كأن ثمّة شيئاً ما يسلب من الناس، الصحّة وحماسة العودة وأخيرًا الشعور بالانتماء (علي علّوش)
أكتب المشاهد هذه، بعد جولةٍ شاقّة ومُكثّفة امتدت على يومين، في قرى جنوب لبنان الحدوديّة، بالتزامن مع انقضاء مهلة السّتين يومًا لاتفاق وقف إطلاق النار والزحف العظيم لسكّان الجنوب إلى قراهم.
المشهد الأوّل- الناقورة: في الخلفية تلالٌ يانعة الخضرة، سحبٌ متراكمة وبحرٌ هو الأشدّ زرقة. في وسط البلدة، طبقاتٌ جيولوجيّة من ركام المنازل الّتي كانت مبنية باتقانٍ وتنظيم بما يدلّ على مظاهر الوفرة، وكأن الإسرائيليين قد فجّروها تشفيًّا.
يتأبط لحافًا سميكًا مطويًّا، وفي اليدّ الأخرى يحمل أكياسًا سوداء تكاد تتمزق من كثرة الحاجيات المحشورة فيها. ثمة طبقةٌ رقيقة من الأتربة غطّت حذائه، ولاحت طبقةٌ رقيقة أيضًا من العرق تلمع على جبينه. يقف فوق تلةٍ من ركام منزله محاولًا البحث (وبحرجٍ واضح) عن أيّ شيء يمكن حشره بعد في أكياسه. يمشي بين الركام، مداريًّا مشيته كي لا يتعثر بأحد الأغصان أو المعادن الناتئة من باطن الأرض، تُلاحقه مراسلةٌ من الهواة بهاتفها لاستصراحه والتقاط صورٍ للمشهدية المُستهكلة إياها. بنفاذ صبرٍ يُحاول الرجل تفاديها وأسئلتها السّمجة عن الانتصار ومشاعره إزاء "التحرير الثالث"، تتلقف المراسلة إنزعاجه لتسأله "هل ستعود لبيتك في الناقورة؟"، لا يملك الرجل إلّا أن يُجيب عن سؤالها السّاذج بابتسامةٍ صفراء مُنهكة ويقول باقتضاب: "نقف على بيتي. أولادي أحبّوا بيروت، سنظلّ هناك".
تتبدل قسمات وجهها، لم تسمع المراسلة الهاويّة ما تُريد سماعه، فتشكره لتركض خلف امرأةٍ ترفع علامة النصر، هي الأخرى تتأبط جرّة زيتون، صارخةً "بالروح بالدمّ".
المشهد الثاني- علما الشعب: رائحة البخور الّتي لا تزال عالقة منذ ما قبل الحرب، مجسم مريم المُغبّر، والصلبان الذهبيّة، أعطت للكنسية المُتهالكة والمنخورة بالقذائف والرصاص والّتي كانت مُحتلّةً منذ أيام وحسب، طابعًا من الروحانيّة (mysticism). طبقةٌ من الزجاج الملّون المختلط بالأتربة والمياه الآسنة وصفحات الأناجيل الممزّقة، تغطي أرضيتها بينما كُتب على حيطانها الخارجيّة كلماتٌ بالعبريّة. في مدخل الكنيسة، جلست امرأةٌ ثلاثينية، بانت على وجهها ملامح الحنق والوجوم، فيما ومضت عيناها العسليتين بشيءٍ من الغضب ما أعطاها مظهر المشاكسة.
تقف السّيدة وتُعلن "هذا ما فعله حزب الله بنا، دمرنا، نحن نريد الجيش فقط". الإعلان الصاخب والجريء لفت نظر جمعٍ من الصحافيين الذين تبعوا السّيدة لتفقد منزلها –ما كان منزلها– لتصرّح أن القرى المسيحيّة دفعت فاتورة لا تتحمل مسؤوليتها، طالبةً العيش بسلام.
علما الشعب، الضيعة المسيحيّة الصغيرة، استحالت إلى أرض اليباب والدمار، وكما الناقورة المحاذيّة، كان حُطام كل شيء يُغطي كلّ شيء. ذلك فضلًا عن العشب البريّ النامي الذي حوّل ما تبقى من البيوت المسورة بحدائق وبساتين حمضيات، إلى عماراتٍ وحشيّة مهجورة.
أهالي البلدة الّذين أتوا لزيارتها لأوّل مرّة، كانوا مغتبطين بالعودة حتمًا، إلّا أن شيئًا يفوق ذلك ويتعداه قد سطا على مزاج هؤلاء، كأن الناس والبناء، ارتبطا ارتباطًا متداخلًا وعميقًا، فمع كل منزلٍ يتبين أصحابه أنّه هُدّم، مع كل شجرةٍ مقلوعةٍ من جذورها، مع كل انجيلٍ ممزّق ومتشظٍ على الأرض، كأن ثمّة شيئاً ما يسلب من الناس، الصحّة وحماسة العودة وأخيرًا الشعور بالانتماء.
المشهد الثالث- شمع: الطريق من الناقورة نحو شمع، مُتعرجٌ ومهجور، لكنّ مشهد البحر المترامي والمفتوح والمُطلّ على السّاحل اللّبنانيّ الجنوبيّ، أضفى عليه شيئًا من الدعة.
شمع البلدة الرائقة والمنسيّة والمتدرّجة من على تلةٍ مُطلّة على البحر المتوسط، والّتي تضمّ نقاط تمركّز قوّات الطوارئ الدوليّة، ما منح القريّة تنوّعًا ثقافيًّا مميزًا، قد تحوّلت إلى منطقةٍ مهجورة، مُعسكّرةٍ بدرجةٍ مستحيلة. تندلع الأشجار المُحروقة كأشجار جهنّميّة من على جنبات الطريق، كلابٌ نافقة وأخرى داشرة تبحث عما يؤكل. لدى وصولنا، لم يكن أهالي القرية قد جاؤوا لتفقد منازلهم بعد، حيث أن الانسحاب الإسرائيليّ منها كان قد بدأ توًّا.
أعلى التلّة حيث يقع مزار "شمعون- الصفا" وقلعة شمع الصليبيّة، اللذان تعرضا لتفجيرٍ عنيف محوّلًا الموقعين إلى تلالٍ من الركام ومطيحًا بإرثٍ ثقافيّ عمره مئات السّنوات على الأقلّ. من على هذا الشاهق المفتوح من صور حتّى الحدود اللّبنانيّة، تتبدى مشهدية القرية بأكملها، والّتي بدت نقطةً أخرى من سخام تُغطي فسيفساء السّاحل الجنوبيّ المُشوّه.
بدا ساحل الجنوب ومعه البحر وحيدًا، بعيدًا عن صخب "الانتصار" والاستعراضات، لا مواكب كرنفاليّة، سوى ازدحامٌ نسبيٌّ صامت.
المشهد الرابع- الجبين: المعلّبات الفارغة وزجاجات المياه وأكياس الخبز وأكواب النودلز سريعة التحضير المُتعفّنة، تُغطي حديقة المنزل (آخر ما تبقى من منازل الجبين) من أفقٍ إلى أفق. نجتاز العتبة المُتسخّة، كان هذا البيت مأوى لوحدةٍ من الجيش الإسرائيليّ. رائحة البيت مزيج من العفن والعرق والفضلات البشريّة، أكوامٌ من المأكولات المتعفّنة والفاسدة الّتي بدأت الديدان تتحرك بها، واقيات ذكريّة مُستعملة وأخرى غير مفتوحة منثورةٌ عشوائيًّا على الأرض، حيطان المنزل الفاره رُسم عليها نجمة داوود وكُتب عليها بالعبريّة رسائل حبٍّ وشعاراتٌ عنصريّة وأحيانًا لعبة الـ "XO". تحوّل البيت الفاره، والذي لم يتمّ تفجيره، إلى بيت طلبةٍ مراهقين طائشين حتمًا، لكن المفارقة، أن من كان فيه ليسوا بمراهقين، بل فقط جنودٌ قرّروا ترك مخلفاتهم بكل البشاعة الممكنة.
خارج المنزل يتجمّهر عددٌ من الأهالي الذين عادوا إلى البلدة لأوّل مرّة، وقفوا وسط الطريق، سور من لحمٍ ودمٍ وخيبة. اعتلى أحدهم الصراخ بخطبةٍ عصماء عن الانتصار والصمود أمام الإعلام، فيما وقفت زوجته إلى جانبه، غير آبهةٍ بزوجها المفوّه، بل نظرت باتجاه ركام منزلها صامتةً، ماطةً قسمات وجهها وفي حيرةٍ جليّة، تشرع بالبكاء. انتصارًا كان أم لا، لم يبدو أن السّيدة كانت تأبه، بل وقفت مشدوهةً. ردّ الفعل الإنسانيّ المعقول.
المشهد الخامس- الجنوب: أغرس قدميّ في الأرض الرخوة والرطبة بمياهٍ آسنة تختلط بالتربة الحمراء الّتي لفظتها الأرض بعد أعمال جرفٍ إسرائيليّة. متأملةً أرتال العائدين المنهكين نحو بيوتهم وأراضيهم، يقترب مني جنديٌّ في الجيش اللّبنانيّ، ليسألني إن كنت قد أتيت إلى هنا لتفقد منزلي، أقول له إنّني لست من الجنوب. اسأله كيف ممكنًا أن يكون بعضٌ من الأهالي متأملين خيرًا، من أين يأتي هذا الطموح بالعودة إلى أرضٍ محروقة. يقول لي: "الجنوبيون مرتبطون بالجنوب بما يُشبه حبل السرّة، هم على عنادهم وحبهم لهذه الأرض سيعودن إليها"، قالها بدماثة وسرعةٍ لعينة. كان لتأثير كلماته طابعٌ انفجاريّ عليّ، أيّ حبٍّ "عضويّ" هذا؟ أي "حبٍّ" متسامح هذا؟
أعود من الجنوب، ولا شيء يبدو احتفاليًّا أو انتصاريًّا، أو مفعمًا بالأمل. بدا الجنوب، وحيدًا حتمًا، مثقلًا بكلّ ما حدث ويحدث وفي طور الحدوث.
***
نستيقظ وننام على أملٍ وغبطة بأنّ "السّيئ قد مرّ". في الأسابيع الأخيرة، كان هناك شعورٌ عامّ وعند رهطٍ لا بأس به من سكّان هذه البقعة الجغرافيّة التعسة، بالتفاؤل وإنّ كان حذرًا، ظنّ كثيرون أنّه ربّما حان الوقت لكي نلتقط أنفاسنا بعد ردحٍ طويلٍ وخانقٍ من الزمن والمتاعب. وربّما، ربّما سيكون الغدّ الذي بذلنا جهودًا هائلة من أجل بلوغه وعلى سذاجة الإيمان به، أفضل. وأنّ الكابوس الأبوكاليبسيّ الرهيب انقضى إلى غير رجعةٍ قريبة على الأقلّ. وها نحن اليوم في معترك ورشةٍ هي الأشقّ لنكون مواطنين أسوياء بعد عقودٍ من مواطنتنا الشقيّة والمُلتبسة، لا مُرشحين دائمين للشهادة أو ضحايا بالمجان..
مشهدية الجنوب، دحضت كل هذا، ووضعته في سياقه الواقعيّ: كل آمالنا هذه لم تكن سوى فصولٌ من المونودراما المتمرّدة على النصّ المكتوب سلفًا، هي لحظاتٌ مُكثّفة دنونا فيها بشكلٍ خطير من حلمنا نحو الدولة. وأن النكبة المستمرة وعلى أشكالها وتلاوينها وأنساقها وفظاعاتها، هي لصيقتنا الحتميّة، هي شاخصةٌ أمامنا، راقصةً فوق صدورنا كشيطان. دليلٌ حسيّ وعيانيّ، على لعنتنا الأبديّة.
تعليقات: