البطالة تجتاح البقاع والنزوح يفاقمها


قد تكون البطالة الناتجة عن تعطّل القسم الأكبر من حركة الاقتصاد في لبنان، إحدى أخطر التداعيات المباشرة للعدوان الإسرائيليّ المستمرّ منذ سنة ونحو شهرين، لكن ما يفاقم مأساة ومعاناة العاطلين من العمل أنّهم نازحون عن مناطقهم التي خسروا فيها أعمالهم، والأصعب أنّهم لاجئون في مراكز إيواء.

تتركّز النسب الأعلى للبطالة في المناطق التي تتعرّض للعدوان، وتحديدًا في الجنوب وضاحية بيروت الجنوبيّة والبقاع، حيث المصالح معطّلة وحركة الاقتصاد مشلولة، والنزوح هو المشهد الذي يفرض نفسه بقوّة على إيقاع الحياة، ومعه بات هؤلاء النازحون عالقين في دائرة معاناة مزدوجة، يجاهدون لتأمين أبسط احتياجاتهم وسط أزمات متلاحقة تضرب لبنان؛ ممّا يثير تساؤلات ملحّة حول قدرة السياسات المحلّيّة والدوليّة على احتواء هذه الأزمة.


فقدان العمل أو الحياة

في ظلّ العدوان الذي يعصف بالبقاع ويمزّق أوصال بلداته، تعيش عديد من الأسر البقاعيّة لحظات عصيبة، تكافح فيها بين نيران الحرب وقيود النزوح وقسوة الفقد. إسراء الرشعيني من بلدة سرعين، صاحبة معهد خاص صغير قريب من منزلها، كانت تجمع فيه أكثر من عشرين طالبًا لمساعدتهم في دراستهم بعد انتهاء دوامهم المدرسيّ. تروي إسراء كيف فقدت معهدها نتيجة الغارات العنيفة التي أجبرت الطلاب وذويهم على النزوح، كما نزحت هي مع أسرتها إلى مدينة زحلة، التي تعتبر أكثر أمانًا من بقيّة مناطق البقاع.

تؤكّد إسراء لـ “مناطق نت” أنّ “مهنة التعليم اليوم تواجه تحدّيات غير مسبوقة، سواء في القطاع الرسميّ أو الخاص، بسبب استمرار العدوان والمخاوف من تصعيد يشمل مناطق لبنانيّة أخرى، ما يزيد من حالة القلق والغموض يومًا بعد يوم”.

آلاف النازحين في البقاع يواجهون أوضاعًا مأسويّة تتجاوز كلّ توقع، بعد أن فقدوا مصادر رزقهم ومستقبل عائلتهم جرّاء العدوان الذي استهدف قراهم ومناطق عملهم، وبينما يتحوّل الشتاء القارس إلى عدوّ آخر يثقل كاهل هذه العائلات في مراكز الإيواء الموقّتة، يبقى مصير هؤلاء النازحين مجهولًا، يكتنفه سؤال مُلحّ: هل من بصيص أمل بعودة حياتهم إلى سابق عهدها، أم أنّ الحرب ستلقي بظلالها القاتمة على مستقبلهم؟


من العمل إلى مراكز الإيواء

ألحقت الغارات العنيفة على بلدة حارة الفيكاني في البقاع، أضرارًا جسيمة بحقّ منزل عبّاس صيدح، الذي خسر عمله كمندوب مبيعات حرّ. يقول لـ”مناطق نت”: “قبل توسّع الحرب كنت أجول بسيّارتي عبر بلدات بعلبك- الهرمل، من إيعات مرورًا بمقنة ورسم الحدث واللبوة وصولًا إلى الهرمل، وهي اليوم بلدات منكوبة نتيجة العدوان، إذ تعرّضت معظم محلّاتها ومؤسّساتها التجاريّة إلى أضرار جسيمة، وتوقّفت فيها أوجه الحياة الاقتصاديّة بالكامل”.

صيدح الذي فقد عمله منذ نحو شهرين، يقيم الآن مع عائلته في مدرسة رياق الفنية الرسمية، التي تحولت إلى مركز لإيواء النازحين. وقد أصبح يعتمد على دعم السلطات المحلية والمساعدات المحدودة التي تقدمها لمراكز الإيواء.

يشير صيدح إلى “كوني مندوب مبيعات حرّ، ولست موظفًا لدى أيّ مؤسّسة، فأنا بحاجة إلى رأس مال للعودة إلى عملي، حتّى لو انتهت الحرب غدًا. لقد فقدت رأسمالي بسبب مصاريف النزوح، وسيّارتي التي كنت أستخدمها في توزيع البضائع تضررت أيضًا. لم يعد بإمكاني العودة إلى مهنتي حتّى بعد انتهاء الحرب”.


تتركّز النسب الأعلى للبطالة في المناطق التي تتعرّض للعدوان، وتحديدًا في الجنوب والضاحية والبقاع، حيث المصالح معطّلة وحركة الاقتصاد مشلولة، والنزوح هو المشهد الذي يفرض نفسه بقوة على إيقاع الحياة


تختلف أوضاع موظّفي القطاع العام عن أصحاب المهن الحرّة؛ فموظّفو القطاع العام لا يزالون يتقاضون رواتبهم بغضذ النظر عن حضورهم إلى العمل، في حين يتأرجح وضع موظّفي القطاع الخاص بحسب تواجد مؤسّساتهم. أمّا أصحاب الأعمال الحرة في مناطق العدوان، فقد باتوا جميعهم عاطلين من العمل، كما أكّد صيدح.


خسائر فادحة

في مدرسة رياق الفنّيّة التي تحوّلت إلى مركز إيواء. يتحدّث عبد الكريم الأشهب، وهو من ذوي الإعاقة عن فقدانه مصدر رزقه مع زوجته وابنه، إذ كانوا يملكون ميني ماركت متوسّطة الحجم في بلدتهم علي النهري في البقاع، وأجبروا على إغلاقها إثر الغارات الإسرائيليّة. يقول الأشهب لـ “مناطق نت”: “في البداية كان هاجسنا ألّا تتعرّض البضاعة للتلف، نظرًا إلى الإقفال وعدم بيعها، لكن حين تعرّض الحيّ للغارات العنيفة قضت على كلّ شيء في المتجر”.

قصّة عبد الكريم الأشهب وعائلته النازحة هي نموذج لهول المآسي التي يعيشها سكّان البقاع، فيما يبقى “المجهول” يؤرّقهم ويقضّ مضاجعهم وينتظرونه بقلق: هل هناك من سيعوّضهم بعد انتهاء الحرب؟ وهل هذه الحرب ستنتهي أصلًا؟


جراح فوق جراح

في ظلّ استمرار العدوان اليوميّ وتصاعده، تبقى مسألة إحصاء الأضرار وإجراء مسوحات شاملة للمباني والمؤسّسات والمحال التجاريّة وغيرها أمرًا بالغ الصعوبة، يعيقه استمرار الغارات الإسرائيليّة من جهة وضعف الإمكانات التي يستوجبها هذا العمل من جهة أخرى.

في خضمّ هذه الأوضاع، يرى الخبير التنمويّ أديب نعمة في حديث لـ”مناطق نت”، “إلى أنّ أزمة التشغيل في لبنان تتجاوز مسألة البطالة التقليديّة لتشمل أبعادًا أكثر تعقيدًا. من أبرز هذه الأبعاد حجم القوى العاملة ومدى استغلالها، إذ يعاني لبنان من فجوة كبيرة بين الحاجة إلى الأيدي العاملة وقدرة السوق على استيعابها. كذلك فإن شروط العمل تلعب دورًا جوهريًّا، إذ إنّ جزءًا كبيرًا من القوى العاملة تعمل في ظروف غير مهيكلة تفتقر إلى الضمانات الأساسيّة”.


موظفو القطاع العام لا يزالون يتقاضون رواتبهم بغض النظر عن حضورهم للعمل، في حين يتأرجح وضع موظفي القطاع الخاص حسب تواجد مؤسساتهم. أما أصحاب الأعمال الحرة في مناطق العدوان، فقد باتوا جميعهم عاطلين عن العمل

ويعرض نعمة لمعدّل البطالة قبل الحرب إذ تشير الأرقام إلى أنّ منطقة البقاع، بما فيها بعلبك الهرمل، شهدت نسب بطالة مرتفعة للغاية. ففي العام 2019، بلغت النسبة البطالة 46 في المئة في البقاع الأوسط و43 في المئة في بعلبك الهرمل. أمّا في العام 2022 فبلغت النسب في البقاع الأوسط 42 في المئة، وفي بعلبك الهرمل 44 في المئة.

ويشار نعمة إلى أنّ “العمالة غير المهيكلة تشكّل تحدّيًا آخر يفاقم الأزمة. ففي العام 2022، بلغت نسبة القوى العاملة في هذا النوع من العمل 62 في المئة على المستوى الوطنيّ، مع توقّعات بأن تكون النسبة أعلى في المناطق الريفيّة مثل البقاع، حيث يُعتقد أنّها تجاوزت الـ 72 في المئة”.


تداعيات الحرب الأخيرة

في شأن الحرب الحاليّة يرى نعمة أنّها أضافت طبقة جديدة من التعقيد إلى أزمة التشغيل. “فقد تسبّب تدمير المنازل والبنى التحتيّة وفقدان عديد من اللبنانيّين مصادر رزقهم، في أشكال جديدة من البطالة لا يمكن إحصاؤها حاليًّا بدقّة. إلى جانب ذلك، ساهم النزوح الداخليّ، الذي بلغ مستويات غير مسبوقة في بعض المناطق، في تضخيم التحدّيات الاقتصاديّة والاجتماعيّة”.

عن اليوم التالي، وهو ما يبقى هاجسًا أساسيًّا لمرحلة ما بعد الحرب، يعلّق نعمة “إن مرحلة ما بعد الحرب الحاليّة لن تكون مشابهة لما جرى بعد حرب العام 2006، حيث تدفّق الدعم الدوليّ آنذاك وساهم في إعادة الإعمار”. أمّا في الوضع الحاليّ فيشير نعمة إلى أنّه “من المتوقّع أن تزداد معدّلات البطالة بشكل أكبر، مع استثناءات بسيطة يمكن أن تأتي من عمليّات إعادة الإعمار إذا تمّ استغلالها في توظيف السكّان المحلّيّين بدلًا من الاعتماد على شركات المقاولات الكبرى”.

يرى نعمة “أنّ الأزمة اللبنانيّة الراهنة لا يمكن حلّها بمعزل عن إعادة بناء مؤسّسات الدولة، إذ إنّ انهيار القطاع التعليميّ والصحّيّ، بالإضافة إلى أزمات النزوح والتدمير الواسع، يجعل من الحلول الجزئيّة أمرًا غير كافٍ”. يختم نعمة “إنّ الحلّ يجب أن يكون شاملًا، بحيث يعالج آثار الحرب إلى جانب المشكلات المتراكمة منذ ما قبلها، من خلال تفعيل مؤسّسات الدولة وتنفيذ سياسات اقتصاديّة واجتماعيّة مستدامة”.


عن دور بمواجهة البطالة

تُحاول “جمعيّة تعايش وإنماء” إشراك النازحين في أنشطتها الإغاثيّة في مناطق البقاع وبعلبك الهرمل، وسط تحدّيات متزايدة تواجه الفئات الأكثر ضعفًا، إذ تعمل الجمعيّة حاليًّا مع 40 مركز إيواء، تغطّي من خلالها احتياجات ما يقارب 6000 نازح، مع تقديم 6000 وجبة يوميًّا، وسط توقّعات بزيادة الأعداد في الأسابيع المقبلة.

يؤكّد رئيس الجمعيّة محّمد سعدالله صلح لـ “مناطق نت”: “أنّ الجمعيّة تسعى إلى تعزيز مشاركة النازحين في مشاريعها من خلال إشراكهم في عمليّات الطبخ ضمن مراكزها التي تتوزّع في مناطق عدّة، ومنها مطابخ في كلّ من زحلة وبعلبك وعرسال حيث تعمل فيها أعداد من النازحين”. يتابع صلح: “تستعدّ الجمعيّة لإطلاق خمس مطابخ جديدة داخل مراكز الإيواء، تعتمد بالكامل على النازحين المقيمين في هذه المراكز، إلى جانب تأمين الطعام، حيث تهدف هذه المبادرة إلى توفير دخل مادّيّ للنازحين العاملين في هذه المطابخ، يساهم في التخفيف من الأزمة الماليّة التي يعاني منها”.

“يُنشر هذا التقرير/التحقيق/ التحقيق المصوّر بالتعاون مع المنظمة الدولية للتقرير عن الديمقراطية DRI، ضمن مشروع الأصوات المستقلّة: دعم صناعة المحتوى المبتكر والمتمحور حول المواطنين والمواطنات في الإعلام اللبناني“.

معهد رياق الفني الذي تحوّل إلى مركز نزوح
معهد رياق الفني الذي تحوّل إلى مركز نزوح


تعليقات: