاوضات والوساطات و"الجهود الدوليّة" لاستنقاذ الحلّول والتسويات. فيما يبقى السّؤال شاخصًا، هل يُمكن فعليًّا تجنب حربٍ أوسع بعد؟


تململ البيئة

كانبثاق الإغماءة، هكذا استيقظت الضاحيّة اليوم. استيقظت الضاحيّة على نكبتها المباغتة الجديدة، وهي لم تتجرع بعد صدمة أبنائها الذين انفجرت أجسادهم قبل اليومين فيها. ولمّا كانت حاجة الضاحيّة للحظة سكونٍ، جبارة، فإن صوت المسيّرات الاستطلاعيّة الّتي خرقت سمائها طيلة ليل السّبت ونهاره، ودويّ صافرات الإسعاف وجلبة مركبات النقل والجرف، جعلت لحظات الصمت تُقبل بتباطؤ شديد، لتنفرط الضاحيّة طيلة اليوم في فضاءٍ محموم، من القنوط والضوضاء.


الشارع – شارع "مجمع القائم" – الذي كان يزدحم بالمارة، وبالسّيارات وبالمحال التجاريّة، أضحى طيفًا مشوهًا لما كان عليه منذ أيامٍ قليلة. طيفٌ مُغبّر. تُحملق بوجوه السّابلة، سكّان الضاحيّة – أو من بقيّ منهم – الذي كان لهم أُسرٌ وطموحات وحياةٌ خاصّة قبل بضعة أيام، وها هم اليوم، بأجسادهم، لا بعقولهم، تتدلى من أعينهم نظرةٌ فارغة، وهم مُحدجين بالمجهول القادم. يطوفون بمراسمٍ جنائزيّة في الشوارع، يحملون الأكياس البلاستيكيّة الّتي تضمّ زاد ترحالهم، من دون أي وجهة يقصدونها، لا أرضًا موعودة هنا في هذا البلد المنكوب يأتمنون بها.

ميدانيًّا، واكبت "المدن" أعمال الإغاثة ورفع الأنقاض على مدار اليومين الفائتين، وتحديدًا منذ الفترة الزمنيّة القصيرة الّتي تلت الضربة. حالة الذعر والتململ تبدو جليّة في المشهد العامّ في الضاحيّة، الّتي تعرض سكّانها لخضّةٍ بالغة، أكان لجهة عمق الاستهداف وحساسيته في قلب الضاحيّة المكتظ، فضلًا عن المشهد الدمويّ للمبنى الذي هُدم فوق رؤوس سكّانه. في وقتٍ يُخيم نوعٌ من الهدوء الحذر في أجواء العاصمة وضاحيتها، يُمكن جليًّا رصد حالة من النزوح لسكّان الضاحيّة من بيوتهم. ذلك بعد أسبوعٍ دمويّ شهدته المُدن اللبنانيّة وتحديدًا العاصمة بيروت وضاحيتها الجنوبيّة، الّتي نزفت 37 شهيدًا من أبنائها ناهيك بعشرات الجرحى والمفقودين في يومٍ واحد.


حزب الله ما بعد الضربة الإسرائيليّة

في المشهد السّياسيّ، يدخل لبنان المرحلة العسكريّة الثانيّة من الحرب الإسرائيليّة عليه، وهي تكثيف الغارات وتوسيع رقعة الاستهداف، حيث شهد الجنوب اللبناني، اليوم السبت 21 من أيلول الجاري، سلسلةً مُكثّفة وطويلة الأمدّ من الغارات، الّتي تدلّ على نزعةٍ إسرائيليّة لإنشاء أحزمة ناريّة على امتداد جنوب نهر الليطانيّ وشماله (راجع "المدن").

وهذه الحرب الّتي ترقى إلى مستوياتٍ جديدة من الخطورة، بيّد أن حزب الله الذي لم يكن واردًا من قبله خيار المواجهة الموسعة في العمق اللّبنانيّ، وحاول جاهدًا بُعيد ردّه على استهداف قائده العسكريّ فؤاد شكر، العودة إلى "قواعد الاشتباك" وضربات الإسناد الّتي كُرست في الثامن من تشرين الأوّل. وكان هذا واضحًا من خطاب أمين عام حزب الله حسن نصرالله، الذي ألقاه بعد الردّ، حيث دعا فيه السكّان الذين غادروا منازلهم خوفًا من التصعيد، إلى العودة.

ليتغير كل ذلك اليوم، فالوضع العسكريّ الحرج في لبنان قد وصل إلى نقطة اللاعودة. متدحرجًا بصورةٍ دراماتيكيّة، وتحديدًا بُعيد الضربة الّتي استهدفت قائد وحدة الرضوان، إبراهيم عقيل و15 شخصيّة أخرى، بعمليةٍ واسعة النطاق، أثرت ومن غير شكّ على بنيته التنظيميّة وأفراده العسكريين، في وقتٍ لم يكن حزب الله قد استوعب أساسًا الضربة الثقيلة الّتي تلقاها، يومي الثلاثاء والأربعاء. ويأتي ذلك وسط إصرار إسرائيل على الوصول إلى أهدافها المتمثلة بإعادة سكّان المستوطنات الشماليّة الّتي لا تتمّ بزعمها سوى بإضعاف الحزب. وبذلك تكون المهمة الأصعب اليوم – عسكريًّا وفي الميدان – هي استعادة الردع، أمام الضربات القاسيّة والمتتاليّة الّتي سدّدتها إسرائيل في هذا الأسبوع. وعليه يبدو حزب الله، اليوم، يزّن خياراته بعناية لاتخاذ ردٍّ قويّ يعيد الردع، مع استعادة الثقة بين قادته وأعضائه وقاعدته وبيئته الّتي عاشت خضّة غير مسبوقة في الأسبوع الأخيرة.


في المشهد الدوليّ

في وقتٍ تستمر فيه الرسائل الإسرائيليّة بالوصول عبر وسطاء دوليين، حاثّةً حزب الله على التراجع وتجنب التصعيد، والقبول بالتسويات الّتي تنطوي، كما هو متوقع على: التنفيذ الكامل لقرار مجلس الأمن الدوليّ 1701، والتخلي عن دعم الجبهة، وضمان العودة الآمنة لسكّان إسرائيل إلى بلداتهم الشماليّة. أو ستوسع إسرائيل عملياتها وتنوع ضرباتها وقد تقرّر جعل لبنان الجبهة الرئيسيّة وتشارك في عملية عسكريّة واسعة النطاق، بما في ذلك غزو بريّ لفرض القرار 1701، وإنشاء منطقة عازلة (Buffer Zone) كما جاء في اقتراحات القيادة الشماليّة للجيش الإسرائيلي. وقد يسبق ذلك تصعيد الضربات والتدمير المنهجيّ للقرى الجنوبية لجعلها غير قابلة للسكن، كما هو واضح في سلسلة الغارات اليوم.

وكل ذلك بحجة التزام الأميركيين بالدفاع عنها، مما يجعل المشهد الحرج أكثر صعوبة. إلّا أن هذه المعادلة، يشوبها اليوم بعضٌ من التحولات، خصوصًا في ظلّ التصريحات الّتي ينقلها مسؤولون أميركيون، والّتي تُفيد عن حالة من "الإحباط" بسبب التصرفات الإسرائيليّة في لبنان، بيّد أنها تُطيح بجهود التهدئة المبذولة لوقف إطلاق النار، وتتساؤلات حول استراتيجيّة إسرائيل في لبنان، والحاجة إلى دعمها في ظلّ انتفاء وضوح هذه الاستراتيجيّة. وتكرّر ذلك بمواقفٍ شبيهة من الأطراف الأوروبيّة وتحديدًا الفرنسيّة، الّتي طالبت إسرائيل " بتحمل مسؤولية تهدئة الأوضاع ومنع تفاقم التوترات في المنطقة" كما جاء في اتصال الرئيس الفرنسيّ مع رئيس حكومة إسرائيل، بنيامين نتنياهو، أمس وبُعيد الضربة.

بالمقابل يدأب لبنان الرسميّ، للتعاون مع الأطراف الخارجيّة لوضع حدّ للتصعيد والحرب المتدحرجة، فضلًا عن المحاولات الحثيثة لانتزاع أي ضمانات أو على الأقلّ تنديد بالأفعال الإسرائيليّة من المجتمع الدوليّ كما جاء في جلسة مجلس الأمن الّتي نجح لبنان والجزائر في عقدها أمس (راجع "المدن"). في وقتٍ تعمل فيه حكومة تصريف الأعمال، للتواصل مع المسؤولين الدوليين لوضع حدّ لهذا التصعيد.

إلى ذلك، تُشير المصادر الدبلوماسيّة بأن زيارة الموفد الفرنسيّ جان إيف لودريان لبيروت لا تزال قائمة، وسيتمّ فيها النقاش حول السُبل لاحتواء التصعيد.



تعليقات: