الحديث عن تهجير كلّي في الضاحية الجنوبية غير صحيح. لا تزال نساء كثيرات يقصدن أسواق الخضر ومحالّ المواد الغذائية في أكثر من منطقة، ولا تزال الزحمة في الأفران والصيدليات والتعاونيات الاستهلاكية ومحالّ المفروشات التي «انتعشت» مع زيادة الطلب على الفرش والوسادات، ولا تزال تجمّعات الشبان في المقاهي وعلى جوانب الطرق ليلاً ونهاراً. لكن ذلك لا يعني بالطبع أنّ الأجواء طبيعية. فالحركة «خجولة»، وعدد العائلات التي غادرت غير قليل، والمحالّ التي تفتح محصورة بالحاجات الأساسية، أما محالّ الألبسة والأحذية والحلويات والعصائر والذهب وغيرها فأقفلت تماماً، وخرجت محالّ الهواتف وبيع بطاقات التشريج والشرائح بمعظمها من الخدمة.وما تشهده الضاحية هو ثلاثة أنواع من النزوح، الأول منها مع مغادرة عدد كبير من سكانها إلى بيروت وخلدة وبشامون وعاليه وبحمدون والشمال والبقاع الغربي... إلى شقق مستأجرة أو في ضيافة أقارب وأصدقاء. والثاني قدوم عشرات العائلات النازحة من الجنوب والبقاع إليها بعد المجازر التي ارتكبها العدو الإسرائيلي بحق المدنيين والقصف «الهمجي» على القرى والبلدات، أغلبهم لجأوا إلى عائلاتهم ريثما يجدون مسكناً آمناً، ما أثار استغراب «أم علي» التي سألت ربة عائلة نازحة إلى البناء الذي تقطن فيه: «هل حي السلم آمن؟»، فأجابت: «هو آمن من الجنوب حتى الآن». أما النزوح الثالث، والأكثر غرابة، فهو في انتقال سكان الضاحية داخلياً من مناطق «خطرة» إلى أخرى «آمنة»، كما يصنّفونها وفق معايير كثيرة، أهمها إسقاط تجربة حرب تموز على هذه الحرب للتنبؤ ببنك أهداف العدو.
لا يمكن إحصاء عدد النازحين من الضاحية، لكنّ المؤكد أن عدد من خرجوا أكبر بكثير ممن بقوا، ويمكن ملاحظة ذلك من خلال ندرة البيوت المضاءة ليلاً، وإفراغ أبنية من جميع سكانها حتى «الناطور غادرها»، وهجرة أحياء بالكامل. وشهدت الكثير من العائلات نزوح النساء والأطفال وبقاء الرجال في منازلهم. صحيح أنّ الضاحية لا تزال مُحيّدة عن القصف العشوائي، وتشهد اغتيالات واستهدافات مُركّزة يذهب ضحيتها مدنيون، لكن تواتر الأحداث بسرعة الأسبوع الماضي، وإظهار العدو همجيته بالنيل من المدنيين في الجنوب والبقاع، وتوسيعه دائرة الاستهدافات إلى زحلة وكسروان، كلّ ذلك كان يصعب على أبناء الضاحية استيعابه. ومشهد الهروب الجماعي من الجنوب والبقاع تحت القصف اضطرهم إلى التحرك فوراً، يُضاف إليه المشاهد التي تحضر إلى ذاكرتهم عن الإبادة الجماعية التي ارتكبها العدو في غزة. وكان خروج العائلات محمّلة بالحقائب والفرش يدفع من بقي متردّداً للخروج أيضاً، مثل محمد الذي يشير إلى «أنني لم أكن أفكر بالنزوح الآن لولا مغادرة جميع السكان في الحي، وكلما خرجت عائلة ازداد معها شعور زوجتي والأولاد بالضغط والقلق». ولأن البعض غادر إلى منازل غير مؤهّلة للسكن، ينقصها الكهرباء والمياه وأبسط مستلزمات العيش، بقوا يترددون إلى منازلهم في الضاحية للاستحمام، أو حتى لتحضير الطعام ثم المغادرة ليلاً.
لا يمكن إحصاء عدد النازحين من الضاحية، لكن المؤكّد أن عدد من خرجوا أكبر بكثير ممن بقوا
في المقابل، ليس لدى جميع أبناء الضاحية «ترف» النزوح. هناك من «ضبّوا» حقائبهم ثم أدركوا أنه ليست لديهم وجهة ليذهبوا إليها، خصوصاً أنّ عدداً كبيراً ممّن استأجروا منازل في المناطق الآمنة بعد تصاعد التوترات على خلفية استهداف الضاحية واغتيال القائد فؤاد شكر تخلّوا عنها بعدما تراجع منسوب القلق وبدء العام الدراسي. لذلك، اصطدم سكان الضاحية بضيق الخيارات، فبقاء آلاف النازحين من الجنوب والبقاع في الشارع «جعلنا نخجل من أن نطلب منزلاً قبل أن تشهد الضاحية اعتداءات مثيلة»، كما تقول عبير التي تبحث عن شقة خارج مكان سكنها في برج البراجنة. كما أنّ استغلال أصحاب الشقق أزمة النزوح وتحديد بدلات إيجار خيالية جعلا الخروج من الضاحية «شبه مستحيل» بالنسبة إلى شريحة من السكان. ويبقى هناك من لم يغادر لأنه لا يجد الوقت مناسباً الآن، و«عندما تُقصف الضاحية منطلع».
تعليقات: