يوسف غزاوي: استديو الفنّ في أحد الفانات


ما حصل معي البارحة يستحقّ الذكر ومشاركة الأصدقاء القرّاء به بسبب فرادته وجماله ورقّته؛ صعدتُ أحد الفانات المتوجّهة إلى الجنوب (منطقة النبطيّة) لاسترجاع سيارتنا التي أودعتها عند ميكانيكيّ لتصليح بعض الأعطال بها. وبسبب الحرب الأخيرة لم أستطع الذهاب إلى المنطقة والإتيان بها قبل هذا التاريخ. المهمّ أنّ الأعمال الحربيّة توقّفت إلى حدّ كبير، ممّا سمح لي بالذهاب إلى الجنوب البطل المقاوم الصامد المحبّ للوطن والمدافع عنه، لإلقاء التحيّة عليه والوقوف على خاطره وللقول له إنّنا ما زلنا على عهد حبّنا وشوقنا.

نعود إلى الفان وأجوائه المهضومة. عادة ما تحصل أمور ومحادثات منوّعة في عالم الفانات، منها ما هو مسلٍّ، ومنها ما هو مملّ ومزعج، كأن يضع صاحب الفان أغانيَ ثقلية الدم والوقع، أو أن يقوم الركّاب بالتدخين، أو بالتكلّم عبر تلفونه المحمول بصوت عالٍ وكأنّه يعيش وحيدًا في منزله لا يسمعه أحد.. أو أو أو.. قصص وأمور كثيرة ملفتة، ناهيك من الشعارات المدوّنة على الفانات بعالمها المسلّي والمجنون والعفويّ ومرسلتها الاجتماعيّة والسيكولوجيّة. ولا ننسى ذكر اللهجات المختلفة باختلاف الركّاب والأزياء والأشكال والسحن.. عالم فسيفسائيّ مميّز.

بعد انتظار مملّ على وقع صوت السائق "يلّا نبطيّة، يلّا نبطيّة" انطلق الفان أخيرًا. صودف وجود شخص (زبيبيّ) من إحدى قرى الجنوب بجانب "الشوفور"، كان يدندن بصوت خافت، وبعد أحاديث بيننا عرفتُ أنّه يهوي الغناء، لأطلب منه إسماعنا صوته، فكانت المفاجأة المدوية: صوت رائع محبّب شجيّ قويّ فيه رنّة غير عادية. غنّى أغانيَ عراقيّة فيها رقّة وشجن، لينتقل إلى الأغاني والمووايل اللبنانيّة وغيرها، فيردّ عليه سائق الفان بصوتٍ آخر جميل. كانت المفاجأة من الخلف من أحد الركّاب من الجالية السوريّة ليغنّيَ البدويّ والعراقيّ والخليجيّ بصوت عذب يحتاج إلى صقل وتدريب وغربلة، لكنّ وقعه جميل على السمع ببراءته وعذوبته وعذريّته.. امتد الأمر طيلة مشوار الطريق قبل أن تفترق الأوركسترا، ويذهب كلّ إلى وجهته..

ما لفت نظري أنّ هذا (الزبيبيّ) يتحدّث عدّة لغات، ومدرّب في بطولة القتال الخشن في الشوارع (يا لهذا التناقض!)، وقد مارس عدّة مهن في حياته كصرّاف ماليّ وبائع عصير، وغيرها من المهن..

أمّا سائق الفان فيتحدّث عدّة لهجات كالزحلاويّة والطرابلسيّة والبدويّة والجنوبيّة ممّا يثير الدهشة بعد سماعنا له يتحدّث بها مع الركّاب؛ لكلّ مقام مقال!..

عالم متنوّع غريب وعجيب!!

صدفة جميلة لا أعتقد حصولها في مكان آخر من العالم سوى في هذا الوطن الذي نحب ونعشق بالرّغم من كلّ الموبقات والصعوبات والمشاكل..

عاش لبنان وطن العجائب والجمال..

تعليقات: