هناك خرائط رسمية تؤكّد أن حدود لبنان البحرية تمتد جنوباً إلى ما بعد الخط 29 (getty)
شَكَّلَ ملف ترسيم الحدود البحرية بين لبنان والعدوّ الإسرائيلي، في العام 2022، محطّة مفصلية استُنِدَ عليها للبدء بالتنقيب عن الغاز. لم تنجح المساعي، إذ لم تجد شركة توتال الفرنسية التي تقوم بعملية التنقيب، سوى الماء وصخرة اصطدمَت بها ومنعتها من استكمال حفر البئر في البلوك رقم 9. ومع اندلاع الحرب مطلع تشرين الأول 2023، بدأ الحديث عن التنقيب يبرد شيئاً فشيئاً.
ثم عاد الحديث عن اتفاق الترسيم ونتائج عملية التنقيب بفتور، مع تصاعد مؤشّرات التوصّل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار. فهل يُلغى الاتفاق أو يُعَدَّل أم يستكمل لبنان عملية التنقيب وينتظر نتائج غير مضمونة؟.
أصوات غير رسمية
لم يكن اتفاق الترسيم مرحّباً به على المستوى الشعبي في لبنان، على عكس موقف الجهات الرسمية وموقف حزب الله الذي يعتبر نفسه حارساً للحدود. فالاتفاق خلص إلى أن حدود لبنان البحرية هي الخط 23 في حين أن وفد الجيش اللبناني المفاوض، طالبَ بالخط 29. ومع انطلاق الحفر في البلوك 9 وبروز الذرائع حول عدم وجود الغاز، انتهى الأستاذ الجامعي والنقابي عصام خليفة، الخبير في ملف الترسيم، إلى وجود قرار سياسي بـ"خيانة حقوق الوطن".
عدم الترحيب الشعبي لبنانياً قابله مطالبة وزير الشتات الإسرائيلي عميحاي شيكلي، بأن يتضمَّن اتفاق وقف إنهاء الحرب على لبنان "إلغاء اتفاق ترسيم الحدود البحرية"، معتبراً أن دخول حزب الله على خطّ المعركة في 8 تشرين الأول 2023، هو "انتهاء بشكل صارخ للاتفاق"، ولذلك رأي شيكلي أن هذا الاتفاق "يجب أن يلغى في أي تسوية محتملة". ومع ذلك، يبقى الرفض غير رسمي، إذ لم يصدر بقرار عن جهات رسمية من الطرفين. وعلى المستوى اللبناني، أكّدت مصادر في وزارة الطاقة على أن "الكلام عن إلغاء الاتفاق ليس كلاماً رسمياً".
الحديث عن إلغاء الاتفاق ليس بهذه السهولة. ووفق ما يقوله خليفة لـ"المدن"، فإن تصريحات بعض المسؤولين الإسرائيليين المتعلقة بإلغاء الاتفاق، لا يمكن تنفيذها على الأرض لأن "القانون الدولي يقول بأن على الدولتين الموقِّعَتين للاتفاق، الموافقة معاً على إلغائه، وليس إلغاؤه من جانب واحد".
ومع أنّ إلغاء اتفاق الترسيم لم يُبحَث رسمياً، إلاّ أن خليفة لا يستبعد أن يكون لدى العدوّ نية لإلغاء الاتفاق كمقدّمة لإعادة التفاوض بهدف الحصول على أطماع إضافية، خصوصاً وأن العدوّ كان طالبَ سابقاً بالخط رقم 1. ولا تخفى مثل هذه النوايا عن العدوّ، إذ يسعى اليوم للحصول على مكاسب برية من خلال توغّله البرّي داخل الحدود اللبنانية وتفجيره وجرفه للقرى الحدودية، انطلاقاً من رغبته بإنشاء منطقة عازلة، ناهيك بأطماعه التاريخية ورغبته بالحصول على كامل منطقة الجنوب اللبناني وصولاً إلى نهر الليطاني. ويعتبر خليفة أن أطماع العدوّ بالبحر لا زالت قائمة.
التنازل مجاناً للعدوّ
أمام عدم البحث الجدّي في إلغاء اتفاق الترسيم، ترى مصادر متابعة للملف، أن "النقاش الأساسي لم يعد حول نصّ الاتفاق، أو حول انسحاب لبنان أو إسرائيل منه، لأن هناك ما هو أعمق من ذلك، ويتمثَّل بالتنازل المجاني للعدوّ عن ثروتنا. فبمجرّد إجراء الترسيم والاتفاق عليه مع العدوّ، يعني ذلك الاعتراف بدولة العدوّ أولاً، ومن جهة أخرى الاعتراف بحقّها بأخذ ثروتنا". وتقول المصادر في حديث لـ"المدن" إن الحلّ الأفضل هو "عدم الترسيم وترك المنطقة متنازعاً عليها لتبقى معلَّقة ولا يستفيد منها العدوّ بشكل رسمي".
أما القول بأن العدوّ لا ينتظر اتفاقات رسمية، وبأنه يسرق الغاز قبل الاتفاق مع لبنان "فهذا أمر صحيح، ولهذا السبب كان على لبنان عدم توقيع الاتفاق، فالعدوّ سيسرق الغاز ولبنان في الحالتين لم يستفد من ثروته، لكن الفرق أن لبنان عبر الاتفاق، أعطى إذناً رسمياً للعدو بالتنقيب، في حين كان يمكن ترك التنقيب الإسرائيلي بمثابة سرقة".
مع الإشارة إلى أن العدو يسرق أيضاً حقل كاريش الذي يقع داخل المياه اللبنانية، إذ أن المصادر وخليفة يتّفقان على أن حدود لبنان البحرية تمتد جنوباً إلى ما بعد الخط 29، وهناك خرائط رسمية تؤكّد ذلك.
لا ضمانات لاستخراج الغاز
إعادة الاتفاق وتغيير بعض بنوده "لا يقدِّم ولا يؤخِّر" بحسب المصادر، لأن "السرقة وقعت وتواطؤ السلطة السياسية في لبنان أصبح قائماً". وبالتالي، فإن الخطوة الأهم في هذا السياق، هي "استغلال ثروتنا بطريقة صحيحة"، على حدّ تعبير خليفة الذي يؤكّد على أن استغلالنا لثرواتنا هو ردّ على إسرائيل، سيّما وأننا "نملك مخزوناً من النفط والغاز يفوق بنحو 3 مرات ما هو موجود في المياه التي تسيطر عليها إسرائيل". لكن الاستغلال الإيجابي "يحتاج لمسؤولين حقيقيين يديرون الملف لصالح الدولة وليس عن طريق تأسيس شركات خاصة للاستفادة ممّا يمكن استخراجه".
حتى اللحظة، التنقيب في البلوك 9 متوقّف بسبب الحرب، لكن إنهاءها لا يعني بالضرورة الوصول إلى نتائج إيجابية إذا ما استُؤنف التنقيب بعد الحرب. فالذرائع التي قدّمتها شركة توتال لتبرير عدم الوصول إلى الغاز، مقبولة من جانب السياسيين اللبنانيين. فالشركة الفرنسية أعلنت في أيلول 2023 أنها لم تستطع مواصلة الحفر بسبب اصطدامها بصخرة، ما دفعها لتغيير موقع الحفر "بمسافة إجمالية قوامها 31.7 متراً" لتفتتح بذلك موقعاً ثانياً للحفر (راجع المدن). وبعد أقل من شهر أعلنت أنها لم تجد غير الماء في الموقع الثاني، علماً أنها وصلت إلى عمق 3900 متراً، فيما كان من المفترض استمرار الحفر إلى عمق 4400 متر. (راجع المدن).
التسليم بما قالته توتال، بالإضافية إلى مضامين الوثيقة السرية بين توتال وإسرائيل (راجع المدن)، والموافقة اللبنانية على الترسيم المجحف وعدم تحريك "القضاء اللبناني للدعوى التي قدّمتها جمعية "حقوق حدود لبنان بالبرّ والبحر" التي بيَّنَت مخالفات اتفاق الترسيم للدستور والقوانين"، بحسب خليفة، كلّها مؤشّرات تدلّ على عدم وجود ضمانات بالاستفادة من الثروة اللبنانية. ولذلك، يطالب خليفة بـ"تحميل المسؤوليات لأصحابها".
تعليقات: