المظلومية لا تقتصر على فئة معينة، بل تعكس الآلام التي مرّ بها اللبنانيون بشكل عام (علي علوش)
بينما تتوالى مشاهد عودة الأسرى الفلسطينيين إلى أهلهم في إطار اتفاق التبادل بين حركة "حماس" وإسرائيل، كانت قوات الاحتلال الإسرائيلي تواصل توغلها في عمق القرى الحدودية بجنوب لبنان، حيث قامت بعمليات تجريف واقتلاع للأشجار وقطع الطرقات.
هذا هو حال منطقة جبل عامل في خضم ما سُمي بـ"وقف إطلاق النار" بين لبنان وإسرائيل. في هذا السياق، تتداول وسائل الإعلام المحلية تغطية سطحية لهذا الحدث، بين من يراه انتصاراً، ومن يعتبره هزيمة، لكن جميع النقاشات تظل بعيدة عن واقع معيشة الجنوبيين، خصوصاً أهل جبل عامل.
معادلة جديدة
يعيش العامليّون واقعاً مختلفاً تماماً: التصعيد العسكري مستمر، وإطلاق الرصاص نحو البلدات متواصل، وعمليات النسف تتجدد. يعتقد البعض أن معادلات التفاوض لم تشملهم. يتساءل أبناء الجنوب، الموالون والمعارضون والمحايدون، في مواقع التواصل: أين هم اليوم؟ لماذا تركوا وحيدين؟
من الواضح أن لبنان يقف الآن أمام معادلة جديدة وحسابات سياسية معقدة، على خلفية الحرب الإسرائيلية الأخيرة وتطوّرات المنطقة، ومع انتخاب العماد جوزاف عون رئيساً للجمهورية وتكليف نواف سلام بتشكيل الحكومة.
انتظار طويل
لكن التفاؤل اللبناني هذا لم يلمسه البعض في الجنوب، خصوصاً مع قرار الكابينت الإسرائيلي البقاء في مناطق جنوبي لبنان. فإذا كان أهل جبل عامل قد عرفوا تاريخياً بصمودهم في مواجهة الاحتلالات المتعاقبة، من الفرنسيين إلى الاحتلال الإسرائيلي، فإن سكان القرى الحدودية، الذين نزح العديد منهم منذ 8 تشرين الثاني/أكتوبر 2023، يعيشون انتظاراً طويلاً للعودة إلى قراهم. تعود الذاكرة إلى يوم التحرير في 2000، وتستحضر مشهد غارات الاحتلال على مداخل شقرا وحولا وميس الجبل. أما اليوم، فيختلف المشهد تماماً، حيث لا تزال إسرائيل تعتدي على الجنوب، ولبنان الرسمي لم يصدر أي بيان حاسم بشأن عودة الجنوبيين إلى قراهم، في وقت لا تزال فيه قوات الاحتلال متمركزة في المنطقة.
شهداء مجهولون
وفي المقابل، تظل الصورة المأساوية حاضرة من خلال الكم الهائل من الشهداء والجرحى والمفقودين والأسرى، الذين لا تزال بعض أسمائهم غائبة عن الإعلام. كما أن الدمار الهائل الذي خلفته الحرب في جنوب لبنان ما زال قائماً، ففي كل قرية من قرى جبل عامل تجد الأراضي المحروقة والمنازل المدمرة بفعل الاعتداءات الإسرائيلية. ورغم كل ذلك، تبقى إرادة أهل جبل عامل في العودة إلى منازلهم ثابتة.
مسلسل "يا وحدنا"
تحتدم النقاشات في مواقع التواصل عن الأسباب التي تركت أهالي جبل عامل وحيدين بمواجهة محتل من جهة، وبهاجس العودة من عدمها. وتتحول القضية إلى مساحة لتصفية الحسابات السياسية، لكن المساءلة تبقى ضرورية.
الصحافية بادية فحص، ابنة النبطية، وصفت هذا السؤال بـ"الحساس جداً"، وقالت: "لن أعبّر عن رأيي الشخصي، لكنني أستطيع نقل ما يتداول بين أهل الجنوب في مجالسهم. يرون أن إيران تتحمل المسؤولية عن النكبة التي أصابتهم، معتبرين أنها حرضت حزب الله على المواجهة وأعدته لهذا اليوم. وعندما تفاجأت بالحرب وبتفوق إسرائيل على قدراتها، تفرجت ثم انسحبت".
وتضيف فحص التي واظبت على نشر صور ومنشورات متعلقة بجبل عامل، أن هذا الشعور سائد بين الجنوبيين الذين يشعرون بأنهم "منذ 8 تشرين الثاني/أكتوبر 2023، أي منذ بداية حرب الإسناد، متروكون وحدهم". وتؤكد أن غموض اتفاقية وقف إطلاق النار، وغياب أي جهة محلية تتبنى مصيرهم، يعمقان الشكوك والقلق بشأن مستقبلهم. وتصف الساعات الأخيرة قبل عودة سكان جنوب النهر وكأنها "الحلقة الأخيرة من مسلسل "يا وحدنا".
اتفاقيات مشرفة.. ومذلّة
وعن تطورات الأوضاع في غزة، توضح فحص أن ما حدث بعد إعلان وقف إطلاق النار استفز مشاعر أهل الجنوب. إذ تبين لهم أن هناك اتفاقيات مشرفة وأخرى مذلة. وتضيف: "برأيي يجب أن نبحث عن الجهات التي فاوضت نيابة عن الطرفين في كلا الاتفاقيتين".
إرث الألم.. وكربلاء
تجسد أغنية فيروز "إذا واقف جنوب واقف بأولاده" واقع الجنوبيين بكلماتها، فقد حملت هذه الفئة إرثاً من القهر والتدمير والحروب المستمرة منذ معركة كربلاء حتى اللحظة. اليوم، يقف أهل الجنوب وحيدين أمام التدمير الذي حلّ بجنى عمرهم، وبيوتهم، وأراضيهم، ليعيشوا نكبة جديدة تضاف إلى سلسلة مآسيهم.
إلا أن هذه المظلومية لا تقتصر على فئة معينة، بل تعكس الآلام التي مرّ بها اللبنانيون بشكل عام، وخصوصاً أولئك الذين عايشوا وذاقوا مرارة هذه الأحداث بشكل مباشر، ووجدوا أنفسهم عالقين في دوامة التخبّط بفعل "الشرق الأوسط الجديد" والعربدة الإسرائيلية المستمرة.
ورغم استمرار معاناتهم، لم يجد أبناء جبل عامل بعد إجابة شافية على السؤال الذي يؤرقهم: "لماذا بقي جبل عامل وحيداً؟". وبينما يواصلون محاولات التفكير والتأمل في ما حلّ بهم، يظل الجواب غائباً. وفي حين يترقب الأهالي انعكاسات هذه الفترة على مستقبل جبل عامل وكل القرى الممتدة على الخط الحدودي مع فلسطين المحتلة، يبقى السؤال قائماً.
تعليقات: