جنبلاط يعكس «قلق» 14 آذار في أيام لبنان الانتقاليّة


هل ينتاب القلق سياسيّي لبنان؟

الامر لا يتصل بالجانب الشخصي أو الجانب الامني، بل في أصل الوجود السياسي والدور، علماً بأن الصيغة اللبنانية التي تحكم بلد العجائب، توفر الملاذ والحصانة والفخار للرابح والخاسر في آن واحد. ومن يصبه ضيق في الاحوال المعيشية أو السياسية او غيرها، يعد خلال دقيقة واحدة الى طائفته وعشيرته فيرجع ملكاً ولو من دون عرش. ولكن بعض التدقيق في متابعة الوضع العام في لبنان الآن، يتطلب أخذ أحد السياسيين نموذجاً. وليد جنبلاط مثلاً، الذي يتّهمه خصومه بأنه متقلب وانتهازي. ويقول عنه الحلفاء إنه صاحب غرض ولكن من معدن أصيل. أما جمهوره اللصيق، فيرى فيه صاحب الخبرة والحكمة وهو الذي يعرف من أين تؤكل الكتف.

جنبلاط اليوم، هو غير ما كان عليه قبل ثلاث سنوات. وبالتالي فإن الواقعية السياسية تقضي حكماً بالتغيير في السلوك السياسي عما كان عليه سابقاً. وإذا ما أراد أحد محاسبته، فعليه أن يأخذ بعين الاعتبار هذه الحقيقة، لا أن يلحق به سائلاً: أين أنت اليوم؟!.

بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، اتخذت جهات دولية وعربية ولبنانية قراراً بتولي جنبلاط قيادة الفريق الذي صار اسمه لاحقاً فريق 14 آذار. ترك له إصدار أمر العمليات اليومي، ومعه تُبتّ المسائل الكبرى والصغرى على حد سواء. وإليه تحج الدبلوماسية العربية والغربية والضيوف، ومن منهله تغرف صحافة 14 آذار على اختلافها، وإليه يعود القرار وبيده المصير. سعد الحريري ليس مؤهلاً في حينه لوراثة أبيه بصورة كاملة، وفؤاد السنيورة وكيل غير مفوّض الصلاحيات. أما سمير جعجع فليس عنده الحصانة الكافية للمشاركة، وهو كان أصلاً يريد من الآخرين إخراجه أولاً من السجن، أما بقية الحضور في الفريق فهم من الذين يسندون الأعمدة في القصور، ولا ناقة لهم ولا جمل، وما عليهم سوى تنفيذ ما يصدر عن السلطان.

يومها كان جنبلاط يقود كل شيء. مجلس الأمن والأمم المتحدة في خدمته، وفرنسا ودول أوروبا الغربية تعمل بما يتناسب وطموحاته. وهو وجد أمامه جورج بوش يضرب يميناً ويساراً. فقرر تقليده، ولكن على طريقته، فجلس وراء مقود سيارة 14 آذار وصار يقودها كما كان يقود دراجته النارية سابقاً. ساعة أراد اقتلاع إميل لحود من بعبدا، وإطاحة بشار الأسد ونظامه من الشام، وطرد السفير الإيراني من بيروت قبل أن تأتي البوارج الاميركية وتعتقل أحمدي نجاد في طهران. فكان سائقاً متهوراً، فصار يصطدم بهذا من جهة وذاك من جهة ثانية، ثم يتقدم قبل أن يعود الى الخلف، حتى باتت سيارته قليلة الفاعلية، الى أن قرّر «الفوتة بالحيط» كما يقال في أيار الماضي. فكانت النتيجة أن السيارة تحطمت وصارت تحتاج الى معاينة شاملة إن لم يكن الى تغيير.. يومها أفاق من معه من الركاب من الصدمة، بعضهم رفع صوته وبعضهم الآخر وقف على الطريق ينتظر سيارة تقله الى أقرب مكان يناسبه، والآخرون ممن تعودوا عليه، وقفوا الى جانبه ينتظرون ما ينوي فعله. أما هو فقرّر عدم الاستعجال، وافق على وضع السيارة في الصيانة، فإذا كانت الامور تستوجب إعادة استعمالها فلا يكون قد خسرها، أما إذا كانت لظروف تقتضي ركوب سيارة أخرى فلا حرج عنده في ذلك.

لكن في هذه الاثناء، وبين صراخ أهل بيروت الذين «أدخلهم جنبلاط في لعبة مجنونة» وأهل الشمال «الذين فوجئوا بانسحابه المبكر» والآخرين من المسيحيين «الذين عادت بهم الذاكرة الى أيام سوداء مضت»، لم يجد جنبلاط أمامه سوى العودة الى البيت، أي الى الطائفة التي حملته بكل ما فيه من أخطاء منذ استشهاد والده، وحتى لا يُتهم هناك بأنه غير مسؤول، بادر الى مصالحة جيرانه من آل ارسلان، وطلب ود أهل القرى المجاورة في بيروت والضاحية، وترك لأصوليين عنده يرفعون صوتهم احتجاجاً في كل صوب، ففي ذلك ما ينفّس بعض الاحتقان الموجود لديهم، وفي ذلك ما يجعل خصومه من الطوائف الاخرى يقارنون بينه وبين هذه المجموعات على أمل القول إنه الافضل «واللي بتعرفو أحسن من الجديد».

إلا أن كل ذلك لم يكن ليكفي حتى تحقيق النقلة النوعية التي يحتاج إليها، لأنه في انتظار ما سوف تؤول إليه أحوال العالم بعد وصول الانتخابات الاميركية، وما سوف تكون عليه أوروبا والعواصم العربية والغربية، وكيف ستستقر صورة سوريا في المنطقة، وما سيحققه المصريون في محاولة تقطيع الوقت الضائع في لبنان بسبب الانسحاب الاميركي من جهة والعجز السعودي من جهة ثانية، قرر في هذه الفترة الانتقالية التحضير للانتخابات النيابية بأقل الخسائر وبأقل درجة من التوتر. وبعد تقسيم لبنان الى أقضية، بدأ يشعر بخطر ميشال عون بين المسيحيين وصار يقول عنه «ها قد أتانا كميل شمعون الجديد»، وسوف يحتاج الصوت السني في إقليم الخروب والبقاع الغربي. وحتى لا يغامر بكل شيء، لا بأس من استمرار العلاقة ولو على مضض مع مسيحيي 14 آذار، حتى إذا مرّت هذه المرحلة الرمادية، تجده يقف على أعتاب مرحلة جديدة، لها عناوينها ولها رجالها. أما بشأن دمشق، فهو يواصل البعث بالرسائل التي يراها مفيدة، لكنه لن يغضب السعودية عشية الاستحقاق الانتخابي. وبذلك يكون جنبلاط، حسب اعتقاده، قد وفر ما أمكنه من حصانة لفترة انتقالية.

لكن من قال إنه ليس بيد المعارضة أوراق تنفع لقلب الامور رأساً على عقب قبل حلول موعد الانتخابات؟

تعليقات: