لم تكن حرب “سهام الشمال” الحرب الإسرائيلية الأولى على لبنان وجنوبه، إذ لطالما هاجمت إسرائيل بقواتها الجوية والبرية والبحرية ليس الجنوب فحسب، بل مناطق لبنانية واسعة وصولًا إلى العاصمة بيروت وأطراف طرابلس وجبل لبنان في اجتياح العام 1982، وضاحية بيروت الجنوبية ومختلف المناطق اللبنانية في العام 2006 ودمرت البنى التحتية من شبكات مياه وكهرباء وهاتف ومجار وجسور وقتلت المئات من المدنيين الأبرياء وارتكبت المجازر تلو المجازر، ناهيك بما يحصل أخيرًا بين العاصمة بيروت ومناطق الجنوب والبقاع الغربي من مجازر مروعة ترتكبها آلة النار الإسرائيلية.
ربما تكون الدولة اللبنانية ارتكبت خطًا جسيمًا بقبولها اتفاق القاهرة في حيثياته المنفلتة، ما جعل إسرائيل وأجهزتها المخابراتية تستبيح العاصمة بيروت في عمليات أمنية وعسكرية لتصفية عدد من القياديين الفلسطينيين بعدما احتلت بلادهم وهجرتهم ثم لاحقتهم أنّى كانوا، منذ تدمير طائرات مطار بيروت الدولي العام 1968 وسلسلة من العمليات العسكرية والأمنية التي نفذتها في جنوب لبنان واستهدفت بالقصف والغارات عديدًا من البلدات والقرى الجنوبية، تمامًا مثلما يحصل اليوم، من قصف وتدمير واغتيالات وتهديدات تطاول مئات القرى والبلدات والمدن اللبنانية، الجنوبية الحدودية والداخلية والبقاع، بما يجسد خوضها الحرب السادسة على لبنان.
قصف مطار بيروت
في الـ 26 من كانون الأول (ديسمبر) 1968 سافر مسلحان فلسطينيان من بيروت إلى أثينا وقاما بالهجوم على رحلة الطيران رقم 253 التابعة لشركة طيران “العال” الإسرائيلية، مما أدى إلى مقتل شخص واحد، فردت إسرائيل بعد يومين في الـ 28 من كانون الأول، انتقامًا من لبنان، وتمثل بإغارة الطيران الحربي الإسرائيلي على مطار بيروت الدولي بقنابل دمرت أسطول لبنان من الطائرات المدنية وبلغ عديده في حينه 13 طائرة.
اغتيالات وكوماندس في بيروت
في الثامن من تموز (يوليو) 1972 هزّ الحازمية في ضاحية بيروت الشرقية انفجار عنيف، ليتبيّن لاحقًا أن عبوة ناسفة تمّ زرعها في سيارة الأديب والروائي والسياسي الفلسطيني غسان كنفاني، ما أدى إلى مصرعه على الفور مع ابنة شقيقته لميس نجم، ببصمات إسرائيلية واضحة اعترفت بها بعد مرور أكثر من 45 سنة على حدوثها. وكان كنفاني يشغل منصب عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والناطق الرسمي باسمها.
عملية الحازمية لم تبقَ يتيمة، إذ تبعها أضخم عملية كوماندس نفذها جهاز “الموساد” الإسرائيلي في منطقة ڤردان في العاصمة بيروت. ففي العاشر من نيسان (إبريل) العام 1973، اغتال جهاز “الموساد” الإسرائيلي القادة الفلسطينيّين الثلاثة: محمد يوسف النجار “أبو يوسف النجار”، وكمال ناصر، وكمال عدوان في بيروت، الأدباء والناشطين البارزين في حركة “فتح”، ومنظمة التحرير الفلسطينية وبدعوى مشاركتهم في التخطيط لعملية ميونخ في الخامس من أيلول (سبتمبر) العام 1972.
وصولًا إلى العملية الإسرائيلية الثالثة التي جرت في منطق رأس بيروت، واستهدفت أقوى الشخصيات الفلسطينية بعد ياسر عرفات علي حسن سلامة (أبو حسن سلامة) القيادي الفلسطيني البارز المعروف بـ”الأمير الأحمر” الذي وضعته إسرائيل في رأس قائمة الاغتيالات ونجحت بعد سبع سنوات من المطاردة باغتياله بعد ظهر يوم الاثنين الـ 22 من كانون الثاني (يناير) 1979 بواسطة سيارة مفخخة بمئة كيلوغرام من المتفجرات، مركونة إلى جانب الطريق، على خط سيره اليومي من الصنوبرة نحو شارع مدام كوري بواسطة العميلة اريكا ماري تشامبرز التي نُقلت بعد ضغطها على زر التفجير من جونية إلى ميناء حيفا في إسرائيل.
ومن معارك متفرقة على الساحة الجنوبية بين مقاتلي منظمة التحرير الفلسطينية والإسرائيليين منذ العام 1967 وهجومهم المتواصل على المخيمات الفلسطينية المنتشرة على الأراضي اللبنانية، إلى عمليات إسرائيلية واسعة على جنوب لبنان في العام 1978 (حملة الليطاني) و1982 (سلامة الجليل) إذ اجتاحت إسرائيل لبنان وصولًا إلى العاصمة بيروت وانتهت بخروج منظمة التحرير الفلسطينية ومقاتليها من لبنان.
في العاشر من نيسان (إبريل) العام 1973، اغتال جهاز “الموساد” الإسرائيلي القادة الفلسطينيّين الثلاثة: محمد يوسف النجار “أبو يوسف النجار”، وكمال ناصر، وكمال عدوان في بيروت
اجتياح “حملة الليطاني” 1978
كانت “حملة الليطاني” أو “عملية الليطاني” باسم النهر الغزير الذي يقطع جنوب لبنان من شرقه إلى غربه، في آذار (مارس) 1978، أولى حروب إسرائيل المباشرة بمواجهة منظمة التحرير الفلسطينية. استطاعت إسرائيل في هذه الحرب إزاحة قواعد ومواقع المقاتلين الفلسطينيين إلى شمال نهر الليطاني بعمق 10 كيلومترات عن الحدود، وإقامة ما سمّي في حينه “منطقة آمنة” تحت إدارة “جيش لبنان الجنوبي” المؤلف والممول من الجيش الإسرائيلي.
استغرقت هذه الحرب سبعة أيام، ونجم عنها مقتل حوالي 1160 من اللبنانيين والفلسطينيين، وتشريد عشرات ألوف اللبنانيين من قراهم وبلداتهم، في حين لقي عشرون جنديًا إسرائيليًا مصرعهم في هذه الحرب التي استخدمت إسرائيل فيها سلاح الطيران والمدفعية والصواريخ، وتجنبت عمليات الاشتباك المباشر.
انسحبت القوات الإسرائيلية لاحقًا في 1978، لكنها سلمت مواقعها إلى حليفتها ميليشيات “جيش لبنان الجنوبي” التي أسستها ودعمتها بزعامة الرائد سعد حداد. وقد هاجم جيش لبنان الجنوبي اليونيفيل بشكل دوري، وفي 19 أبريل (نيسان) 1978، قصف جيش لبنان الجنوبي مقر اليونيفيل، وقتل 8 من جنود الأمم المتحدة. ومع ذلك لم يطبق الإسرائيليون هذين القرارين الدوليين وأنشأوا في المنطقة حزامًا أمنيًا مخالفًا للقوانين الدولية لحماية المستعمرات الإسرائيلية.
“سلامة الجليل” وغزو لبنان 1982
في الخامس من حزيران (يونيو) العام 1982 اجتاحت إسرائيل لبنان، وكان الظن أن وزير الدفاع الاسرائيلي حينها أرييل شارون سيحتل بجيشه نحو 30 كيلومترًا من الجنوب اللبناني لمنع وصول قذائف المقاومة الفلسطينية إلى مستوطناته. لكن الجميع فوجئ بغزوٍ كبيرٍ للأراضي اللبنانية، إذ احتلت أكثر من ألف دبابة وآلاف من الجنود الإسرائيليين المناطق الجنوبية الحدودية، من بنت جبيل إلى حاصبيا، وصولًا إلى حدود بيروت التي حُوصرت لمدة ثلاثة أشهر قبل أن تنسحب منها قوات منظمة التحرير الفلسطينية بحرًا، لتعود القوات الاسرائيلية وتدخلها وترتكب فيها مجزرة صبرا وشاتيلا الشهيرة.
بعد خروج “المقاتلين” الفلسطينيين من بيروت، لم تترك إسرائيل لبنان بقرار ذاتي وخطة منظمة، ولم تنسحب إلا تحت ضربات “المقاومة الوطنية اللبنانية” المتشكّلة من القوى والأحزاب اليسارية اللبنانية، من ثم “المقاومة الإسلامية” التابعة لـ “حزب الله. وفي تشرين الأول (أكتوبر) من العام ذاته، انسحب الجيش الإسرائيلي من بيروت إلى منطقة خلدة، ومن ثم ليعود وينسحب حتى نهر الأولي مدخل صيدا في العام 1983، حيث بقي هناك حتى العام 1985، لينفذ الانسحاب الأكبر وصولًا إلى ما سمي الشريط الحدودي الذي بقي حتى الإنسحاب الكلي في الـ 25 أيار (مايو) سنة 2000 من جنوب لبنان بعد احتلال دام 23 عامًا، يقدر عديد من سقطوا في خلاله بحوالي 20 ألفًا من اللبنانيين والفلسطينيين وحتى السوريين، بينما قتل للجيش الإسرائيلي قرابة 400 جندي بحسب اعترافاته.
حرب “تصفية الحساب” 1993
شنت إسرائيل أول حرب ضد “المقاومة الإسلامية في لبنان” أو بالأحرى ضد حزب الله، باسم عملية “تصفية الحساب” في تموز 1993، وشملت قصفًا جويًا وبريًا لمناطق جنوب لبنان والبقاع وضواحي بيروت، ودامت سبعة أيام، في محاولة منها لتحجيم قدرات حزب الله.
وقد أدت هذه الحرب إلى سقوط أكثر من 120 لبنانيًا وتهجير عشرات الألوف إضافة إلى خسائر مادية فادحة، في حين لقي 26 جنديًا إسرائيليًا مصرعهم. وانتهت هذه العملية بوساطة أميركية واتفاق شفهي عرف باتفاق “يوليو (تموز) الذي نصّ على منع استخدام صواريخ كاتيوشا من لبنان إلى داخل الأراضي الإسرائيلية من قبل حزب الله.
عناقيد الغضب 1996
في 9 إبريل (نيسان) 1996، قتلت إسرائيل شابًا وأصابت آخرين في الجنوب اللبناني، فردّ حزب الله على هذه العمليّة بقصف مستوطنات “نهاريا” و”كريات شمونة”، وأوقع في عمليته هذه عددًا من الجرحى وفق الإعلام الإسرائيلي، وبعد يومين أغارت إسرائيل على مناطق واسعة من الجنوب، وصولًا ري الضاحية الجنوبية لبيروت موقعة عددًا من الضحايا.
أدت هذه الحرب إلى سقوط أكثر من 120 لبنانيًا وتهجير عشرات الألوف إضافة إلى خسائر مادية فادحة، في حين لقي 26 جنديًا إسرائيليًا مصرعهم
كانت الحرب هذه الرابعة التي شنتها إسرائيل على لبنان باسم “عناقيد الغضب” واستمرت أسبوعين، واستخدمت فيها جميع قطاعات الجيش البرية والبحرية والجوية. وقد ارتكبت إسرائيل في هذه الحرب ما سمي بـ”مجزرة قانا”، التي قتل فيها حوالي مائة شخص وجرح أكثر من 150 آخرين وجلهم من النساء والأطفال والعائلات ممن لجأوا إلى أحد مقرات الأمم المتحدة العاملة في جنوب لبنان (اليونفيل) للاحتماء من القصف. وكان إجمالي ضحايا هذه الحرب 175 قتيلًا و300 جريح، ونزوح عشرات الألوف، إضافة إلى أضرار مادية كبيرة في المنشآت.
يذكر أن هذين الحربين شنتهما إسرائيل قبل انسحابها من جنوبي لبنان وبقاعه الغربي، بشكل أحادي في أيار 2000، تحت ضغط ضربات المقاومة، وفي محاولة منها للتخلص من العبء الأمني والسياسي والاقتصادي الناجم من احتلال جزء من أراض لبنانية، وكاستجابة إلى الضغط الداخلي الإسرائيلي للخروج من هذا البلد.
الحرب الخامسة 2006
أما بعد ذلك فقد أدى انسحاب إسرائيل من جنوب لبنان إلى سحب ورقة المقاومة من حزب الله، فتوقفت عملياته، منذ ذلك الحين إلى لحظة خطف الجنديين الإسرائيليين في 2006 الذي استدرج بدوره حربًا مدمرة شنتها إسرائيل ضد لبنان، حيث دكت مساحات واسعة من الضاحية الجنوبية لبيروت وعديد من البلدات والقرى في الجنوب. كذلك استهدفت الجسور والطرق وشبكات الكهرباء والهاتف والبنى التحتية.
ورد حزب الله على ذلك بقصف صاروخي لمنشآت ومواقع عسكرية ومدنية إسرائيلية وصل مداها للمرة الأولى إلى مدينة حيفا. وقد نتج عن هذه الحرب التي استمرت أربعة أسابيع، مقتل 1300 لبناني وجرح نحو أربعة آلاف معظمهم من النساء والأطفال، إضافة إلى نزوح نحو مليون شخص عن منازلهم وقراهم، إضافة إلى أضرار كبيرة في الاقتصاد.
مجزرة حولا العدوان الأول
في هذا الخضم، لا يمكن تجاهل الاعتداءات المتكررة التي كانت تتعرض لها المناطق الجنوبية منذ احتلال فلسطين في 1948، ومنها مجزرة حولا (مرجعيون) التي ارتكبتها عصابات “الهاغانا” بحق أبناء البلدة وراح ضحيتها نحو سبعين رجلا من مختلف الأعمار. لم تكن مجزرة حولا هي الوحيدة التي ارتكبتها اسرائيل بحق أبناء الجنوب والبقاع الغربي على مدى كل السنين منذ احتلال فلسطين، لكن مجزرة حولا كانت فاتحة المجازر التي ارتكبتها بحق لبنان، وأكبرها من حيث هولها وشكلها ودلالتها وعدد الشهداء الذين سقطوا فيها لقرية، كان عدد سكانها لا يتعدى الـ 1500 نسمة، واستهدافها الشباب والرجال منهم.
تجدر الإشارة إلى أنه أثناء الحرب العربية الإسرائيلية الأولى، خرقت اسرائيل الحدود الجنوبية للبنان ضمن “عملية حيرام”، التي بدأت في 29 تشرين الأول 1948، ووصلت إلى مشارف الليطاني، واحتلت نحو 15 قرية، ووضعت يدها على منطقة تمتد بين الحدود الغربية لإصبع الجليل وبين وادي دوبا، ومن قرية دير سريان على حدود الليطاني في الشمال حتى القنطرة والقصير في الغرب، وميس الجبل وبليدا في الجنوب.
وبعد انتهاء الحرب، انسحبت من المنطقة التي احتلتها، على إثر توقيع اتفاقية الهدنة اللبنانية- الإسرائيلية في رودس يوم 23 آذار (مارس) 1949، وحددت بنود هدنة دائمة، لضبط النزاع بين الطرفين، ونصت الاتفاقية على أن “خط الهدنة يتبع الحدود الدولية بين لبنان وفلسطين”، أي الحدود التي تم تثبيتها في اتفاقية “بوليه- نيوكمب“.
قصف مطار بيروت في العام 1968
نازحون جنوبيون يعبرون نهر الليطاني أثناء أحد الاجتياحات الاسرائيلية (تصوير كامل جابر)
مركبات اسرائيلية مدرّعة في البقاع أثناء عملية سلامة الجليل عام 1982(getty images)
دمار في بلدة الخيام خلال حرب تموز 2006 (تصوير كامل جابر)
تعليقات: