أحمد مالك: في ضيافة صومعة المعرفة.. زيارة إلى الخواجه حنا فرحة في قلب المتن الأعلى


بعد تأجيل متكرر بسبب الظروف الأليمة، لبّينا (٢٠٢٤/١٢/٠٦) دعوة كريمة من صديق ونسيب العائلة، الاستاذ الألمعي والشاعر المُرهف والمؤلف الحصيف، عاشق الكتب الأزلي "حنا حبيب فرحه"، في منزله بإحدى قرى المتن الأعلى من جبل لبنان.

دلفنا إلى صومعته الكائنة على احدى تلال الجبل الصلد "جبل صنين"، فكانت غبطةٌ كبيرة لي أن أتواجد بين حاضنة علوم الأولين والأخرين والتي تضم ما يرنو على (١٥ ألف) وسيلة علم، والتي تندرج من الكتب النادرة إلى المخطوطات التراثية، مروراً بالدراسات العلمية، معطوفةً على الكراسات البحثية، بجانب الدوريات الفصلية، ملتحقةً بالإصدارات الشهرية وانتهاءً بالمجلات الأسبوعية، بالإضافة إلى مجلدات الصحف اليومية. حيث تم انتقائها من مختلف اصقاع المعمورة بلغاتها الأم، ولكل كتاب قصة ولكل مخطوطة رواية بهذه الصومعة الأثرية، التي تزاحمت بها درر المعارف حتى تعالت إلى سقفها، مُعلّقاً بعض من صوره التاريخية في مناسبات شتى، جامعاً نماذج من الأدوات التراثية القديمة، مُختار مجموعة من اللوحات الفنية الأصيلة، بالإضافة إلى بعضٍ من قصائده الأيقونية المُعلقة هنا وهناك في أرجاء الصومعة. فكنت احتار من أي رفٍ ابدأ والى أي سقفٍ أنتهي، وبين الحين والأخر، اختلس النظر إلى ساعتي فأجد عقاربها تتراكض فيمتلأني الشعور بالغصة ويا ليت الزمن يقف وأنا بين ثنايا تلك المؤلفات العتيقة.

وجدنا الخواجه حنا ما زال متقد الذهن ، رقيق العبارات، سلس الكلام، آراؤه صريحة، ايمانه بمبادئ قسمه في عام (١٩٥٥) لم يتزحزح قيد أنملة، حافظاً عن ظهر قلب العبارات الأيقونية لمعلمه الأول والتي أتحفنا ببعضها بين الحين والأخر، متنقلاً إلى أي بيتين من الشعر من نظمه تكون حاضرة في ذهنه بتلك اللحظة، وكان الخواجه يقتطف لنا حادثة عابرة معبرة في ذات الآوان من احدى المدن العالمية التي عاش بها، او طرفة جاد بها الزمن عليه بحصولها معه أو امامها في احدى زيارته السياحية لشتى اصقاع المعمورة، فالخواجة حنا جاب العالم باتساع قاراته في سبيل العلم والعمل، حيث عمل لفترات متلاحقة في عواصم ومدن مختلف قارات العالم القديم (بيروت، الرياض، جدّة، دبي، تونس الخضراء، نيقوسيا، أثينا ولندن)، وأكملها في قارة أميركا الشمالية (واشنطن، فيلادلفيا وتورنتو)، أما زياراته السياحية فلم نستطع احصاءها في تلك الزيارة الخاطفة.

وبعد الاطلاع والتفحص بحوايا الصومعة، فاجأنا الخواجة حنا فرحة، بدعوته لتفقد مكتبته المنزلية، والتي لم يكن في بالنا بأنه يحتفظ بمجموعة ثقافية أخرى غير ما تحويه الصومعة، وكأنه لم يكتفي الخواجة بجنة معارف الصومعة، فطلب المزيد منها بمكتبة منزلية رائعة، تضم أمهات الكتب والمجموعات الفريدة، فاستقبلتنا سيدة المنزل مدام (روزا فؤاد مُسلّم) بكل ترحاب وحبور، وازداد ترحيبها بنا عندما عرفت إننا من جارتهم "الخيام"، وما تربطهم بها من وشائج العلاقات المميزة من الجيرة الطيبة والعشّرة الحسنة منذ القدم. وعندما لاحت مني نظرة صوب المكتبة المتربعة في صدر صالون المنزل، حتى بادرت بالاستئذان من أصحاب البيت وتوجهت للمكتبة مباشرة، وتركتهم يتجاذبون أطراف الحديث مع قريبي الذي رافقني بتلك الزيارة الجميلة. فسررت بالعدد الذي ليس باليسير من المجموعات الأدبية الكاملة لفطاحل وفرسان البلاغة العربية، بالإضافة لوجود بعض من الكتب النادرة والتي تعتبر مفقودة من المكتبات العربية، وتفاجأت أيضاً بوجود مجموعة مجلدات خاصة لصحيفة النهار البيروتية، تضم مختارات من أخبار، مقالات، وتحقيقات صحفية لفترة زمنية ليست بالهينة تنتهي في نهاية عام (١٩٦٩). قام الخواجة باختيارها بدقة على مَرّ عقدين من الزمن، كما وأطلعني الخواجة حنا على مجموعة خاصة يعتز بها من الكتب الأدبية والتاريخية (جبل عامل) والتي أهدته اياها احدى قريباتنا التي هي نسيبته في نفس الوقت.

ومن طريف ما حدثنا به الخواجة حنا فرحة عن علاقته المميزة بمدينتنا "الخيام"، ورحلات الصيد في ربوعها، وارتواؤه من مياه نبع الدردارة وتفيؤه بظلال شجرة الكينا العتيقة على ضفافها، والتي زرعها في عام (١٩٤٧) المرحوم جدّي "الحاج أبو علي نعيم الحاج حسين عبدالله" (١٨٩٦ - ١٩٨٠)، هذا بجانب اعتزاز الخواجة حنا بصداقاته مع ثلة من رجالات الخيام في تلك الفترة، وفي طليعتهم المرحوم الشهيد الدكتور "شكرالله كرم عطالله كرم"، والذي كان مُعلمه الاول في كلية مرجعيون الوطنية في عهد مديرها الفاضل المرحوم "لبيب غلمية"، وامتدت إلى الصداقة إلى يومنا هذا عبر نجله الوزير السابق الدكتور "كرم شكرالله كرم"، هذا بالإضافة إلى أصدقائه الأخرين من رجالات الخيام الذين شاركوه مَنحاهُ الفكري والعقائدي طيلة (٧٠ عاماً) من النضال المشترك من اجل عقيدة اقليمية أمنوا بها واتخذوها نبراساً لحياتهم فما وهنوا ولا استكانوا في سبيلها. هذا، وشاركنا الخواجة حنا فيما يذكره من ذكريات عن عم والدي الزعيم الجنوبي؛ المغفور له "خنجر أفندي الحاج حسين عبدالله" (١٨٨٦ - ١٩٥٣)، الذي كان الصديق المُقرب لعائلة "فرحة" في جديدة مرجعيون، وزياراته الدورية لهم قادماً على فرسه الأبيض الشهير من بلدته الخيام، وخاصة أن والد الخواجة حنا، هو "المرحوم حبيب فرحه"، رئيس بلدية جديدة مرجعيون في فترة أربعينات القرن المنصرم. كما ذكر لنا الخواجة انه كانت تربطه علاقة خاصة أيضاً مع رئيس بلدية الخيام الأسبق (١٩٥٧-١٩٦٣) المرحوم "أبو علي حسن علي فايز عبدالله" (١٩٠٥ - ١٩٨٤)، وما جمعتهما من جلسات مشتركة سواء بالخيام او في جديدة مرجعيون.

ويُجيد مضيفنا الخواجة حنا فرحة ملكة تأليف ونشر الكتب اللغوية والأدبية وترجمة الأعمال التراثية إلى اللغة الإنجليزية ونشرها، حيث أنجز ما يربو عن (٢٥) مؤلفاً ما بين اللغتين العربية والإنجليزية، منها ما هو مطبوع وقد تم نشره بالفعل ومنها ما زال مخطوطاً أسير الحبر والأوراق، هذا بالإضافة إلى النشر في مختلف الصحف والمجلات باللغتين على حد السواء. ومن الجدير ذكره أن الخواجه حنا فرحه في عام (١٩٨٣) عاد إلى لبنان ليشرف على ترجمة روايات "عبير" إلى اللغة العربية، فأنهى في غضون سنتين ما يقارب من مئتي قصة. هذا، ودرة مؤلفات الخواجة هي ديوان شعره "صدى ضائع بين التلال" (٢٠١٧م، ١٧١ صفحة، دار نلسن، بيروت، لبنان)، وقد قام بإهدائي أنا وقريبي نسختين من ديوانه مذيلتين بتوقيعه الكريم.

كما ولفت نظرنا أن الخواجة حنا له هواية تكاد تندثر مع تلاحق الايام وتغيُر أمزجة النشء الجديد نحو الألعاب الإلكترونية وغيرها، وهذه الهواية مصاحبة له منذ زمن الفتوة واللهو بين أحراش ومرابع جديدة مرجعيون، ألا وهي صناعة الطائرات الورقية المزركشة حفاظاً على تراثنا القديم من الاندثار ويطويه النسيان والضياع، ويقوم بعرض تلك الطائرات للأطفال في أماكن تجمعاتهم من مهرجانات الصيف وغيرها.

وفي ختام تلك الزيارة الرائعة الحميمة، قام الخواجة حنا بإهدائي نسخة من كتاب "د. محمد أيوب شحيمي" (في رحاب جديدة مرجعيون) (٢٠٢٣)، فأخذته متشكراً لطف محبته وتقديره، وقمنا بتوديع أسرة الخواجة حنا، شاكرين لهم حُسن الضيافة وحفاوة الاستقبال وبديع الترحاب، واعدينا اياهم بزيارة أخرى عندما تسنح فرصة أخرى بإذن الله، داعين العلي القدير باللقاء ثانية بالربوع المرجعونية سواء بالخيام او بالجديدة، فأردفت قائلا "أو على ضفاف نبع الدردارة، واسطة العقد الماسيّ لسهل مرجعيون - مرج الخيام". وأخر ما حدثني به الخواجة حنا فرحة كان وعدٌ منه لي بتجهيز مجموعة خاصة لي من كتبه القيمة وإهداءها إياي وذلك بعدما استشف منحى نوعية الكتب التي تطابق اهتماماتي، فالتقط الفرصة مذكرا اياه بأن قراءتي بهذا العمر اصبحت تقتصر على كتب الأحداث التاريخية وسير رجال السياسة المعاصرين والسالفين.




















تعليقات: