بلدة دير القمر هي بلدة الامراء المعنيين وهي من أغنى البلدات تراثًا وتاريخًا
يطرح الدكتور فؤاد أبو زكي في كتابه: المعنيون من الأمير فخر الدين الثاني المعني إلى الأمير سلطان الأطرش المعني التنوخي (554 صفحة) خلاصة ما توصّل إليه من تمحيص لتاريخ الأمراء المعنيين ولآل الأطرش معاً.
كان الدكتور فؤاد أبو زكي قد أثار فضولي قبل زمن، عندما قرأت مقالة له في إحدى الصحف اللبنانية تنبئ بأن ذريّة المعنيين لم تمت، وهي مستمرّة حتى الآن. وكنت أسأل نفسي هل هذه خرافة أم حقيقة؟.
أثارت قراءة المقال المذكور فضولي برغم حذري المفرط تجاه العنعنات العائلية وأصولها الشريفة، لأنّ القناعة التي لازمتني طيلة حياتي هي ، كما يقول الشاعر:
» لا تقل أصلي وفصلي أبداً إنّما أصل الفتى ما قد حصل«.
كما أن تجربتي الأكاديمية أثبتت لي أنّ المشرقيين مصابون بمرض الاستعلاء، ويستهويهم إدعاء النبالة. فلا أحد إطلاقاً يقبل أن يكون قد خرج من عامة الشعب بل الجميع قد تحدّروا من الأصول النبيلة والشريفة.
شغلت مسألة عدم انقراض المعنيين بال الدكتور فؤاد أبو زكي، فلم تمرّ عنده مرور الكرام ولم يقف عند حدود التلميح إلى فرضية استمرار الذريّة المعنية في مقال يتيم، بل سعى للبحث عن ذلك في لبنان وسوريا. وهذا ما قاده للتعمّق في مصادر ومراجع المعنيين وقراءة غالبية ما وقع عليه في اللغة العربية منها. ولربما، كان وفّر على نفسه عناء البحث عن هذا الموضوع في غياهب التاريخ لو أنّه اختار طريقاً جديداً مخبرياً مختصراً ومضمون النتائج، هو طريق علم الاحياء عبر دراسة »جينات« آل معن وآل الأطرش وأهل بلدة الريمة في سوريا ومن يدعون أيضاً أنّهم من آل معن، وكذلك العائلات التي تنسب نفسها إلى التنوخيين ومقارنة ذلك بجينات من نجد عظامه من المعنيين. وأعتقد بأن هذه الدراسة الجينية تقدم أجوبة علمية على فرضيات ألهمت دائماً الأقلام.
شكّلت الإمارة المعنية ظاهرة فريدة ومميزة في تاريخ لبنان والمشرق العربي. وهذا ما جعل هذا التاريخ عرضة لقراءات متنوعة ومتباينة، وعرضة لإسقاطات، خاصة، من الجماعات المكوّنة للبنان، بحيث أن كلّ جماعة قرأت هذا التاريخ بما يتناسب من جهة مع عقدها التاريخية المزمنة، وأقول بكل وضوح وبكل موضوعية بأنّه لا توجد في لبنان جماعة لا تعاني من عقد نقص تاريخية مزمنة، كما قرأت هذا التاريخ المعني بما يتناسب مع مصالحها وايديولوجيتها.
ولم يكن هذا التاريخ تحت رحمة الجماعات المذكورة بل كان أيضاً تحت رحمة الطروحات القومية الشاملة أو الإقليمية أو الطروحات الوطنية والدينية والطائفية، بحيث أنّ الصورة كان يبالغ في رسمها إلى الحدود القصوى سلباً أو إيجاباً.
والطريف أن قراءات الأمس غيّبها وطمسها الواقع الحاضر مع رجوع المناضلين كلّ إلى حظيرته بعد فشل الأحلام الكبرى.
لربما هذه العودة القهقرى للأحلام الكبرى، جعل نفوس المعنيين تنطلق بسلام لترتاح بعد طول عناء فتأخذ حجمها الحقيقي وتبلور صورتها الصحيحة كظاهرة، شئنا أم أبينا، مستنيرة ومنيرة في شرق عاش ولقرون عدّة وكأنّه من أهل الكهف.
قبل ثلاثة قرون من القرن العشرين خطا الأمير فخر الدين خطوات إلى الأمام على طريق حداثة تأخر الشرق عنها طيلة هذه القرون.
فقط تجرّأ على تجنيد المسيحيين في جيشه، وهو أمر فرض على السلطنة في أواسط القرن التاسع عشر ولم يأخذ به المشرق العربي إلاّ بعد قيام الكيانات العربية الحالية.
كما تجرّأ، في عزّ تحجّر السلطنة العثمانية، على إدخال الحداثة إلى الشرق؟ حداثة الثقافة والتقنية وفنّ العمران وتذوق فنون النهضة وآدابها، التي كانت قد اجتاحت أوروبا وترسّخت فيها قبل قرن من رحيل الأمير إلى فلورنسا.
صحيح أن فخرالدين كان طاغية، ولكنّه كان طاغية مستنيراً.
ما قيمة كتاب الدكتور فؤاد ابو زكي.
على صعيد المضمون
هاجس فؤاد ابو زكي في هذا الكتاب، هو في الحقيقة هاجسان: الأول التأكيد على أنّ نسل المعنيين لم ينقطع بغياب شمس الامارة المعنية مع الأمير أحمد معن من جهة، ومن جهة أخرى نسب آل الأطرش إلى المعنيين.
فهذا الهاجس إن صحّ أم لم يصحّ، يحاول ربط البطولة المعنية في التاريخ الحديث ببطولة أخرى في التاريخ المعاصر، وكأن هناك خيطاً واحداً يربط بينهما هو خيط النسب وخيط »الجينة« العربية الواحدة.
منذ مطلع الكتاب يبدو ظاهراً أن الكاتب يبحث عن الأصل العربي للمعنيين والى أن يبين أن ذريّة آل معن لم تنقطع وكذلك ذريّة التنوخيين، وبأن أحفادهم موجودون في لبنان وسوريا، وبأن من انقطع كان الفرع الحاكم وبقي التناسل في الفروع الأخرى.
يروي الدكتور فؤاد بأن من بقي من فروع التنوخيين هم: آل القاضي وآل ناصر الدين وآل علم الدين وآل تقيّ الدين، كما يروي بأنّه اكتشف كون أحد الأشخاص في بلدة غريفة يعود إلى ذريّة المعنيين، وهو في الأساس، كما أشخاص آخرون في عين عنوب وشملان من بلدة الريمة في سوريا، ينتسبون إلى آل معن. كما قادته زيارته، على حدّ روايته، لبلدة الريمة للتعرّف إلى أحفاد المعنيين وإلى كون آل الأطرش من المعنيين وبأن آل الأطرش كانوا من بلدة بقعسم ثم رحلوا إلى حوران. كما يروي الدكتور فؤاد بأنه وجد آثار كوخ الأمير حسين ابن فخر الدين الذي تخفّى به في الريمة. ويخبر أيضاً بأن آل علم الدين في إبل السقي وآل عبدالله في الخيام وعبدالله في حوط ـــ جبل العرب هم من المعنيين.
ومن هذه المقدمة التي يدور جوهر الكتاب حولها، يروي فؤاد أبو زكي تاريخ المعنيين معرّفاً بنسبهم ثم بأمرائهم الأوائل متوقفاً عند الأمير فخر الدين وحيثيات تاريخه ونضاله ومآثره ونتاجه الحضاري العمراني وحروبه ونهايته ثم عودة المعنيين إلى بلدة الريمة، ويتابع رواية تاريخ المعنيين حتى نهاية الامارة مع الأمير أحمد ثمّ ينتقل للتأريخ للإمارة الشهابية من خلفية معادية لأركان هذه الإمارة.
الباب الثالث مكرّس لآل الأطرش والدور البطولي لسلطان باشا الأطرش في صدّ سياسة فرنسا إبّان انتدابها على لبنان وسوريا.
تتفاوت معلومات الكاتب تبعاّ للفصول فهو يروي هذا التاريخ أحياناً بعين الناقد العاقل عندما يسعى لنقد الإشكاليات الكثيرة التي طالت تاريخ المعنيين من جهة وتاريخ سلطان باشا الأطرش من جهة أخرى. وأنا أوافقه على بعضها خاصة تلك المتعلّقة بِِ: عدم وجود علاقة للمعنيين بالأيطوريين، والمسائل المتعلقة بفخر الدين الأول، خاصة لجهة دعائه المزعوم للسلطان سليم، وسرقة جون عكار استناداً إلى الوثائق التي نشرها د. عبد الرحيم أبو حسين، وحضانة الخازنيين لفخر الدين وغيرها من مناقشات واستنتاجات.
ولكن هذه الروح النقدية تخفت عندما تكون المعلومة متوافقة مع هدف الكاتب كقصة كوخ الأمير حسين معن التي تتناقض كليّاً مع مجريات تاريخ حياة الأمير المذكور، ونبوءة الأمير أحمد عن تنصّر الشهابيين التي هي أقرب إلى روايات الضرب بالرمل منها إلى الحقيقة، وقد ساقها كاتبها أبو شقرا في جوّ الشحن الطائفي في الفتن الطائفية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وبعض الخلاصات التي توصّل إليها أعتقد بأن الزمن والدراسات العلمية المخبرية كفيلة بإثبات صحتها أو باسقاطها، خاصة الروايات العائلية.
على صعيد المنهجية
قام الدكتور بجهد كبير في غوض غمار معلومات شائقة متقصيّاً المعلومات في القرى والمكتبات وعلى أرض الواقع في مقابلات ومراسلة مما جعله يصرف وقتاً كبيراً لاستقصاء حقائق طواها الزمن انطلاقاً من عاطفة مشبوبة تشدّه إلى تاريخ أبطال، لم يكونوا يوماً حكراً على جماعته بل لكلّ اللبنانين والسوريين.
أمّا على صعيد التأريخ للإمارة المعنية ثمّ لآل الأطرش فأعتقد أنّ فؤاد أبو زكي قد أبحر كما يجب في غياهب المصادر والمراجع المنشورة باللغة العربية أو المترجمة إليها، بحيث قدّم بحثاً ثرياً بمعلوماته, وأغنى البحث بمناقشات كثيرة وباستنتاجات مهمّة، نوافقه على بعضها ونعتقد أنّ بعضها الآخر يقتضي تعمّقاً وبحثاً أشمل في روافد معرفية في غير اللغة العربية.
كنت أفضّل أن يكون تنسيق المعلومات في الكتاب أكثر انسيابا وتماسكاً ومن دون استطرادات، ومع ذلك فنصّ الكتاب نصّ بليغ فصيح واضح مشرق.
هذا الكتاب، يشكّل مساهمة مثمرة في دفع البحث التاريخي أشواطاً إلى الأمام في عملية غربلة لمعلومات، وإثراء بمعلومات، عسى أن تسهم في توضيح صورة التاريخ في هذه البقعة من العالم.
تعليقات: