المسار المهني لهؤلاء النازحين كان مليئاً بالمحن، لكنّه كان مفعماً بالتجارب الفريدة (المدن)
فرضت الحرب السورية على اللاجئين السوريين واقعًا مريرًا، حيث وجد الكثيرون أنفسهم مجبرين على ترك وطنهم، ومواجهة حياة جديدة مليئة بصعوباتٍ معيشية واجتماعية ونفسية، وتحدياتٍ كبيرة، والانطلاق نحو المستقبل من نقطة الصفر. ومن بينهم من تمكن من تجاوز المحن ونجح في تذليل العقبات، وتحدى ذاته والبيئة التي استضافته رغم الشعور الدائم بالغربة.
فن الكروشيه وصناعته
"أصعب شعور أن تكوني مرفوضة في كل مكان وزمان لمجرد أن جنسيتك لا قيمة لها. اختلف الوضع، وجنسيتي لها مستقبل. سأعود في القريب العاجل. بلدي بانتظاري". هكذا عبّرت علا معتوق، النازحة من دمشق "مدينة الياسمين" كما تحب أن تصفها. روت علا كيف حولت تجربتها في لبنان إلى فرصة لبناء مشروع شخصي يعكس شغفها العميق.
بدأت رحلتها في صناعة "الكروشيه" على سبيل الهواية، أتقنتها منذ أن كانت في التاسعة من عمرها، قبل أن تتحول إلى حرفة ومصدر دخل أعاد تشكيل حياتها. كانت البداية متواضعة، حيث استخدمت ملابس قديمة أعادت تدويرها، لتحويلها إلى خيوط ثم صنعت منها قطعًا فنية يدوية للبيع. ومع مرور الوقت، شهد مشروعها تطورًا ملحوظًا. وتمكنت من شراء معداتٍ وخيوطٍ جديدة، وبدأت بتوسيع نطاف عملها.
نجحت في لبنان رغم التحديات التي فرضتها ظروف اللجوء، وعن تجربتها تقول: "الصبر هو مفتاح كل خطوة. تعلمت أنّ الإستمرارية والإيمان بقدراتي هما السلاح الأقوى. ومع كل اختبار، اكتشفت أنّ الأشياء تتحقق مع الوقت، وأنّ البدايات الصعبة ليست إلا بوابة لفرصٍ أكبر. كما أنّ القوة تكمن في التمسك بالحلم مهما كانت الظروف".
كانت حياكة "الكروشيه" بداية الحلم، لكنها لم تكن المحطة الأخيرة. فبينما كانت تنسج الخيوط بين يديها، تشكّلت لديها فكرة جديدة لصنع عالمٍ آخر، يوازي عالمها الأول ويدعمه. حبها للقراءة شكل جزءًا أساسيًا من يومها ومن هنا ولدت فكرة بيع الكتب كنافذة لنشر الوعي والثقافة.
مسارها كان مليئاً بالمحن، لكنّه كان مفعماً بالتجارب الفريدة. فهي لم تنظر إلى المنافسة مع اللبنانيين كعقبة تحبط عزيمتها. بل اعتبرتها حافزًا لتطوير وإثبات قدراتها. وتقول: "عندما قررت الإنتقال إلى لبنان، كنت أعلم أنني سأصبح جزءًا من هذا المجتمع. بالنسبة لي، نحن لا نتنافس بل نكمل بعضنا البعض بالكفاءات والخبرات".
هواية التصوير وتغيير المهنة
تحويل التحديات إلى فرص للنجاح عاشها واختبرها المهندس بالتحكم الآلي والحواسيب عبد القادر طليمات، المهجّر من حمص. عندما وصل إلى لبنان، كان في حيرة من أمره، لا يعلم من أين يبدأ وكيف يحقق استقلاله المادي، لا سيما أنّ دخله الوحيد يعتمد على مساعدة عائلته. قرر بناء مستقبله بنفسه. بدل مهنته، تعلم التصوير. فالتصوير بالنسبة له كان شغفًا يحلم ببلورته. وبعد اكتساب المهارات اللازمة، اكتشف أنه يمتلك عينًا فنية وقدرة إبداعية غير متوقعة. رغم الظروف الصعبة التي فرضتها جائحة كورونا، استطاع أن يحقق تطورًا ملحوظًا في مجاله. دخل متدربًا في شركة وأثبت جدارته سريعًا. وبعد شهرين من العمل، أعجبوا بإبداعه وقرروا تثبيته براتب يوازي نصف ما يتقاضاه الموظف اللبناني. لكن بعد سنتين من العمل والتطور المستمر، قرر فتح مشروعه الخاص بإمكانيات مالية محدودة. وعزز حضوره على صفحات التواصل الإجتماعي، وصار له جمهور من المتابعين واستقطب مشاريع جديدة.
ويقول عبد القادر: "لبنان بلد الرقي والثقافة والإنفتاح، في عهد الأسد كنا محدودين ومنغلقين على العالم. تجربتي في لبنان مليئة بالتحديات، فالتعامل مع بيئة جديدة لم يكن سهلاً، لقلة المعارف، ولكن بفضل عملي وجدت فرصًا لبناء علاقات واسعة. المنافسة في هذا المجال كانت قوية، لكن الناس بشكل عام يقدرون الإبداع أكثر من أي شيءٍ آخر. كلما أبدعت أكثر، زادت الفرص أمامك. ثقافة الإحترام المتبادل هي المفتاح في التكيف مع المحيط".
بعد سقوط نظام الأسد، أصبح عبد القادر يعيش في صراع داخلي بين العودة إلى سوريا بعد تأسيس مشروعه الرائد أو البقاء في لبنان. ويقول: "أصبح لدي احساس حقيقي بالإنتماء، وأدركت أنّ لدي مسؤولية والتزام عميقان للعودة إلى بلدي، لإعادة بنائه ورفعه من تحت الركام".
التجربة المريرة والمحن
قصة نجاح محمد (فضل عدم ذكر اسمه كاملاً) لا تختلف كثيرًا عن أقرانه إلا بالتجربة المريرة التي عاشها. فمحمد الآتي من دمشق "أرض الكرامة والعزة، وبلد أحلامه، وطفولته، ونشأته، وأهله وأحبابه، كما يصفها، عمل في محال لبيع المكسرات لتأمين معيشته، لكنه بعد أربع سنوات من العمل الشاق، تمكن من إنشاء مشروعه في صناعة الأحذية.
ويروي محمد أنّ غربته عن بلده كانت قاسية ومريرة، تركت جرحًا عميقا بداخله، وتطلب وقتاً للشفاء منه والتأقلم في البلد الجديد المضيف، الذي أصبح بيته الثاني، كما يقول.
وبفضل إصراره وتفانيه في العمل، أخذ مشروعه بالتوسع تدريجيًا، بقصده الزبائن من أنحاء مختلفة لسمعته الحسنة.
ومثل محمد، كالكثيرين غيره، يقف حائرًا وعليه أن يختار بين نجاح مشروعه في البلد الذي استضافه، أو العودة إلى سوريا. فهو يرى أنّ سقوط الأسد بمثابة بداية جديدة لنهضة لبنان وسوريا معاً.
صحيح أنّ منزله هناك سوّي بالأرض، لكن حلم العودة لا يزال راسخًا في عقله، وما يردده دائمًا: "سنعود يومًا ما ونعيد بناء كل ما دمر لنكتب فصلًا جديدًا من الإصرار".
تعليقات: