لا تعوز الطائرة الحربيّة من الوقت، إلى أكثر من إغماضة عين ليغدو البيت ركامًا. في غضون ثانية تطحن الإسمنت، تلوي مواسير المياه، تشلّع ثياب الخزائن، ثم تحرقها مع خشب الأسرّة والكنبات. ثانية تفتك بالأشياء التي اعتدنا معايشتها، لمسًا، ومشاهدة وتنشّقًا وإنصاتًا وتذوّقًا.
ما يفعله ذلك الصاروخ، أنّه يلغي صوت طرق الأصابع على باب البيت. يمسح عطر المردكوش من أصيص المصطبة. يأخذ من الجدّ آلاف المرّات التي جلس بها على كرسيّ الزاوية، وصرير (زيزقة) السرير التي ألِفها أصحاب البيت، حتى تغاضوا عن علاجها بمسمارين، ومسحة غراء. يلتهم الصاروخ ألبومات الصور القديمة، بالأسود والأبيض، عرس أحمد على سامية، وداع خليل في بهو المطار، لمّة العائلة في خيمة القصب. وقد تكون الصور ملوّنة، لرحلة المدرسة، والغناء في الباص، ووضعيّات كثيرة أمام هياكل بعلبك.
يسرق الصاروخ من أصحاب البيوت، أعمارهم التي أنفقوها بـ “تقميع” البامياء في غرف الجلوس، وتجفيف أوراق الملوخية على الشراشف في الصالونات، وتقشير التفّاح للضيوف الذين يزورونهم كلّ يوم، ليحتسوا القهوة بالفناجين “العربيّة” ذاتها.
أوراق العلب المعدنيّة
صحيح أنّ همّنا الأوّل نجاة أرواح أصحاب البيت، وأنّ الحجر قد يُعاد إلى ما كان عليه، وقد يُنجَز ذلك بما هو أحسن وأجمل. وفي تشييد البيت للمرّة الثانية، أو الثالثة، فعل صمود لا ريب. غير أنّنا نأسف على التفاصيل التي يستودعها الناس في جواريرهم المتهالكة، وعلب الحلوى المعدنيّة التي يملؤون بعضها بالإبر والبكرات والأزرار، بينما يخبّئون في بعضها الآخر رسائلهم التي ذاب حبرها، ووصولات الأمانة التي دُفِعَت، وفواتير كهرباء ومياه، ومفاتيح ما عادوا يتذكّرون غالاتها.
محو كلّي
في العام 2000، بعد التحرير بساعات، توافد الأهالي نحو القرى التي انسلخوا عنها طوال سنوات الاحتلال لتفقّد بيوتهم وأرزاقهم، فكانت لحظات دامعة لمعانقة الأبواب والنوافذ، وتنشّق روائح الستائر، وشراشف الأسرّة وبيوت الوسادات. كأنّ الجسد يعود للالتحام بأجزائه التي شُطِرَت عنه. بين هؤلاء العائدين، هناك من فقد بيته، فجلس القرفصاء على الأطلال والعشب، محاولًا ملامسة الذاكرة التي سوّيَت بالأرض.
في بلدة حانين كان المشهد أكثر صعوبة، وشرخ النفس أكثر لوعة، إذ إن البلدة بأكملها كانت قد هُدِمَت عن بكرة أبيها، فلَم تختفِ البيوت فحسب، بل اندثرت الأزقّة التي فصلَت في ما بينها، والأشجار التي تسمّى الأماكن بها، ليكون المحو الحجريّ إلغاءً كلّي للبلدة بكامل جغرافيّتها، لتصبح مقبرة القرية معلمًا أساسيًّا لقياس الطرقات والأزقّة، كمحاولة لإعادة إسقاط تصوّرات الذاكرة على الواقع الأجرد.
حولا المثقلة بالدم والرماد
تُعتَبر بلدة حولا من أكثر البلدات التي دفعت أثمانًا من أرواح شبّانها وشيبها، في هذه الحرب المتواصلة اليوم، وهي عيّنة من جولات كثيرة، بدأت بالمجزرة الأشهرة التي ارتُكِبَت في حولا منذ أكثر من 75 عامًا. لهذا، تدمع عيون المتضرّرين بينما يصفون أحاسيسهم تجاه فقدان منازلهم الخاصّة، أو ربّما بيت الجدّ والجدّة، كما تروي لـ “مناطق نت” ابنة حولا، الروائيّة هبة قطيش: “مهما كبر المرء، يبقى منزل أجداده عنوان الحنين والدفء”.
في العام 2000، بعد التحرير بساعات، توافد الأهالي نحو القرى التي انسلخوا عنها طوال سنوات الاحتلال لتفقّد بيوتهم وأرزاقهم، فكانت لحظات دامعة لمعانقة الأبواب والنوافذ، وتنشّق روائح الستائر، وشراشف الأسرّة وبيوت الوسادات
تتابع: “منذ أشهر سقط منزل جدّي إثر غارة حربيّة، لا أدري كيف أصف شعور اللحظات الأولى عندما اندفع شريط الذكريات داخل رأسي برمي الصور أمامي، كأنّني أبصرها في الواقع، لا في المخيّلة؟ فهذا المنزل قبل كلّ شيء، كان ذاكرة حولا العتيقة، من بيوتها التي بدأت بغرفة وبمرور الزمن تساعدا والدي وجدّي على بنائها، حتّى غدا منزلًا تراثيًّا قلّما تجد مثله”.
تضيف قطيش: “عاصر هذا المنزل حقبة الاحتلال، وشهِد على مداهمات العملاء لاعتقال الشبّان، فالبيت ليس فقط بما يحتويه، إنّما بما يشهده ويشرف عليه”.
تصف قطيش الانطباعات الأولى بعد ورود الخبر: “لحظة سقوط المنزل، فتحت هاتفي للتأكّد من الخبر، لأراه أمامي بالفعل، مجرّد ركام، سقفًا مائلًا على كومة حجارة، أدركني شعور خفيّ ممزوج بالألم، وذكريات طفولتنا، جمعات العائلة والأعمام والعمّات، فهو كان إرث جدّي الوحيد من بعد وفاته، وفندق العائلة عند زيارة حولا. داخل تلك الحجارة تحتشد الأشياء، القهقهات، حتّى أصوات الغضب أثناء النقاشات الحادّة، ولحظة التقائي به في تمّوز العام 2000 عندما زرت حولا لأوّل مرّة بعد تحريرها، جميعها أضحت ركامًا. للمنازل أيضًا ذاكرة وملفّات صور، ورواية جدران مبنيّة بدموع القهر وقهقهات الفرح، ليست مجرّدإاسمنت مسلّح وأعمدة ودعائم”.
وللبيوت الجديدة أحزانها
لكن، هل يَحضَر الحنين في حال كان البيت قديمًا فقط، أم أنّ هدم البيت الجديد له أحزانه كذلك؟ سؤال تجيب عليه عروس جديدة، لم تهنأ بمنزلها سوى أشهر قليلة. تقول ندى لـ “مناطق نت”: “عندما نزحتُ من منزلي وأنا ما زلت عروسًا جديدة، وحاملًا بالشهر التاسع بإبني الذي أنجبته في الحرب، صرتُ أتعامل مع الأشياء بطريقة مختلفة، فقطعة القماش البالية لها قيمة معنويّة في قلبي، وأصبحتُ أشتاق حتى إلى الملل الذي كنتُ أستاء منه، فترة ذهاب زوجي إلى العمل”.
وتضيف: “كنتُ توّاقة للعودة إلى المنزل. لا أريد شيئًا سوى مراقبة التفاصيل والتأكّد أنّها بخير. هذا ما أردّده يوميًّا خلال نزوحي، حتّى أتى خبر تدمير منزلي إثر غارة اسرائيليّة”. تتابع ندى واصفة شعورها، ومن حولها: “يومذاك بكت شقيقاتي وصديقاتي إلّا أنا، بكين غرفة طفلي التي شاركن في تفاصيلها. بقيت صامتة. لقد كان الألم أكبر من كلّ الدموع، لقد كان الوجع والقهر أقوى من كلّ الصراخ، لذلك آثرت الصمت”.
طاقة الجدّ
منذ ما يقارب الـ10 سنوات، أعاد ابن بلدة صربا الجنوبية، النحّات شربل فارس، بناء بيته بشكل مغاير، يشبه رؤيته للأمور، فكان أن اقتطع بعض حجارة الدعم التي كان جدّه قد رصّها في ذلك الجدار الطويل، ليستخدمها فارس الحفيد في منزله. يقول النحات فارس لـ “مناطق نت”: “تلك الحجارة تحمل لمسات وبصمات جدّي. لقد منَحها طاقته، ولذلك أنا لا أستخدم حجارته فحسب، إنّما الطاقة التي استودعها في تلك الحجارة”.
يأخذنا كلام هذا الفنّان الجنوبيّ إلى طريقة تعامل الفنّان الإسبانيّ بابلو بّيكاسو مع الأشياء، والخردة التي يصنع منها منحوتاته، فبّيكاسو لا يقصد المتاجر ليبتاع آنية فخّاريّة، أو قطعة خشب، أو إطار درّاجة هوائيّة، فتلك عبارة عن قطع محايدة بلا روح. كان بيكاسوا من هؤلاء الذين يقصدون المكبّات الحاوية للأشياء التي تخلّص منها أصحابها. أيّ أنّها لامست البشر مئات المرّات، وعاركها الزمن، وأكلها الصدأ، وأتلفتها الأيّام. تمامًا هو ما يريده ذلك التكعيبيّ، أشياء لها ذاكرة وخبرات، محتشدة بالطاقات. حاله حال البيوت المدمَّرة في القرى. حجارة وأخشاب وأقمشة وصوَر، بكثير من الحنين، والحشرجات الكامنة في تفاصيلها.
بيت وعريشة وسطيحة والدمار يعبث بالمكان
تعليقات: