تمهيد:
الإنسان موسوم بالبحث عن الجديد، ولو كان هذا الجديد على حساب راحته وحياته التي يعيشها على هذا الكوكب المقدّر له تحمّل عبء وجودنا وجنوننا.
قسّم الإنسان التاريخ إلى خمسة أقسام أو مراحل أو فترات تاريخيّة: ما قبل التاريخ، التاريخ القديم، العصور الوسطى، العصر الحديث وعصر ما بعد الحداثة. سيطر مصطلح “حداثة” على القرن العشرين، وطغى على كتابات المفكّرين والباحثين في الاختصاصات كافة من علميّة وأدبيّة وفكريّة وفنّيّة… فماذا تعني هذه الكلمة أو المفردة؟ وهل هي تتناسب مع ما نعرفه عنها؟ وهل هناك إضافات إلى تعريفها؟ إلخ… هذا ما سنحاول الإضاءة عليه في هذه السطور على أن تليها وقفة ما بعد الحداثة في مقالة أخرى لمعرفة التمايز والفروقات بين هذين المصطلحين المصاحبين للكثير من الكتابات، بل والكثير من اللغط والتعريف والفصل والوصل.
القاموس الفرنسيّ:
يُفسّر القاموس الفرنسيّ مفردة حديث Moderne بأنّها الزمن الذي يتكلّم أو المرحلة المستجدّة نسبيًّا Actuele. يستعمل أيضًا كلمتي حالي ومعاصر ليُشير إلى أنّه “بالنسبة إلى إنسان القرن الثالث عشر، فإنّ الغوطيّة (الفنّ الغوطي) حديثة”، كما ذكر الشاعر الفرنسيّ “مارلو” Marlaux. يستعمل القاموس مفردات المرحلة الحديثة، والأزمنة الحديثة، ومفردات تدلّ على أيّامنا الحاليّة (المناقضة للقديم والهرم)، فالحديث هو ما يستفيد من التقدّم الحالي للتقنيّة والعلم. والحديث هو ما يأخذ بعين الاعتبار التطوّر المستجد في مجاله؛ المأخوذ من زمنه…
الحديث هو نقيض القديم البالي؛ وهو ما ينتمي إلى مرحلة تلي القديم (الأزمنة الحديثة، العصر الوسيط والمرحلة المعاصرة) القدماء والمحدثون، كبار الكتّاب القدماء، كتّاب الأزمنة الحديثة، صراع القدماء والحديثين، أنصار هؤلاء وأؤلئك. يُعطي القاموس مثالًا حول التاريخ الحديث ونهاية العصر الوسيط (المتعارف عليه منذ العام 1453 في أثناء سقوط القسطنطينيّة) وصولًا إلى الثورة الفرنسيّة في العام 1789…
هذا ما يختصّ بالحديث Moderne. أمّا الحداثة Modernité و Modrnisme فهما خاصّيّتان لما هو حديث بالمعنى الفلسفيّ، ولا سيّما في الفنّ التشكيليّ، حيث يعدهما البعض أسلوبًا فكريًّا انتشر سنة 1916 م.
تعريف المفكّرين:
لقد اختلف المفكّرون والمختصّون في تعريف الحداثة وبداياتها، ونسبها بعضهم إلى كلّ حركة أو فكر تغييريّ يثور على القديم ليطرح مفاهيم ورؤى جديدة مغايرة لما هو سائد. من هنا اختلفت الآراء حول بدايتها؛ فقد عرفنا عبر التاريخ ثورات فكريّة مجدّدة قامت على مخالفة السائد، وهذا ما عرفناه منذ العصر الوسيط، وما تلاه من حركات فكريّة تجديديّة أخذت مُسمّيات عدّة ومختلفة (المثال الأبرز في الفنون التشكيليّة كما أسلفنا القول). أمّا الحداثة، كمصطلح ومفهوم فلسفيّ، فقد دخلت مفردته في القاموس اللغويّ في منتصف القرن العشرين.
فرانسوا ليوتار:
يستعمل الفيلسوف والمفكّر الفرنسيّ “جان- فرانسوا ليوتار” Jean- Francois Lyotard عبارات “السابق” و”اللاحق” و”الآن” وتدفّق الوعي لتطبيقها على الحداثة، ويربطها بما بعد الحداثة كسيرورتين متلازمتين. يرى “ليوتار” أنّ الحداثة تحمل في تكوينها وفي أحشائها، ومن دون توقّف، ما بعد حداثتها. ما يعنيه “ليوتار” هو حاجة الإنسان إلى التغيير المستمرّ والتجدّد في الحياة البشريّة. ويرى أنّ ما يتعارض مع الحداثة، عوضًا عمَّا بعد الحداثيّ، قد يكون العصر الكلاسيكيّ، ويعني به الفترة الممتدّة بين 1453 و1789، التي أشرنا إليها بداية، أي ما بين عصر النهضة والثورة الفرنسيّة. وهي عصور عرفت ازدهارًا في شتّى المجالات، ووضعت أسس الفنّ والعلم والفلسفة (المسرح: راسين وموليير- الفلسفة والعلوم: ديكارت- باسكال- الأخلاق: لابريير- لافونتين…). يرى “ليوتار” أنّ الحداثة ملزمة بأن تؤرّخ لنهاية حقبة وبداية أخرى…
ويرى الكثيرون أنّ الحداثة بدأت مع “ديكارت” في الفلسفة، ومع “غاليلو” في العلم. فقد استنفد العلم وسائله القديمة على يد علماء القرون الوسطى، فاخترع العقل الغربيّ في بداية الحداثة “أنا أفكّر” مع “ديكارت”، وأبدع الفلسفة المثاليّة المطلقة مع “كانط” و”هيغل” و”شلنغ” و”فيشته”. ورأت الروائيّة الانكليزيّة “فرجينيا وولف” أنّ الحداثة (أو العالم الحديث) بدأت في ديسمبر 1910 حين تغيّرت شخصيّة الإنسان.
الإله الجديد، وأثره في الحياة:
تحمل الحداثة تصوّرًا كونيًّا يحلّ العلم فيه محلّ الخالق، وتقتصر الممارسات الدينيّة على الحياة الخاصّة للفرد. أُقصيَ الإلهيّ والغيبيّ، فصار الإنسان مركز الكون، وحلّ علم النفس مكان التأمّل في الذات، وبات الوجود المادّيّ الموضوعيّ والطبيعيّ هو أصل الأشياء ومنشأ الحقائق. امتدت الحداثة القائمة على “اللوغوس” والـ”أنا أفكّر” حتى نهاية القرن التاسع عشر، حيث بدأ البحث في الحداثة وفي قيمها وفي منجزاتها وتأثيرها في الإنسان، وأصبح العلم في الحداثة خاضعًا للسلطة وإرهاب المؤسّسات وقمعها. رافقت الحداثةَ حروبٌ طاحنة منذ بداية القرن التاسع عشر حتى نهاية القرن الفائت، فهُدمت المدن وصُلب الإنسان، حسب تعبير الدكتور “سامي أدهم”، وأصبح الاستهلاك هو الهدف الرئيس في مجتمع الحداثة والربح المادّيّ، وسيطرت الأنا والصراعات القوميّة، كما سيطرت الجناسة والوطنيّة القوميّة والسوق والعمل. أصبح الإنسان في مرحلة الحداثة هو الإله، إله “نيتشه” الذي تمثّل في رسوم الفنانين في عصر الحداثة. ركّزت الحداثة على المعنى وعلى المدلول وعلى مركزيّة الكون والحياة.
يرى الكاتبان “ميجان الرويلي” و”سعد البازغي” في “دليل الناقد الأدبيّ” أنّ الحداثة جاءت بمشروعها لتخليص الإنسان من أوهامه وتحريره من قيوده، وتفسير الكون تفسيرًا عقلانيًّا واعيًا. ورأت أنّ هذا المشروع لا يتمّ ما لم يقطع الإنسان صلته بالماضي، ويهتمّ باللحظة الراهنة العابرة: أي بالتجربة الإنسانيّة كما هي في لحظتها الآنية، واحتفت الحداثة بالصيرورة المستمرّة المتشكّلة أبدًا، وغير المستقرّة على حال. من هنا جاء التقابل الضدّيّ بين الثابت والمتحوّل كإمكانيّة تفسير التناقض الواضح بين اللحظة العابرة والقانون الثابت الذي يتحرك بها، ويمنحها نظامًا مستقرًّا أبديًّا. ورأت أنّ بإمكانها تحرير الإنسان من أوهام الماضي وطلاسمه، من خلال العلم والثقافة المجتمعيّة والتميّز الفرديّ كغاية للتقدّم ونهاية مطاف التطوّر. لذلك نادت بشعارات الحرّيّة والمساواة، وبقدرة الإنسان على فهم العالم والحياة والذات والتقدّم وتحقيق سعادة الإنسان. لكّنها، أي الحداثة، أسّست بخلاف ذلك للحروب والمشاحنات والاستعمار والإرهاب والهيمنة والتفاوت الطبقيّ والاقتصاديّ المميت، وابتكار القنابل الذرّيّة والنوويّة وغياب المساواة والعدالة التي نادت بها لمصلحة التفوّق العرقيّ والطبقيّ. والغريب في الأمر وجود من يُبرّر بعض نتائجها كالحروب، حيث يرون أنّها ضروريّة في بعض الأحيان لغايات معيّنة…
سادت في الحداثة المصطلحات الآتية:
النخبة والنخبويّة، التناسق، اللاتعدّديّة، الرومنطيقيّة والرمزيّة، والمعنى والهدف أو الغاية، والتخطيط المُحكم، والطبقيّة والهرميّة، والسيطرة (اللوغوس)، والعمل المنتهي المكتمل، والبعد والمسافة، والإبداع أو الشموليّة، والحضور، والمركزيّة والتمركز، والنوع الأدبيّ وحدوده، والأنموذج العموديّ، والمجاز، والانتقاء والاختيار، والجذريّة، والعمق والتحليل أو القراءة وسيادة المدلول Le signifié ، وأهمّيّة المقروء والسرد أو التاريخيّة الشاملة، والأصل والسبب، والميتافيزيقيا والتسامي…
الفنون التشكيليّة والحداثة:
في الفنون التشكيليّة، ألغت الحداثة الأساليب والتقنيات التقليديّة كالفريسك، والتصوير الزيتيّ، والأكواريل، والرسم، والموزاييك، والنحت بالحجر والبرونز، كاحتجاج هائل لجيل الشباب بمواجهة الجيل القديم، وابتكرت مدارس فنّيّة لا صلة لها بالماضي كالانطباعيّة، والسورياليّة، والتكعيبيّة، والتجريديّة، والرمزيّة، والدادائيّة، والبنائيّة… وغيرها الكثير، حيث سيطرت على نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين وصولًا إلى ستينيّات وسبعينيّات القرن الفائت الذي وجد بدائل ومفاهيم جديدة في الفنّ. في الموسيقى خلق الحداثيّون البوب، موسيقى الشبيبة المتحرّرة والثقافة السوداء، وفي الدين فصلوا الكنيسة عن الدولة…
تضمّنت الحداثة، عمومًا، نشاطات وابتكارات أولئك الذين شعروا أنّ الأشكال التقليديّة من الفنّ والعمارة والأدب، والإيمان الدينيّ والفلسفة، والتنظيم الاجتماعيّ ونشاطات الحياة اليوميّة والعلوم، قد أصبحت غير ملائمة لمهامها، وقديمة في ظلّ البيئة الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة لعالم صناعيّ ناشئ. شكّلت توصيات الشاعر “عزرا باوند” في العام 1934 تحت شعار “جدّده” حجر الأساس لنهج الحركة تجاه ما رأته ثقافة قديمة عفا عليها الزمن.
أمّا ما بعد الحداثة فقد كانت أكثر شراسة من الحداثة ونفيها للإنسان الذي تحوّل معها إلى نفي وعدم، ونظّر لها كبار الفلاسفة والمفكّرين.
الخلاصة:
الحداثة نتيجة طبيعيّة لتطلّع الإنسان نحو الأفضل والجديد. هي حاجة ومسار كونيّ يبحث عنها الإنسان ظنًّا منه أنّها خلاص لمشكلاته وضائقته المتنوّعة، لكنّها حملت داخلها نقيضها ونهايتها، وقد يكون بديلها أكثر شراسة وتعقيدًا للحياة، فبديلها يكمن في “ما بعد الحداثة” التي نعتبرها مدخلًا إلى بداية نهاية الإنسان كونها حملت شعار “موت الإنسان”… إنّ إشكاليّات الحداثة لا تُعدّ وتُحصى، حملت معها أزمات كبرى وكثيرة للإنسان، وتركت آثارها السلبيّة في حياته وخصوصيّته ونفسيّته.
فرضت الحداثة مادّيّتها المتوحّشة على الإنسان، ففقد المجتمع تجانسه وروحانيّته وتكافله وتعاضده… وألغت الربّ لتؤسّس إلى ما بعد الحداثة التي ألغت الإنسان وقتلته… الحداثة هي بداية لانتحار الإنسان…
المصدر: المجلة الفكريّة والثقافيّة الشهريّة "البعد الخامس"
تعليقات: