أكثر من 60 سيّدة من الجنسيّة السيراليونيّة وثلاثة أطفال افترشن الكورنيش البحري للرملة البيضاء في بيروت في العراء. معظمهنّ تمّ التخلّي عنهّن من قبل كفلائهن بعد اندلاع الحرب. وإثر اشتداد العدوان الإسرائيلي على بيروت زادت معاناة هؤلاء النسوة وأطفالهنّ، فبعد تعرّض المباني المجاورة للمنزل البسيط الذي تجّمعن فيه للقصف في منطقة الجندولين – الجناح هربن ولم يجدن ملاذًا آمنًا لهنّ سوى الشارع.
للكفيل حقّ الحياة ولهم “دبروا راسكن”
بدون فرش أو أغطية تقي الأطفال الهواء البارد ليلًا، بدون خيم تحميهنّ من أشعّة الشمس، جلسنَ على الرصيف وأعين المارّة تراقبهنّ. عند وصولنا إليهنّ كنّ بحاجة إلى مياه للشرب، وإحدى الطفلتين كان جسدها ورأسها مغطّى ببثور ملتهبة.
تقول الأم جاياتو لـ “مناطق نت”: “هناك بثور على كامل جسد طفلتي ورأسها. منذ شهر بدأت هذه البثور بالانتشار واليوم تفاقم الوضع سوءًا لأنّنا أمام البحر وفي العراء”. جاءت جاياتو إلى لبنان منذ ما يقارب السنة، لم تكن تعلم أنّها حامل في الشهر الثاني عندما وصلت إلى منزل الكفيل، وبعد إجراء الفحوصات لها، تبيّن أنّها حامل، فطردها وذهب بها إلى مكتب استقدام العاملات الذي تركها في الشارع.
التقت جاياتو بـ”أخواتها” من الجنسيّة السيراليونيّة اللواتي تكفّلن بمساعدتها من أجل الاعتناء بطفلتها. فسكنت في منزل معهنّ في منطقة دوار الجندولين-الجناح، وبعد تعرّض المنطقة للقصف هربت جاياتو برفقة أخواتها إلى الشارع.
آدا 28 سنة جاءت إلى لبنان منذ سنتين، تخلّت عنها “المدام” وتركتها في مكتب استقبال العاملات وسافرت مع اندلاع الحرب. في مكتب استقبال العاملات لم يتوفّر الأكل ولا الدواء لآدا، لذا هربت من هناك والتقت بمجموعة من العاملات المهاجرات من سيراليون اللواتي توكّلن برعايتها.
عندما تعرّضت منطقة دوار الجندولين القريبة من الجناح للقصف، هربت آدا مع صديقاتها من المنزل اللواتي كنّ يقطنّ فيه، ولم يجدن سوى الكورنيش البحري ملاذاً لهنّ.
صحّة آدا هزيلة، تعاني منذ فترة طويلة، حين كانت لا تزال في منزل كفيلتها، من سعال مستمّر وآلام في الصدر، ضاعف من أزمتها النوم في العراء على الكورنيش.
تواصلنا ليلًا مع الخط الساخن لمراكز الإيواء الذي أخبرنا أنّه بإمكان العاملات التوجّه إلى مدرسة ابن خلدون في طرابلس. أمنّتُ لجاياتو وسيلة اتصال لأبقى على تواصل مع المجموعة، في اليوم التالي أرسلت لي جاياتو مقطع فيديو يظهر أنّهن نمن على الأرض طوال الليلة في المدرسة التي استقبلتهن، وأنّه لا برّاد لتضع فيه دواء الطفلة. بعد قليل اتصل بي أحد المشرفين في المدرسة وقال لي: “لا أوراق ثبوتيّة لهنّ سنقوم بالاتصال بالأمن العام وإبلاغ السراي، سوف نقوم بإخلائهّن من المدرسة”.
أرسلت لي جاياتو مقطع فيديو يظهر أنّهن نمن على الأرض طوال الليلة في المدرسة التي استقبلتهن، وأنّه لا برّاد لتضع فيه دواء الطفلة. بعد قليل اتصل بي أحد المشرفين في المدرسة وقال لي “سوف نقوم بإخلائهّن من المدرسة”.
أليس من الجنون أن نسأل عن أوراق ثبوتيّة لنساء وأمهّات في ظلّ الحرب مقابل تأمين مكان آمن لهنّ؟!
عادت السيّدات أدراجهن من طرابلس إلى بيروت إلى ساحة الشهداء في بيروت، فافترشن الأرض من جديد. تتصّل جاياتو بزوجها وتبدأ بالبكاء تقول لي: “أختي أنا أريد العودة إلى بلدي أشعر بالقهر أنّي وطفلتي ننام على الشارع ونظرات المارّة لنا قاسية جدًّا. أخبرت زوجي بالأمر هو أيضًا قلق علينا ولا حيلة باليد سوى البكاء والدعاء”.
فاطمة (22 سنة) هي الابنة الوحيدة لعائلتها، جاءت إلى لبنان لتعمل من أجل مساعدة عائلتها. تتواصل مع عائلتها عن طريق صديقاتها تقول لـ “مناطق نت”: “أمّي تبكي طوال الوقت هي قلقة عليّ وأنا لا وسيلة لديّ لأطمئنها عنيّ”. تبكي وهي تردّد: “لا أعلم كيف لي الصمود على الطرقات، آمل أن يصل صوتي لرئيس حكومتنا في سيراليون، أن يعود بنا إلى وطننا، لا نرغب بالمال جلّ ما نرغب به الهرب من هذه الحرب التي نعيشها في الغربة”.
تامي(25 سنة) طلبت من كفيلتها أن تحجز لها تذكرة سفر لتعود إلى أهلها في سيراليون لكنّها رفضت ذلك وسافرت.
تامي لم تعش الحرب في سيراليون، في ذاكرتها قصص الأهل عن الحرب تقول لـ “مناطق نت”: “أخبرتني أمي أنهم في حرب سيراليون هربوا إلى الغابات واحتموا بين الشجر، لا يقارن ما نراه بالحرب في سيراليون أصوات الغارات والقصف ورؤية المباني المهدمّة أمر مخيف”. تضيف تامي: “لقد كنت في المنزل في تمام الساعة السادسة في منطقة الجندولين سمعت صوت القصف اهتّز المنزل بفعل القصف خفت كثيرًا غادرت المنزل الذي كنت أقطن فيه برفقة أخواتي السيراليونيات ولم نجد مكاناً يأوينا سوى الشارع”.
المبادرات الفرديّة وحيدة على أرض الواقع
أندريا الحاج شاهين صاحبة مبادرة فرديّة لمساعدة العاملات المهاجرات، بدأت مبادرتها بعد انفجار مرفأ بيروت واليوم تعمل رفقة مجموعة من أصدقائها على مساعدة العاملات. أمّنت المجموعة مكانًا آمنًا للسيّدات السيراليونيات وأطفالهنّ الثلاثة، وبالتعاون مع مبادرات فرديّة أخرى يتّم تأمين الطعام والحاجيات الأساسيّة لما يقارب 70 عاملة سيراليونيّة.
تقول ديا لـ “مناطق نت” إنّ العاملات المتواجدات في المأوى أغلبهنّ يرغبن بالعودة إلى موطنهم، لذا تعمل المجموعة اليوم وبالتعاون مع الأمن العام اللبناني على تسهيل معاملات عودتهّن إلى بلدهنّ.
أحمد من بنغلادش مضى على تواجده في لبنان 10 سنوات نزح برفقة مجموعة من العمّال/ات البنغلادشيين/ات من مدينة صور بعد تعرّضها للقصف. تدمّر المبنى المجاور لسكن أحمد وزوجته وطفله البالغ من العمر 5 أشهر، فاستقلّوا الدرّاجات الناريّة والباصات للهروب كحال باقي البنغلادشيين. يقول أحمد لـ “مناطق نت”: “على الطريق كان القصف مستمرًّا، خفت كثيرًا على عائلتي صلّيت حتّى نصل آمنين. هي المرّة الأولى التي أزور فيها بيروت لكنّي أريد العودة إلى بلدي”.
أمّنت المجموعة مكانًا آمنًا للسيّدات السيراليونيات وأطفالهنّ الثلاثة، وبالتعاون مع مبادرات فرديّة أخرى يتّم تأمين الطعام والحاجيات الأساسيّة لما يقارب 70 عاملة سيراليونيّة.
بحسب أحمد حاولت المجموعة التواصل مع السفارة لكن لم تتلّقَ أيّة مساعدة، لذا ارتأوا أن يدبّروا أمرهم بأنفسهم، قرّروا أن يستأجروا مكانًا يأويهم جميعاً في منطقة جونية، مقابل أن يدفع كل فرد من المجموعة المؤلفّة من 25 شخصًا مبلغ 15$ شهريًا بالرغم من أنّ معظمهم اليوم بات بلا أي عمل.
تقول الناشطة ليلى عيسى التي تابعت قضيّة العاملات المهاجرات بمبادرة فرديّة لـ “مناطق نت” إنّ هناك العديد من الأفراد الذين يعملون في جمعيّات قد تطوعّوا بمبادرة فرديّة من أجل المساعدة”. مضيفةً: “لمسنا نوعاً من التكافل الاجتماعي على الأرض ولكنّه لم يكن كافيًا من أجل تأمين مأوى للسيّدات. ومن أجل تفادي كارثة أكبر بسبب عدم استقبال المدارس لغير اللبنانيين، على منظمات المجتمع المدني والناشطين/ات أن يرفعوا الصرخة وأن يتعاونوا على إيجاد حلّ خصوصًا في ظلّ غياب تامّ للدولة”.
في اليوم التالي وصلنا نداء أنّ مجموعة من 100 شخص من العاملين/ات البنغلادشيين نزحوا من منطقة حيّ السلّم إلى منطقة بعبدا، وصلنا إلى المبنى الذي يعيشون فيه حيث لا شبابيك لا أبواب ولا مرحاض، مبنى قيد الإنشاء. أكثر من خمسة أشخاص يعانون من مشاكل جلديّة من بينهم طفل.
يقول أحدهم لـ “مناطق نت”: “المجموعة تحتاج إلى الطعام والمياه، البعض منّا مرضى وكما ترين المبنى غير مؤهّل للعيش. بعض الجمعيّات تؤمّن لنا القليل من الحاجيات الأساسيّة لكن عددنا كبير بالكاد تكفي هذه المساعدات وبيننا مرضى”.
هذا قليل من ظلم نظام الكفالة وأثر الحرب على هؤلاء الذي لا حول لهم ولا قوّة، للأسف معظم سفارات وقنصليّات بلادهم لا تسأل عنهم، ومن بعد أن تركهم كفلاؤهم بقيوا وحدهم. المبادرات الفرديّة هي السند لهم اليوم، ولكن إلى متى ستصمد؟ وكم ستستطيع هذه المبادرات على تأمين احتياجات هؤلاء؟
البثور التي تملأ جسد طفلة العاملة جاياتو
النساء السيراليونيات بعد تأمين مركز إيواء لهن بمبادرة فردية من أندريا الحاج شاهين
تعليقات: