سفر الخروج من الجنوب: العودة أصعب

مشاهد الدمار في الجنوب ستبقى في الذاكرة (علي علوش)
مشاهد الدمار في الجنوب ستبقى في الذاكرة (علي علوش)


تتراكم مشاهد الحرب فوق بعضها، فيصعب عليّ انتقاء أحدها والتمعّن بتفاصيله. تصبح المشاهد أثقل مع مرور الأيام التي باتت تشبه بعضها البعض. فالكثير من المشاهد مَرَّت على مدى شهر، وكلّ مشهدٍ يحمل تفاصيل وتفرّعات ونتائج، وبعضها كان دافعاً لاتخاذي قراراً عوضَ آخر.

بعد شهر من خروجي القسريّ من قريتي "معركة"، أفشل في محاولة ترتيب الذكريات. فلا أولوية هنا لحدث دون آخر. لكنّي أنجح في اختصار المعاناة بكلمة واحدة، هي "الخروج" الذي لن تُمحى آثاره للأبد.


خروج وسط الغارات

يوم الإثنين 23 أيلول 2024 خرجت من كلّ شيء، حتى من دائرة الوقت الذي فَقَدَ سلطته عليّ مذ لم أعد أربط أفعالي به. فلا داعي الآن لتحديد موعد النوم أو الاستيقاظ أو وقت الرياضة والعمل... فآخر أهمية للوقت كانت في ذلك اليوم عند الساعة السادسة والنصف صباحاً، حين أشارَ ابني "جاد" من شبّاك غرفته إلى الدخان المتبقّي من غارة إسرائيلية على تلّة مقابل منزلي. اعتقدت حينها أنها جولة روتينية من جولات العدوّ التي اعتدناها على مدى عام.

غارة أخرى، فثالثة ورابعة كانت تقترب في جغرافيا التضاريس الجميلة بين ثلاث قرى متلاصقة. غارات كانت كافية لأتخذ قرار عدم الذهاب إلى بيروت لحضور الاجتماع الأسبوعي المعتاد لأسرة جريدة "المدن". فاعتقدت أن هذا اليوم قد يكون صعباً، وعليّ البقاء مع عائلتي.

الغارات المتفرّقة تحوّلت إلى حزام ناريّ متواصل زنَّرَ وديان القرية ومحيطها... إلى هنا، الوضع لا يزال مقبولاً بالنسبة لي. نزلت عن سطح المبنى بعد أن وثّقت بالفيديو مكان حصول الغارات وأنا أطمئن زوجتي إلى أن لا شيء يستدعي مغادرة القرية. وكذلك طمأنتُ أمّي التي اتصلت بي تحثّني على المغادرة لحماية طفلَيَّ...

حاولت متابعة كتابة تقرير للجريدة يتحدّث عن اختراق العدوّ لشبكة الاتصالات اللبنانية، ودعوته المواطنين لمغادرة بيوتهم والابتعاد عن ما يسمّيه العدو "مراكز ونشاطات حزب الله". جمعت المعلومات المطلوبة، لكنّ اهتزاز المنزل ووصول الغبار إليه، أوقفَ كتابتي. إنها الغارة الإسرائيلية الأولى التي تستهدف منزلاً في القرية. ذهبت لأتفقّدَ مكان الغارة كالكثير من الأهالي، لكنّي عكست اتجاه السيارة فجأة نحو محطّة المحروقات، فملأت خزان الوقود كاملاً وكأنَّي أرتّب لرحلة الخروج مسبقاً. رحلة ستستغرق أكثر من 12 ساعة بقليل للوصول إلى مدينة صيدا، على وقع انقطاع الاتصالات حيناً وغارات تستهدف منزلاً أمامنا وآخر وراءنا، وغارات أبعَد لا نراها لكننا نشعر باهتزاز الأرض وموجات الهواء إثرها، والكثير من صراخ الأطفال ودموع النساء الموزّعات على طوابير السيارات الهاربة من الموت، الذي تلوّح به الطائرات الحربية وطائرات الاستطلاع الصهيونية.


طريق طويل

ملتزماً دوري في صفّ السيارات المتنقّل ببطء نتيجة الازدحام، أحاول التخفيف من توتّر طفلتي "سيليا"، التي ترتجف كلّما سمعت صوت غارة أو خرق طائرة لجدار الصوت. وأعترف أنّي فشلت، فلا الإقناع بأن الصوت بعيد ولا يُخيف، ولا الأغاني التي اعتادت سماعها كانت مفيدة تلك اللحظة.

ينظر جاد الذي يقترب من سنته السابعة نحو سيليا التي تقترب من عامها الرابع، ويحاول تفهّم خوفها، وهو المعاند لخوفه الطبيعي. ينظر خارج السيارة محدّقاً بما تقع عليه عيناه، وسألَني ما إذا كان هذا المشهد مشابهاً لمشهد خروجنا من الجنوب أثناء حرب تموز 2006. انتبهت حينها إلى الفارق الهائل بين مرحلتين تفصلهما نحو 18 عاماً. في تموز لم نخرج بازدحام السيارات، ولم أكن أباً يحاول النجاة بعائلته باتجاه المجهول، بل كنت ثائراً رافضاً الخروج من قريتي متحدّياً قرار والدَيَّ، لكنّي أيضاً فشلت، فأولوية الأهل حماية أولادهم.

ثقب في إطار

في ازدحام السيارات رأيت نكبة الفلسطينيين في العام 1948. رجال ونساء وأطفال حملوا ما أمكنهم سريعاً وهربوا، وبعضهم لم يجد وقتاً لحمل قطعة ثياب. لكن بين المشهدين فارقاً تكنولوجياً جعلت هروبنا أكثر راحة. وفي زحمة الأفكار والمشاعر، تصبح حركة السيارة أثقل، ويعلو صوت من ناحية الإطار، فأعرف أنه ثُقِب، والوقت غير مناسب لمثل هذا الحادث، سيّما وأنّي لا أملك كل المعدّات اللازمة لاستبداله بالإطار الاحتياطي. اقترضت ما ينقصني من سيّدة تقود سيارة كسيارتي، ورفضت انتظاري لتستعيد معداتها، وفضّلت تركها معي واستغلال وقتها للهروب مع طفلها.

حلّ عقدة نقص المعدّات لم يسعفني في تخطّي عقبة الإطار الاحتياطي الذي كان مثقوباً ثقباً صغيراً غير مرئيّ، وهو في الأصل أصغر من الإطارات الأصلية. وعوضَ السير نحو الطريق السريع للخروج من دائرة الخطر، بتّ أبحث عن مكان لإصلاح الإطارات، وكلّي أمل بأن تكون محطة المحروقات البعيدة نحو 300 متر، لا تزال تقدّم خدماتها. فأصبت بخيبة أمل وازداد القلق عندما وجدتها مقفلة، فغيّرت وجهتي نحو محطّة أخرى في منطقة "القاسمية" على الطريق الساحلي، وكانت هي الأخرى مقفلة. وهناك، كان الإطار الاحتياطي يُحتَضَر، وبدأت بالبحث عن احتمالات الاتصال بمَن يمكنه حمل عائلتي نحو صيدا ريثما أجد حلاً لمشكلة الإطار. وفكرة أخرى خطرت في ذهني، بأن يحضر أحدهم من القرية إطاراً مشابهاً لإطار السيارة. لكن أنقذني سائق سيارة أجرة كان ينتظر عائلته عند المحطّة، إذ كان عائداً من بيروت وعلق في ازدحام السيارات، وفضَّلَ انتظار عائلته التي خرجت مع أحد أصدقائه.

كان سائق الأجرة يملك منفخاً للهواء، جعلَ الإطار يسير لمسافة أبعد. فنصحني بالتزام الطريق الساحلي، علّني أجد محلاً لإصلاح الإطارات، وهذا ما حصل فعلاً. وبكلفة ما يقارب الدولارين تمكّنت من متابعة طريقي باتجاه صيدا التي وصلتها عند نحو الساعة الثانية والنصف فجر يوم الثلاثاء، فعدلت عن إكمال المسير نحو بيروت، إذ كانت المعلومات الواردة من الذين فضّلوا إكمال مسيرهم، تشير إلى حاجتنا لنحو 12 ساعة أخرى على الأقل. فأخذنا استراحة في المدينة، كانت ضرورية لإيجاد شيء نأكله. لنتوجّه بعدها إلى منزل صديقي في بلدة "القرَيّة" في شرق صيدا، حيث سنبقى هناك نحو ثلاثة أسابيع في منزل عبارة عن غرفة نوم وصالون وحمّام واحد، استأجَره قبل نحو ثلاثة أشهر ليكفيه هو وزوجته وطفلهما. نعم يكفيهم لكنه لن يكفي 11 شخصاً، اضطرّ 8 منهم للوصول على عجل.

بعد شهر من الخروج، لا زلت عالقاً في الجنوب. فكلّ شيء صعب، من تجربة الخروج إلى التفكير بالعودة التي لا تزال أصعب.

تعليقات: