أشخاص يمرون قرب محطة قطار الحجاز التاريخية في دمشق في (26 ك2 2025، أ ف ب).
حال الشارع السوري اليوم يزداد حيرةً مع كل قرار جديد يصدر يومياً، إن لم يكن كل ساعة، ومعظم القرارات مبنية على تصنيفات ومعايير جديدة لم يعتدها السوريون. منها المحق، ومنها الجائر. وفي مقدمة الحديث مع أي مواطن سوري ترى أن لقمة العيش على رأس المطالب الأخرى، أضف إلى ذلك الأمن والسلم اللذين بات الناس يتطلعون إليهما بعد جملة الأحداث الأخيرة في البلاد. أمّا الحكومة الانتقالية، فتضع قوانين وتصدر قرارات تتجاوز بمضمونها الفترة الانتقالية إلى دائمة!
وفي ظل هذه التخبطات التي يعيشها السوريون اليوم، تظهر مشكلة التسريح الوظيفي عائقاً يحول بين الشعب والاطمئنان تجاه الحكومة الجديدة، كما أن هذه المشكلة تواجه الإدارة السورية الجديدة أيضاً والتي قالت إنها تنفذ خططاً من أجل إعادة هيكلة إدارية لموظفي الحكومة والقطاع العام في البلاد وترى صعوبة في تطبيق العدالة بشأن هذا الملف، ليكون هذا القرار واحداً من القرارات المثيرة للجدل خلال الأسابيع الأولى بعد سقوط النظام في الثامن من كانون الاول/ ديسمبر 2024.
قانون ولكن...
هذه الإجراءات الإدارية الواسعة المتعلقة بتقليص أعداد موظفي القطاع العام تم تطبيقها بطرق عدة في كل مؤسسة حكومية من خلال إدارتها الجديدة بعد أمر من الوزير المعني بالمؤسسة، في حين يؤكد باحثون اقتصاديون وأكاديميون أنه بحسب قانون العاملين في الدولة، فإن قرار الفصل يأتي من رئيس مجلس الوزارء (وليس من الوزير المعني) ويكون بناء على اقتراح لجنة مؤلفة من وزير العدل، ووزير الشؤون الاجتماعية والعمل، ورئيس الجهاز المركزي للرقابة المالية، باعتبار أن القرارات تصدر بموجب القانون!
والجدير بالذكر أن هذه القرارات تاتي وسط وعود من الحكومة الانتقالية بزيادة مرتقبة على الرواتب بمقدار 400% ستُموّل من خزانة الدولة ومساعدات إقليمية واستثمارات جديدة، وأعلنت الحكومة هذه الزيادة منذ سقوط النظام ووعدت بتطبيقها خلال الشهر الأول من 2025، ليتحول الأمر تدريجياً إلى قرار تعسفي بحق آلاف الموظفين في معظم القطاعات.
هذه الإجراءات وجدت من يراها عملية طبيعية بسبب الفائض الكبير في أعداد الموظفين، والكثير أيّد هذا القرار بحجة أن النظام السابق كان يكسب ولاءات الشعب له من خلال تعيين موظفين بعقود عمل من دون دوام فعلي أو حتى فائدة مهنية في المؤسسات التي يعملون بها، من جهة ثانية، وهي الغالبية التي رأت أن اتخاذ قرارات كهذه ليس من صلاحيات الحكومة "الموقتة" التي هي حكومة تصريف أعمال بالتالي لا تحظى بالشرعية الوطنية والإجماع.
تنوعت الطرق والهدف واحد
في الواقع، تطبيق هذا القرار لم يكن بطريقة واحدة فحسب، فبعض الموظفين تم منحهم إجازة إجبارية لمدة ثلاثة أشهر واحالتهم على وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، وبعضهم الآخر أُنهيت عقودهم بشكل تام، مثل ذوي الشهداء والمسرحين من خدمة الجيش والمعينين في دوائر الدولة سابقاً، والبعض تم فصلهم تعسفاً من دون أسباب، فمثلاً في وزارة النقل فُصل حوالى 17% من موظفي الوزارة، والأمر مشابه في وزارات الصحة والصناعة والتنمية الإدارية.
والحال ليس بعيداً عن المؤسسة الأمنية والعسكرية السابقة- بل وأكثر حساسية- والتي يوجد فيها حوالى مليون و300 ألف موظف لا يعرفون مصيرهم حتى الآن، ورغم قيامهم بعملية تسوية لأوضاعهم وإثبات عدم ضلوعهم بجرائم وانتهاكات مباشرة، إلّا أن العديد من المنتسبين للقطاع العسكري من جنود وعقود واحتياط لا حيلة بيدهم سوى الانتظار الذي قد يكون لا فائدة منه، لاسيما أن الآلاف منهم ما زالوا في سجون حماة وإدلب.
وعند الحديث عن الوظائف نتحدث بالضرورة عن الرواتب، والتي هي بالأساس غير كافية في ظل الوضع المعيشي والواقع الاقتصادي الخانق في سوريا حتى قبل سقوط النظام. كما أن التعاطي مع هذا الملف وفق مبدأ "من يحرر يقرر"، هو خاطئ بالمطلق، لأن الشعب هو المتضرر الوحيد، فإذا كانت لقمة العيش بيد طرف واحد فإن الطرف الآخر وبكل تأكيد سيعيد رواية الثورة، وحول ذلك يقول أحد المحللين الاقتصاديين: "إن قطع الحكومة الجديدة للرواتب غير الكافية بالأصل، يزيد الوضع صعوبة، ويدفع الناس اتجاه احتمالات جديدة".
عقد بلا صلاحية.
وبحسب مصادر إعلامية، فإن الحكومة الموقتة أنهت عقود 700 موظف في مديرية صحة درعا، ومثل العدد في مديرية صحة طرطوس وقس هذا على كل مديريات الصحة في المحافظات، ما يشير إلى إنهاء أكثر من 8000 عقد ضمن قطاع الصحة فقط.
كما أنهت الحكومة الجديدة عقود 67 عاملاً في معمل أحذية السويداء وفي معامل أخرى في أرياف المدن بذريعة أنها أملاك تتبع للنظام السابق، بالإضافة إلى 183 موظفاً في القصر العدلي في محافظة اللاذقية، وبعدد إجمالي وصل إلأى 700 عقد في القصور العدلية ضمن المدن الأخرى والتي تم إنهاؤها أيضاً، ومنحتهم الإدارة أجراً لمدة ثلاثة أشهر لا يتجاوز 20 دولاراً في الشهر.
وعلى نهج القرارات الجائرة، أصدرت الحكومة الموقتة في قراراً بحلّ الضابطة الجمركية بكل مسمياتها وتشكيلاتها، وبات على العاملين في الضابطة وهم بالآلاف على اختلاف مراكزهم الوظيفية، تسليم عُهدهم والجلوس في منازلهم، مع إعادة تشكيل الضابطة بما يخدم المصلحة العامة وفق تصريحات الحكومة الجديدة. والجدير بالذكر أن المدير العام للجمارك في سوريا كان قد أصدر قرارات منفصلة أعفى بموجبها عدداً من مديري الجمارك في المنافذ البرية والبحرية وعيّن بدلاً منهم، وهذا يعني أن كل من فُصل قد يكون سُرّح نهائياً!
ولم يقتصر نهج القرارات التعسفية على موظفي الجمارك فقط، فقد وضعت وزارة الاقتصاد والتجارة الخارجية قائمة بأسماء العاملين المطلوب استمرار عملهم لمتابعة -تصفية- أعمال المؤسسة العامة للتجارة الخارجية والتي أصدرت بها رئاسة مجلس الوزراء قراراً يقضي بإلغائها، فيما يوضع باقي العاملين تحت تصرف الوزير، وربما يكون التصرف تسريحاً أيضاً.
أصوات احتجاجية
الموظّفون احتجّوا على هذه الإجراءات التي وصفوها بالظالمة والمجحفة بحقهم بعد خدمتهم الطويلة في مجال عملهم، ورفعوا لافتات تندد بالقرار وتطالب بعودتهم إلى الوظيفة، وبت تشاهد في ساحات الاعتصام موظفين في القطاعات الصحية والإعلامية والتربوية وحتى الزراعية، وآخرين من عناصر الشرطة، والكثير ممن فُصلوا من وظائفهم وحُرموا من رواتبهم ومساكنهم أيضاً.
فعلى سبيل المثال، وجه وزير الزراعة في حكومة تصريف الأعمال بمنح العاملين المعينين بموجب مسابقة المسرحين من الجيش، والعاملين المفرغين في حزب "البعث"، والعاملين المعينين من "ذوي الشهداء" إجازة بأجر لمدة ثلاثة أشهر بالراتب القديم، والأمر لم يقتصر على هؤلاء فقط، بل أن وزارة الزراعة سرحت عدداً كبيراً من موظفيها، وقالت إنه سيتم احالتهم على دوائر أخرى تحتاج اليهم، فيما قال المحتجون إن "هذا القرار يأتي تمهيداً لفصلهم من وظائفهم".
وعن هواجس الموظفين التي تزداد مع اقتراب نهاية الشهر، يقول طارق، وهو عامل في وزارة الصناعة، إنه "طلب منه ملء استبيان إالكتروني وزعته الحكومة في إطار عملية إعادة الهيكلة وحتى الآن لم يتلق أي رد". وبحسب تصريحات الحكومة الجديدة، فإنها تسعى إلى تقليص الكادر الحكومي ومستعدة للاستغناء عن قرابة 300 ألف موظف من موظفي الإدارة العامة خلال الفترة القادمة، ما يعني أن فكرة عدم عودة قسم من الموظفين المسرحين إلى وظائفهم السابقة قائمة فعلاً.
تصريحات متناقضة
وفيما قال مدير التنمية البشرية في وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل لوكالة الأنباء السورية "سانا" إنه في ظل الترهل الإداري ووجود البطالة المقنعة في بعض الأقسام، تم منح عدد من الموظفين إجازات مدفوعة الأجر لمدة ثلاثة أشهر، وذلك لإتاحة الفرصة لدراسة وضعهم الوظيفي بشكل دقيق، ولن يكون هناك أي تسريح للموظفين في الوزارة بعد تقييمهم من قبل إدارة الموارد البشرية.
وأضاف أنه بعد مرور هذه الفترة ستتم إعادة تقييم وضع الموظفين، ومراجعة إمكان إعادة تفعيلهم في أماكن جديدة داخل الوزارة، أو تحديد مدى الحاجة لهم بناء على الاحتياجات الفعلية للأقسام.
اللافت أن بعد هذه التصريحات المُطمئنة أنهت الحكومة عمل نحو 10 آلاف موظف في وزارة الإعلام، منهم سبعة آلاف من موظفي الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون. ويقول (ب.ي) وهو موظف في التلفزيون السوري: "خبرتي في العمل الإذاعي لا تقل عن 15 سنة وأقتات من هذا العمل عائلتي وأنا، وأي قانون في العالم يكون من صلاحياته فصل الناس الكفوئين ووضعهم في منازلهممن دون مبررات كافية ورواتب جيدة؟ مع أملي بألّا يتم تسريحي نهائياً".
والحقيقة أن هذه الهواجس لم تأتِ من فراغ، فكل موظف تم منحه إجازة حتى النظر بأمره، يقابله موظف فصل من عمله نهائياً من دون أسباب واضحة، ولا يستطيع حتّى الشكوى لجهة قانونية بغرض أن القانون غير موجود أصلاً!
نتائج دون توصيات
وبما أن أي فعل يقابل برد فعل، وعندما ينشأ هذا الفعل لأسباب معيشية، فرد الفعل حتماً ستكون له نتائج كارثية إذا لم يعالج بالشكل الأمثل، وعن ذلك أوضح دكتور في كلية الاقتصاد في جامعة دمشق أن عملية التسريح هذه ستؤدي إلى زيادة العاطلين عمن العمل، متوقعاً أن يدخل هؤلاء في حلقة الفقر وانعدام أمن الدخل مع برامج الحماية الاجتماعية، أو برامج إعادة تدوير للعمالة في أماكن عمل جديدة، وقد تتسبب هذه البطالة بإنتاج مشكلات اجتماعية مثل السرقة والعنف والجرائم.
ولأن الثورة نشأت من مطالب محقة لم يتم سماعها من قبل الحكومة السابقة شملت الظلم والفقر والإجرام، فإن هذه المطالب الجديدة للشعب سواء كانت محقة أم لا- إذا لم تُسمع- فهي حتماً ستشعل ناراً جديدة قد تحرق معها الكثير من إنجازات الحكومة الموقتة، ومن يعلم ربما تُشعل ثورة من جديد!
تعليقات: