شهر على توسّع الحرب: تداعيات على مؤشرات مالية مختلفة

القصف المكثّف لمناطق واسعة من الأراضي اللبناني
القصف المكثّف لمناطق واسعة من الأراضي اللبناني


قبل شهر، مساء يوم الأحد 22 أيلول الماضي، كانت الحرب قد بدأت تتخذ شكلها الحالي، بعدما توسّعت الغارات الإسرائيليّة خارج نطاق الضوابط أو القواعد المألوفة منذ فتح "جبهة الإسناد" في الجنوب. صحيح أنّ إسرائيل استبقت هذه اللحظة بعمليّتي تفجير "البيجر" و"الواكي تاكي" خلال الأسبوع نفسه، ثم باغتيال قادة فرقة الرضوان. إلا أنّ نهاية ذلك الأسبوع كانت اللحظة المفصليّة التي انفجرت بعدها الأمور من جانبين: التهجير الواسع النطاق، والقصف المكثّف لمناطق واسعة من الأراضي اللبناني. على المستوى الاقتصادي، يمكن القول أن ذلك التاريخ يمثّل المنعطف الأهم الذي فُرضت من بعده تحديات ماليّة ونقديّة مستجدة.

خلال الشهر الماضي، ارتسم شيئًا فشيئًا المشهد المالي والنقدي للحرب. في الخارج، ثمّة ترقّب لمرحلة التسوية السياسيّة التي ستعقب الحرب الراهنة، وهو ما ظلّ ينعكس –حتّى بداية الأسبوع الحالي- على أسعار سندات الدين السيادي في الأسواق الدوليّة. وفي الداخل، بدأت تظهر تدريجيًا معالم الضغوط النقديّة والماليّة على ميزانيّة مصرف لبنان، من دون أن يثير ذلك مخاوف جديّة على الاستقرار القائم في سوق القطع. وفي جميع الحالات، ظلّ سعر الصرف مستقرّاً مع تذبذبات محدودة جدًا، وهو ما يعزّز الاعتقاد بأنّ المصرف المركزي سيبقى قادراً على اعتماد سياسة تثبيت قيمة الليرة اللبنانيّة في سوق القطع على المدى المتوسّط، بمعزل عن الضغط الذي طال احتياطاته.


أسواق المال الدوليّة واحتياطات العملات الأجنبيّة

حتّى لحظة افتتاح الأسواق، صبيحة يوم أمس الإثنين، كانت أسعار سندات اليوربوند اللبنانيّة –سندات الدين السيادي بالعملات الأجنبيّة- تواظب على تسجيل ارتفاعاتها المتتالية، وللأسبوع الثالث على التوالي. في النتيجة، بلغ سعر السندات حدود الـ 8.75 سنت للدولار بعد انتهاء تداولات الأسبوع الماضي، مقارنة بـ 8.375 سنت للدولار قبل أسبوع واحد فقط، و6.5 سنت للدولار قبل ثلاثة أسابيع. على هذا النحو، حافظت الأسواق الدوليّة –حتّى هذا الأسبوع- على تفاؤلها بالتسويات السياسيّة التي يتم الحديث عنها، لمرحلة ما بعد الحرب، وبتأثير هذه التسويات على مستقبل السندات ومسار إعادة هيكلة الدين العام.

وتجدر الإشارة إلى أنّ قائمة كبار حملة السندات –من صناديق وشركات ماليّة- تشمل اليوم كل من: غولدمان ساكس، أموندي، أشمور، بلاك روك، بلوباي، فيديلتي، ومصرف HSBC. أمّا تقارير بعض المؤسسات الماليّة الدوليّة، التي حاولت تفسير الإقبال على شراء سندات اليوربوند، فركّزت على ارتفاع احتمالات المضي بالاتفاق مع صندوق النقد، وبالإصلاحات الماليّة المربوطة ببرنامج الصندوق، في حال إضعاف سيطرة حزب الله على السلطة في لبنان.

وكما أشارت "المدن" في أواخر الأسبوع الماضي، شهدت ميزانيّة المصرف المركزي –ولأوّل مرّة منذ بدء الحرب- هبوطًا وازنًا في قيمة احتياطات العملات الأجنبيّة، في النصف الأوّل من تشرين الأوّل الحالي، وبقيمة ناهزت الـ 344 مليون دولار أميركي. ومع مطلع الأسبوع الحالي، اتضحت أكثر مسببات هذا الانخفاض، التي توزّعت ما بين سداد الدفعات الاستثنائيّة الثلاث للمودعين (بقيمة 200 مليون دولار أميركي)، وتسديد رواتب موظفي القطاع العام بالدولار النقدي (بقيمة تناهز الـ 130 مليون دولار أميركي). وعلى هذا الأساس، يمكن القول أن مصرف لبنان قد يضطر لتحمّل الكلفة نفسها مرّة جديدة في مطلع الشهر المقبل، إذا قرّر مصرف لبنان تكرار سيناريو الدفعات الاستثنائيّة للمودعين بنفس الطريقة.

في بورصة بيروت، كان لافتًا انكماش تداولات الأسهم المحليّة، التي انخفضت قيمتها إلى أقل من 3 مليون دولار أميركي خلال الأسبوع الماضي، مقارنة بنحو 8.9 مليون دولار خلال الأسبوع، ما عكس تراجع التداولات بنسبة الثلثين. ومع ذلك، لم تؤثّر هذه التطوّرات على أسعار الأسهم نفسها، التي ارتفعت في المقابل بنسبة ضئيلة، ناهزت حدود الـ 1.7%.


استحقاقات مقبلة

انطلقت هذا الأسبوع في واشنطن الاجتماعات السنويّة لصندوق النقد والبنك الدولي، بحضور آلاف المشاركين من ممثلي وزارات الماليّة والمصارف المركزيّة ومؤسسات المجتمع المدني القادمين من مختلف أنحاء العالم. بطبيعة الحال، لن تتسم هذه الاجتماعات بأي طابع تقريري، ولن ينتج عنها أي مفاعيل مباشرة بالنسبة للبنان. إلا أنّ نقاشات ممثلي المؤسسات الماليّة الدوليّة ستعطي فكرة أوضح بالنسبة لتوقّعاتهم، بخصوص أثر الحرب الراهنة على مآلات الأزمة الماليّة اللبنانيّة. ومن المفترض أن يكون لتعليقات ممثلي صندوق النقد الدولي حساسيّة خاصّة، نظرًا لارتباط مستقبل الأزمة بمصير اتفاق البلاد المبدئي مع الصندوق.

وخلال هذا الأسبوع أيضًا، من المفترض أن تُصدر الجلسة العامّة لمجموعة العمل المالي قرارها النهائي بخصوص تصنيف لبنان على قوائمها، ومن المرجّح أن تخلص المجموعة إلى تخفيض هذا التصنيف إلى "القائمة الرماديّة". المصادر المصرفيّة مازالت تستبعد حتى هذه اللحظة، أن يترك القرار أثرًا مباشرًا على علاقة مصرف لبنان أو المصارف التجاريّة مع النظام المالي الدولي أو المصارف المُراسلة، لكن القرار سيترك أثره حتمًا على المدى البعيد، لجهة كلفة التحويلات أو سهولتها. كما ثمّة تساؤلات جديّة حول أثر هذا القرار على علاقة البلاد مع المؤسسات الماليّة الدوليّة، وسهولة الاستفادة من برامجها. ولهذا السبب، من المفترض أن يترقّب اللبنانيون بعد هذا القرار التعليقات التي ستليه، من جانب الجهات الدوليّة المؤثّرة في المشهد المالي اللبناني.

في الخلاصة، وبعد شهر من اتساع رقعة الحرب في لبنان، لا يزال المشهد المالي والنقدي محكوماً باستقرار ظاهر وواضح، ولو أنّ الحرب بدأت تترك تداعياتها على مؤشّرات مختلفة، ومنها قيمة ودائع الدولة لدى مصرف لبنان. غير أنّ توقّع نتائج الحرب على المدى البعيد، ستحتاج إلى مراقبة هذه المؤشّرات خلال الأسابيع المقبلة، لتبيان قسوة أو خطورة هذه التحوّلات.

تعليقات: