لا يمكنك التوغّل في سيرة الأديب والمؤرّخ الإسلاميّ الدكتور إبراهيم بيضون وأن تنسى الرجل الشاعر والصحافيّ والنموذج في الثقافة المقاومة، وهو الذي خرج من أحد بيوت مدينة بنت جبيل على خطى أبيه الحاج علي بيضون محرّك انتفاضة بنت جبيل سنة 1936 إلى جانب علي بزّي وموسى الزين شرارة ضدّ الانتداب الفرنسيّ، هذه الانتفاضة التي يعتقد أنّها كانت الحركة “العامليّة” الوحيدة التي سقطت فيها دماء في سبيل الاستقلال. “وكان لها تأثير على المزاج العامليّ بصورة خاصّة، هذا المزاج المقاوم في ما بعد”.
غادرنا الأديب المتنوّع والمتنوّر المؤرّخ إبراهيم بيضون السبت الماضي في الأول من شباط (فبراير) عن 84 عامًا، كانت حافلة بالإنتاج الإبداعيّ، عاد إلى بنت جبيل كي ينام في ثراها هادئًا كما كان بطبعه وشخصيّته، لكنه كان ثائرًا بعطائه وأبحاثه وإيغاله في التاريخ، لا سيّما التاريخ الإسلاميّ والتاريخ العربي المرتبط أكثر بالإسلام، من دون أن ينسى عليّا الإمام “في رؤية النهج ورواية التاريخ” وثورة الحسين حدثًا وإشكاليّة؛ وفي إصدار مجموعة كبيرة من الكتب والأبحاث التي ستخلّد خطاه في أدب التقفي والتاريخ.
حاورته لسيرته الغنيّة، فرواها بتفاصيلها الجميلة المتدرجة صعودًا وتألقًا، وكي لا ينحرم القرّاء هذه السيرة العصاميّة العامرة بالجدّ والنشاط والاستبسال في نهل العلوم والثقافة بدرجات التفوّق البارز، أنشرها اليوم تحيّة إلى شخصيّته الفذّة وسيرورته التي فاضت بكلّ الخير والنجاح ولإنتاجه الغزير والهادف الذي أغنى المكتبات العربيّة والإسلامية وطلبة العلم والتاريخ.
المشهد الأوّل فلسطين
يقول: “ولدت في بنت جبيل، في العام 1941، من القرن الماضي؛ لا أتذكّر كثيرًا من تفاصيل الطفولة، إنّما عرفت في ما بعد أنّ والدي كان مغتربًا في الأرجنتين، ثمّ في السنغال في أفريقيا، وكان هو المحرّك لانتفاضة 1936 ضدّ الانتداب الفرنسيّ، هذه الانتفاضة، أعتقد أنّها كانت الحركة الوحيدة التي سقطت فيها دماء في سبيل الاستقلال. طبعًا كان لها تأثير على المزاج العامليّ بصورة خاصّة، هذا المزاج المقاوم في ما بعد.
أوّل مشهد أتذكّره هو قوافل الفلسطينيّين المهجّرين الذين يحملون متاعهم على أكتافهم، ومشاهد النساء والأطفال، هذا المشهد لا يزول من بالي إطلاقًا وأتذكّره عندما أتذكّر طفولتي. وبالتالي نشأتُ والمقاومة في نسيجي الثقافيّ الاجتماعيّ وفي ممارساتي اليوميّة، سواء كانت القضيّة تخصّ بنت جبيل أو تخصّ الجنوب أو تخصّ أيّ مكان آخر في العالم.
أنا مع هذه المقاومة تلقائيًّا في أيّ بلد كانت ومع كلّ حركة تحرّر؛ طبعًا عبّرنا عن هذا التوجّه وبخاصّة في المجلس الثقافيّ للبنان الجنوبيّ وكنت قد تولّيت دورًا فيه منذ السبعينيّات وحتّى التسعينيّات تقريبًا. وقد أتيح لي خلال سفر الصديق العزيز الأستاذ (الراحل) حبيب صادق أن أقوم بدور وأن أتحمّل المسؤوليّة. وأعتقد أنّ تجربتي في المجلس هي التجربة التي أعتزّ بها وأعتبر أنّ المجلس هو الحزب الوطنيّ وربّما القوميّ الذي انضويت فيه، باعتبار أنّني لم أنخرط في حزب ما من الأحزاب السياسيّة التي انضوى فيها الجنوبيّون من جيلي ومن بعده.
مدرسة بنت جبيل
المدرسة الأولى في بنت جبيل وهي المعروفة اليوم، بمدرسة الأستاذ عبد اللطيف سعد. أسميته المعلّم الأوّل في مرثيّتي له بعد وفاته، وكنت معجبًا به إلى حدّ كبير، كان شخصيّة قويّة، وكان تربويًّا صارمًا لكنّه لم يكن صداميًّا أو متحزّبًا. نتعرف أنّه في البلدات الصغيرة هناك اتّجاهات انتخابيّة كان هو على عكس آخرين، كان متوازنًا ويعاقب كلّ من يظهر ميلًا لاتّجاه ما، مع العلم أنّه من المفترض أن تكون له ميول، ولكن هذه الميول لم يظهرها أبدًا. مرّت الأيّام وعندما كنت أتابع معه خلال زياراتي إلى بنت جبيل، كنت ازروه كلّما أتيح لي ذلك، وعندما حزت شهادة الدكتوراه في فرنسا كان لا يزال ببالي وقدّمت له نسخة من أطروحتي. وعندما كبر أكثر وتقاعد أصبح صديقي وكنّا نلتقي دائمًا.
تجربة المدرسة مع المعلّم الأوّل، أيّ مع عبد اللطيف سعد، كانت تجربة جميلة وحميمة وإن كنت أحيانًا أجنح عنها إلى مجالس الشعراء وأحيانًا الاحتفالات التي كانت تقام في بنت جبيل إذا حدث أن توفّي كبير في البلدة وكان من الطبيعيّ أن يتبارى الخطباء والشعراء في ذكراهم، وكنت أترقّب الفرص لأستمع ربّما من وراء النافذة، لأنّني مثل كثيرين من أبناء جيلي كنّا نتعلّق بالشعر ونحبّ الشعر ونحاول أن ننظم الشعر. لذلك لم تكن لي طفولة بالمعنى المتداول. الأطفال يمارسون الألعاب المختلفة وعندما يكبرون يتردّدون على المقاهي أو غير ذلك، هذا لم أمارسه إطلاقًا، وإنّما كنت أتوق إلى صحبة الكبار، الأكبر سنًّا منّي، الأدباء والشعراء، ومن يتاح لي أن أجالسه وأجد فيه الحديث الشائق والذكاء وغير ذلك.
لم تكن لي طفولة بالمعنى المتداول. الأطفال يمارسون الألعاب المختلفة، هذا لم أمارسه إطلاقًا، وإنّما كنت أتوق إلى صحبة الكبار، الأكبر سنًّا منّي، الأدباء والشعراء، ومن يتاح لي أن أجالسه وأجد فيه الحديث الشائق والذكاء وغير ذلك
بيروت وجهة الدراسة والعمل
جئت إلى بيروت نحو العام 1958 أو ما شابه، فالتحقت في إحدى الوظائف بمحكمة بلديّة بيروت، ورأيت صحبًا هناك يختلفون في جيلهم عن معظم الموظّفين، وكان من الطبيعيّ أن آنس إليهم، وتحفّزت من خلالهم لمتابعة دراستي، فالتحقت بمدرسة ليليّة إلى أن درسنا الشهادة الموحّدة السوريّة كما عدد كبير من اللبنانيّين سنة 1963 وكانت مطالعاتي في اللغة العربيّة، وكنت أقرأ كثيرًا، هذا ما ساعدني على أن أفوز بهذه الشهادة وأن أحقّق فوزًا مهمًّا فيها، وكان أستاذي معي وكان أديبًا متينًا في اللغة هو الأستاذ محمّد فلحة رحمه الله، وقد حزت علامات أكثر منه في اللغة العربيّة وطبعًا كنت أمازحه ولكن، أين أنا وأين هو في اللغة؟ كان من باب التمازح ليس إلّا.
في رحاب الجامعة اللبنانيّة
بعدها انتسبت إلى الجامعة اللبنانيّة، في فرع العلوم السياسيّة ثمّ وقعت لي ظروف أربكتني وأعاقتني عن متابعة الدراسة في كلّيّة الحقوق، لكن حمّسني بعض الأصدقاء على أن أنتسب إلى جامعة بيروت العربيّة، كان اتّجاهي نحو الأدب وهذا شيء طبيعيّ، ولكن لم أدرِ كيف وجدت نفسي في قسم التاريخ ومضيت في هذا القسم وكانت دراستي طبيعيّة، وكنت أنال علامات رفيعة وكنت أقوم بنشاطات ثقافيّة واجتماعيّة خلال هذه الأعوام.
لم أتابع مباشرة، أمضيت سنة درست فيها بصفة متعاقد، كلّيًّا، في ثانوية بنت جبيل، ثم رأيت أن أذهب إلى فرنسا من أجل الدكتوراه وبقيت ثلاث سنوات هناك ونلت شهادة الحلقة الثالثة “3ème Cycle” سنة 1971 من جامعة غرينوبل. كانت الأطروحة عن “الاضطراب العراقيّ” كان العراق منذ العهد الأمويّ مضطربًا وبقي حتّى الآن، وأخذت نموذج ثورة ابن الأشعث، وهذه أعظم ثورات العراق في العهد الأمويّ، ونلت عليها تقدير مشرّف جدًّا.
بعد عودتي انتسبت إلى الجامعة اللبنانيّة مدرّسًا وأستاذًا ثانويًّا في ثانوية رأس النبع. ثمّ في العام التالي 1972 تفرّغت في الجامعة اللبنانيّة، في كلّيّة الآداب والعلوم الإنسانيّة، وكانت الدكتورة زاهية قدّورة عميدة كلّيّة الآداب، أصرّت على أن أتفرّغ مع العلم أنّني كنت متردّدًا، والتفرّغ لا يوازي الملاك. هناك مخاطرة أنّ المتفرّغ معرّض للعزل بين حين وآخر وإن كان لا يتغيّر شيء في لبنان بالنتيجة.
امتياز الدراسات الإسلاميّة
طبعًا، لم أشأ أن أكتفي بأطروحة الحلقة الثالثة فحامل هذه الشهادة يتوقّف عند حدّ معيّن فلا يتلقّى بعد ذلك ترقيات، يصبح أستاذًا مساعدًا فقط. فتابعت، وأنا بدأت الكتابة حينذاك، بعد سنتين أو ثلاث، لم أتوقّف عن الدراسة وأنا أمارس التدريس كأيّ أستاذ ثانويّ أو ابتدائي. وبعد عشر سنوات تقريبًا (1981)، ناقشت الدكتوراه الفئة الأولى، ودكتوراه الدولة، في جامعة القدّيس يوسف، كنت عازمًا على الذهاب إلى مصر، كنت أدرس آنذاك في جامعة بيروت العربيّة، بالاضافة إلى الجامعة اللبنانيّة؛ وقد تسجّلت باعتبار أنّ التاريخ الإسلاميّ، إذا كان يطمح الطالب أو الأستاذ أن يعمّق دراساته التاريخيّة الإسلاميّة فطبعًا القاهرة هي المجال المناسب.
ولكن ذات يوم يتّصل بي الدكتور الأستاذ المرحوم نقولا زيادة، وكنا أصدقاء على تفاوت العمر بيننا؛ كان هو متقاعدًا من الجامعة الأميركيّة، وقال لي: أنت تشرف على الماجستير والدكتوراه في الحلقة الثالثة في جامعة القدّيس يوسف (آنذاك)، فأنت على علاقة مع هذه الجامعة (القديس يوسف)، فلماذا لا تسجّل هناك، ونحن هنا، بدل أن تتجشّم عناء السفر إلى القاهرة وما يترتّب عليك من أعباء ماليّة، فرضخت لنصيحته، ولكن هذا كان تحدّيًا لي، كان يريد أن يشرف عليّ المرحوم الأب تيي، ولكن شعَر الأب تيي أن الدكتور زيادة يرغب في ذلك، ومن دون أن يشعر أفسح له في المجال.
ذهبت إلى فرنسا وبقيت ثلاث سنوات، وهناك نلت شهادة الحلقة الثالثة “3ème Cycle” سنة 1971 من جامعة غرينوبل. كانت الأطروحة عن “الاضطراب العراقيّ” كان العراق منذ العهد الأمويّ مضطربًا وبقي حتّى الآن.
كان هذا تحدّيًا وهم شبه زملاء لي، أقول زملاء فعلًا وكلّهم أساتذة كبار وإن كنت أشرف على موضوعات في الحلقة الثالثة وفي الماجستير، إنّما كنت أريد أن أقدّم عملًا مميّزًا، لو ذهبت إلى مصر من المؤكّد أنّني ما كنت أستطعت القيام بمثل هذا العمل، ونلت درجة امتياز، بموضوع “الحجاز والدولة الإسلاميّة”. دراستي عن إشكاليّة العلاقة مع السلطة المركزّية في القرن الأوّل الهجري؛ الحجاز كان هو المركز قبل الإسلام، مكّة والإيلاف وحركة التجارة العالميّة ثمّ الإسلام والاستقطاب مع الإسلام، ولكن بعد سقوط الخلافة الرشيديّة، بدأ يذوي الحجاز ويتراجع، وانتقل الثقل إلى الأمصار والولايات، وبخاصة الشام والعراق ومصر.
أول كتاب
أول كتاب كان بالمصادفة كان “تاريخ العرب السياسيّ، من فجر الإسلام حتّى سقوط بغداد” كنت أدرس مادّة في الجامعة اللبنانيّة، قسم التاريخ، وكان هناك أستاذ من جامعة دمشق، هو الأستاذ الدكتور سهيل زكّار، من كبار المؤرّخين في جامعة دمشق وقد حدث أن خطّطوا لمادّة جديدة على أن تدرّس في العام التالي بعنوان “مدخل إلى التاريخ العربيّ العام” فسألني ما رأيك أن نكتب معًا ونؤلّف كتابًا سويّة؟ فتهيّبت الأمر في البداية، كنت أكتب أشياء لا علاقة لها بالأدب، لكن خضت التجربة وكلّ منّا أخذ قسمًا وبدأ في كتابته حتّى أنجز الكتاب سنة 1974 ومن الطريف أنّ هذا الكتاب نفد بسرعة لا تتجاوز السنة، صدر عن دار الفكر ببيروت. طبعه الدكتور سهيل زّكار في دمشق وأضاف عليه بعض التعديلات.
“التوابون” دليلي إلى السيّد نصرالله
الكتاب الثاني، “التوّابون” وهذا الكتاب أيضًا جاء صدفة، كانت هناك سلسلة من الكتب، طبعته أوّلًا بعنوان “سليمان بن صلد الخزاعيّ، قائد حركة التوّابين” هؤلاء الذين ثاروا بعد كربلاء، شعروا بالتقصير والذنب وارادوا أن يكفّروا عن ذلك، فقاموا بحركة شبه انتحاريّة؛ هذا الكتاب صدر بالطبعة الثانية بعنوان “التوابون” وأخذ من الصدى ما لم يأخذه كتاب آخر. الطبعة الأولى كانت سنة 1975 والثانية 1978 عن دار التعارف. وأذكر أنّ السيّد حسن نصرالله عندما ذهبنا لتهنئته بمنصبه الأمين العام الجديد لحزب الله ولم أكن أعرفه، ولكن عندما عرفني هو قال لي: قرأت لك كتاب “التوابون”. هذا الكتاب ترجم إلى الفارسيّة العام 1979 لأنّ الثورة في إيران احتاجت مثل هذا النوع من الكتب.
قبل الرحيل “حوار العمر” مع المؤرّخ والباحث د. إبراهيم بيضون (2)
في الجزء الثاني من حوار “قبل الرحيل “حوار العمر” مع المؤرّخ والباحث د. إبراهيم بيضون” يتابع د. بيضون حديثه والذي ارتأينا أن نقسمه إلى قسمين عن مؤلفاته، فيستعرض حكاية كل مؤلّف وظروفه وسبب الكتابة عنه، ثم يعود إلى بنت جبيل مسقط الرأس، ومن ثم بيروت ونشاطه في المجلس الثقافي للبنان الجنوبي وعن هواياته وغيرها.
لائحة الكتب
الكتاب الثالث “الدولة العربية في أسبانية، من الفتح حتّى سقوط الخلافة”؛ كتبته بعد عودتي من رحلة إلى الأندلس، رجعت منبهرًا بهذا التراث العظيم في الأندلس، العام 1978 (عن النهضة العربية – بيروت) وطبع عدّة مرات. ثم جاء الكتاب الآخر “من دولة عمر إلى دولة عبد الملك، دراسة في تكوّن الاتّجاهات السياسية في القرن الأوّل الهجري” (عن دار النهضة العربية – 1991). وطبع ثلاث مرات. ثم كتاب ترجمة ومدخل في ذات الوقت لفان فلوتن، “السيطرة العربيّة والشيعة والإسرائيليّات في عهد بني أميّة” الطبعة رقم 1، ج. فان فلوتن (01/01/1996) كان يحتاج إلى مدخل لأن فيه مسائل كانت خاضعة للنقد في ما يتعلّق بالإسرائيليّات والحركة المهدوّية.
ثم كتاب “الحجاز والدولة الإسلاميّة، (عن دار النهضة العربيّة) الطبعة رقم 1، (01/01/1995) وهو أطروحتي في اليسوعيّة التي ظهرت عن المكتبة الجامعيّة. ثمّ “من الحاضرة إلى الدولة في الإسلام الأوّل”، الطبعة رقم 1، عن دار إقرأ (01/01/1986). ثم “مؤتمر الجابية” الذي انتقلت فيه الخلافة من السفيانيّين إلى المروانيّين في بني أمّيّة عن دار النهضة العربيّة (ط1 1985- ط2 1996). “الأمراء الأميّون الشعراء الأندلس- دراسة أدب السلطة”، الطبعة رقم 1، عن دار النهضة العربيّة 1987 (01/01/1994) لفت نظري في الطبعة الثالثة “الدولة العربيّة في أسبانية، من الفتح حتّى سقوط الخلافة” أنّ هناك تسعة شعراء من أصل 14 أميرًا ممّن حكموا الأندلس، عدا الأمراء غير الشعراء وهذا له علاقة بالمناخ الأندلسيّ. النقريّ في نفح الطيب يقول: “وللشعر عندهم حظّ عظيم حتّى وعندما يتحدّث عن الملوك”.
ثم كتبنا “تاريخ بلاد الشام- إشكاليّة الموقع والدور في العصور الإسلاميّة”، الطبعة رقم 1، عن شركة المطبوعات 2002. إنّ الشام تكون قويّة عندما يتكامل الموقع مع الدور، حتّى الآن. ثمّ “الإمام عليّ في رؤية النهج ورواية التاريخ”، الطبعة رقم 1، عن دار بيسان (01/01/1999) طبعة ثانية 2005 وثالثة 2009 ونال جائزة مهرجان الإمام عليّ في إيران سنة 2000. ثمّ “قرأت أصواتهم في الدويّ- أوراق جنونيّة”، الطبعة رقم 1، (01/01/2000)عن دار المؤرّخ العربيّ. ثم “ثورة الحسين حدثًا وإشكاليّة”، الطبعة رقم 1، (01/11/2001) شركة المطبوعات للتوزيع والنشر. قراءة للثورة، الشيعة يتحّدثون عن كربلاء ولا يتحدّثون عن الثورة وهذا برأيي إساءة لهذا الموضوع وهذا الكتاب الوحيد الذي وقّعته بإصرار من دار النشر لأنّني أتفادى التوقيع.
ثم صدر لي كتاب طريف “الصراع على الشام، في عصر الأيّوبيّين والمماليك، تحدّيات الهويّة وانقلابيّة التاريخ”، الطبعة رقم 1، (01/06/2006) عن دار بيسان للنشر والتوزيع. إنّ الشام كانت في قلب الأحداث الكبرى، من حطّين إلى عنجلوت. عادة الكتّاب والمؤرّخون يبرزون “حطّين”، طبعًا هي معركة عظيمة، لكن هي أدنى، بلا شكّ، من “عنجلوت” التي خاضها المماليك ضدّ المغول. لولا هذه المعركة لما بقي عرب وإسلام في المنطقة. ثمّ “مسائل المنهج في الكتابة التاريخيّة العربيّة”، الطبعة رقم 1، دار المؤرّخ العربي (01/01/1995).
و”مسائل المنهج في التاريخ الإسلاميّ، إشكاليّات ونماذج” 2009 عن دار المؤرّخ العربيّ، وهو عن مناهج المؤرّخين. الذين كتبوا في هذا المجال أرّخوا للمؤرّخين لكن أنا تحدّثت عن مناهج المؤرّخين انتهاءً بابن خلدون. هناك كتاب شاركت في ترجمته وصياغته كانت صياغتي هو كتاب طريف جدًّا لمؤرّخ فرنسيّ هو رينيه غروسي بعنوان “ملحمة الحروب الصليبيّة” هذا الكتاب صدر 2007 يتحدّث بنفس ملحميّ عن الفروسيّة عند العرب وعند الصليبيّين ويثير فضائح البلاط الصليبيّ من دون أيّ تردّد وفرادته في أحداثه ولكن ينطوي على مادّة تاريخّية مهمّة.
وأين الجنوب؟
الجنوب كان في الوعي التاريخيّ والثقافي والاجتماعيّ والعاطفيّ، أو الذي يعبّر عنه بصورة مباشرة هو كتاب “قرأت أصواتهم في الدويّ” وهي نصوص أدبيّة قريبة من الشعر، صدر الكتاب سنة 2000. في عام التحرير؛ إلى مساهمات في مناسبات منبريّة وندوات وغير ذلك؛ الجنوب عندما كنت في المجلس الثقافي للبنان الجنوبي، كنت يوميًّا أمارسه وأتحدّث عنه في كلّ مجال من المجالات.
بين الولادة والمدرسة والرحيل نحو بيروت ثمّ الانقطاع بسبب الاحتلال الإسرائيليّ، كيف كانت تتقلّب هذه العاطفة أو تتبدّل؟
سوف تتفاجأ أنّني لم انقطع عن الجنوب خلال الاحتلال، وكنت أذهب مع أسرتي وأبنائي الصغار، في حينه، في الثمانينات، ونجتاز المعبر ونتحدّى الخوف، وكانت الطريق محفوفة بالتعب والمخاطر، كان أولادي يحبّون الجنوب، وكنّا نذهب غالبًا إلى الخيام وهي بلدة زوجتي؛ ولأن الخيام كانت أكثر هدوءًا من بنت جبيل، أمنيًّا؛ يعني الزمرة التي حكمت بنت جبيل كانت زمرة مخيفة وكان لا بدّ من الذهاب إلى بنت جبيل ولكن من الباب الخلفيّ. وكنت أميل إلى عدم الاحتكاك بأي ّأحد من العملاء أو حتّى أتفادى أن يراني أحد منهم.
لم انقطع عن الجنوب خلال الاحتلال، وكنت أذهب مع أسرتي وأبنائي الصغار، في حينه، في الثمانينات، ونجتاز المعبر ونتحدّى الخوف، وكانت الطريق محفوفة بالتعب والمخاطر، كان أولادي يحبّون الجنوب، وكنّا نذهب غالبًا إلى الخيام وهي بلدة زوجتي؛ ولأن الخيام كانت أكثر هدوءًا من بنت جبيل
فذات يوم بعد عودتي، كنّا عند الأستاذ طلال سلمان والصديق الدكتور كامل مهنا، وكان يعرف أنّني عائد لتوّي من الجنوب، فقال لي: إنّنا سننشر ملفًّا عن الشريط الحدوديّ، فأتمنّى أن تقدّم لهذا الملف وبالفعل كتبت مقالة نشرت نصف صفحة من “السفير”، وفي اليوم التالي بدئ بنشر الملف بعنوان “المشي فوق الذكريات؛ من الخيام إلى بنت جبيل مرورًا بشبعا” هذه المقالة أثّرت كثيرًا في المقيمين خصوصًا. معظم الأحيان كان صديقنا الأستاذ طلال يكلّفني بمثل ذلك؛ مثلًا قال مرّة أخبرنا عن الانتخابات في الجنوب، ربّما العام 1996، وكيف ينظرون إلى الانتخابات، فكتبت يومها مقالة بعنوان: “تغيّرت برمّتها التقاليد” كيف كانت الانتخابات وكيف صار الناس كأن لا يعنيهم شيئًا، مرشّحهم الوحيد هو اليأس.
هذا الكلام يفتح لسؤال: ألا ترى أنّ الاحتلال فعل فعله في بنت جبيل، فلم تعد تلك الحلقة الثقافيّة أو هذه الحلقة السياسيّة ولم يعد ذاك الجوّ الذي كان سائدًا؟
لا شكّ كونك جنوبيًّا، هذه الحواضر كانت تعجّ بالشعر والشعراء من النبطية إلى بنت جبيل، فالخيام فشقراء وحتّى عيناثا القرية الصغيرة؛ اليوم بهتت كثيرًا هذه الصورة ومن الصعب أن تجد أحدًا يحدّثك عن الشعر أو يلقي أمامك بيتًا من قصيدة؛ إلّا قليلون جدًّا حينما تقصدهم، لأجل هذه الغاية في بنت جبيل أو في عيناثا أحيانًا، ولكن تبقى بنت جبيل وربّما بلدة شقراء، مفعمة إلى حدّ ما بشيء من المزاج أو النفس الثقافيّ. نلمسه على الأقلّ في المناسبات. وربّما تحدث مرّة في الشهر، في بنت جبيل، نشارك في بعضها، ولكنّ مشاركاتي قليلة جدًّا. أتعمّد عدم المشاركة وهناك أناس يستهلكون أنفسهم في هذا المجال.
بيروت؟ يعني خطفت الضوء، والذين لهم باعهم في هذا المجال يعيشون في بيروت. حتى الذين يحرّكون هذا المناخ في بنت جبيل على سبيل المثال، هم في بيروت وليسوا في بنت جبيل.
وماذا أعطتك بيروت؟
أوّلًا: مع الاعتذار لبيروت ولأهل بيروت، أنا لا أحبّ هذه المدينة. عندما أذهب إلى الجنوب واصل إلى خلدة، أحسّ أنّني انطلقت، أنّني كنت سجينًا وأُطلق سراحي، ولكن، بيروت هي المركز وهي الموقع وهي الضوء ومن دون بيروت لا شكّ أنّني لا كنت مؤرّخًا ربّما ولا كنت في هذا الموقع الذي أنا فيه. في إحدى المرّات كنت أستاذًا زائرًا في جامعة اليرموك وكانت الحرب على أشدّها في بيروت، هذا في الثمانينيّات، أظن 1984؛ أحد الأصدقاء الزملاء في جامعة اليرموك، ألحّ عليّ بالبقاء “ولا تذهب إلى بيروت والحرب قائمة، فلماذا لا تقضي وقتًا هنا والكلّ أنت على صداقة معهم وغيره، ونحن نحتاج إليك”. فقلت له بالحرف الواحد: يا أخي بيروت هي بيروت على رغم الحرب. هو أخذها على الطريقة العربيّة وقال لي: “الحجر مطرحه قنطاري”. قلت: إن هذا الكلام فيه شيء من الصحّة، ولكن، لو كنت في عمّان لقمت بدور يشبه دوري في بيروت، ولكن لن يكون في أصالة الدور الذي أنا فيه بلبنان.
في بنت جبيل وخارج بنت جبيل، كنت في هذا الجو اليساريّ والحزبيّ المحموم، المعروف أنّك لم تنتظم، فلماذا وأنت في هذا الجو؟
هناك تجربة قصيرة جدًّا، لا تكاد تذكر، هي أنّني في بدء شبابي أو في بدء الصبا، انتظمت في حركة القوميّين العرب وكان المحرّض والقائد حينذاك، المرحوم الفنّان عدنان شرارة الذي توفّي من وقت قصير ولكن عندما انصرف هو عن بنت جبيل، وانصرفنا نحن إلى دراساتنا وأعمالنا، هذه التجربة لم تعد قائمة، وبالتالي أصبح عندي الشعور والانتماء هما الأساس. لم أتخلّ حتى الآن عن هذا الإحساس القوميّ والذي تنبض به حتّى دراساتي التاريخيّة.
المرحلة التي كنت أنا مهتمًّا بها القرن الأوّل الهجريّ، ثم بعد اكتسابي التجربة، هو المنهج، فبدأت أوسّع الدوائر، حتّى أنّني كتبت في التاريخ الحديث، والتاريخ الأندلسيّ والدولة العربيّة في أسبانيا والأمراء الشعراء في الأندلس، إنّما في البداية، طبيعة الاختصاص، كان يقودني إلى هذه المساحة؛ والأمويّون لم أكن أميل إليهم يومًا ما، لست من موقعي أو انتمائي المذهبي، إنّما كمؤرّخ، أرى أنّ الأمويّين أفسدوا المسار التاريخيّ الإسلاميّ وأفسدوا مسار الخلافة. حتّى إن هذا المشروع الذي كان يتولّاه عمر بن الخطّاب، وعن عليّ، كان هناك تعمّد في إبعاده عن الخلافة، وكانوا حتّى الصحابة، يتورّعون ويدّعون معه لأنّهم يعرفون كما وصفه عمر “سيحملهم على طريقة هي الحقّ”.
هؤلاء تجّار ولا يتناسب معهم كثيرًا أن يأتي إلى الخلافة شخصيّة مثل الإمام علي، ولكن، حتّى عمر، أشك بالرواية التي ترى أنّ الذي قتله هو القاتل الفعليّ. إنّما هناك مؤامرة وهناك فريق شارك مباشرة أو كان مضلّلًا وضالعًا في هذه العمليّة ولم يعد عمر بالنسبة إليهم، يمثّل طموحاتهم. حتّى إن هناك قولًا أو رواية جاء فيها: لم يزل عمر حتّى ملّته قريش، وكان قد حاصرهم في المدينة. من هم؟ الصحابة. كبار الصحابة، الذين يقال إنّهم يبشّرون بالجنّة، وأنا لم أعرف من بشّرهم بذلك. وكان قد حاصرهم بالمدينة ويقول: إنّ أخشى ما أخشاه على هذه الأمّة هو انتشارهم في البلاد. هم النخبة وماضيهم كانوا تجّارًا، فمجيئهم إلى العراق خصوصًا، أكيد سيسيء إلى الإسلام من خلال هذه النماذج؛ التي هي من النخب.
لماذا الابتعاد في التأريخ عن جبل عامل؟
جبل عامل كنت أراوده، إذا جاز التعبير؛ لم أتخلّ عنه نهائيًّا ولكن شاركت في بعض الندوات عن جبل عامل وكنت أطارحه أدبًا أكثر من التاريخ. لكنّ جبل عامل من الصعب أن تخرج منه بمقاربات مهمّة باتّجاه الحقائق. هناك من اشتغل عليه وأصاب أهدافًا أو أعمالًا يمكن أن ينوّه بها، وهناك من كتب وكرّر من دون أن يحقّق شيئًا جديدًا. وهذا يعود إلى ضآلة المادّة عن جبل عامل. جبل عامل تعرّض لنكبات وغيرها، هناك أوراق قليلة جدًّا على صفحاته، وأعتقد أنّ الشيخ جعفر المهاجر وإن كان يميل إلى الاختصار أحيانًا، وكان قاضيًا شرعيًّا وهو ما زال يعمل على هذه المساحة، هو أفضل من قدّم في هذا السبيل.
ما الجديد الذي يشتغله الدكتور إبراهيم بيضون؟
توقّفت منذ شهر أو شهرين لانهماكي في الجامعة الإسلاميّة، وهناك أعباء لا بدّ من التفرّغ لها، مع أنّني أكتب يوميًّا وهناك مجلّة نعدّ لإصدارها عن الجامعة؛ سيكون لها حظّ منّي في الفترة المقبلة، “مجلة الجامعة الإسلاميّة في لبنان”. وأنا أكتب في مجلّة العربيّ “التجلّيات الحنيفيّة في مكّة قبل الإسلام” آخر مقالة. بعض الأفكار الجديدة كما أزعم، غير المطروقة سابقًا، هذه المرحلة التي رهصت بالإسلام. وأعدّ مراجعة عن كتاب لمجلّة العربيّ “أسبانيا في تاريخها” عن كتاب مهمّ لمؤرّخ إسبانيّ. أنت سألتني عن الكتب ولم تسألني عن الأبحاث؛ لسنا في صدد رصدها.
كيف تجزّي الوقت في بيروت؟
أنا، عادة، من الذين ينهضون باكرًا؛ وأمشي ثلاث مرّات في الأسبوع كما يمشي الناس على الطريق البحريّ. ثمّ أكتب أو أقرأ على الأقلّ ثلاث ساعات وكنت أكتب أكثر في الأوّل، أحضر نفس أركيلة من التنباك، إلى جانب القهوة وأستغرق وهي عادة من الثمانييّنات تعلّمتها في الأردنّ، حينما انقطعت من الدخان وكنت أدخن “جيتان” ولا يوجد جيتان في الأردنّ وعندهم تنباك من الصنف الجيّد، ودرجت على ذلك، ولكنّني أمارس هذه العادة مرّة واحدة في اليوم؛ وأستمتع بها كثيرًا، أستمتع بالكتابة وأنا أدخّنها، وهي أجمل اللحظات في يومي. بعدها أذهب إلى الجامعة إذا كان عندي دوام في الجامعة، وإن لم يكن، أقضي قبل الظهر تقريبًا، في جوّ المطالعة والدراسة. بعد الظهر يخفّ نشاطي كثيرًا. كنت أتردّد كثيرًا على استراحة ومقهى “الروضة” قبل أن يقصدها قاصدوها الآن.
عندما كان المجلس في أوجّه وكنت فاعلًا في المجلس، وفي وقت من الأوقات كنت أمين سر اتّحاد الكتّاب اللبنانيّين، وكانت علينا متطلّبات المشاركة في ندوات وإصدار بيانات وتسجيل مواقف، سواء في الاتّحاد أو في المجلس الثقافيّ، فكنت يوميًّا لفترة غير قصيرة، أقوم بإيصال أولادي إلى المدرسة ثمّ أتابع طريقي إلى الروضة، وعدّتي معي، تكون الأرجيلة والقهوة وأبدأ سواء بما يتعلّق بالمجلس الثقافيّ أو الاتّحاد، أو بما يتعلّق بعملي الخاص؛ خصوصًا على مستوى المقالات والأعمال الخفيفة.
المجلس الثقافي، لا زلت معه، ولكنّني لست عضوًا في الهيئة الإداريّة وإنّما أنا صديق للأستاذ حبيب صادق وأنا على تواصل دائم معه. وإذا كان هناك نشاط يهمّني أذهب أو يتّصل هو ويذكّرني، ما زلت أعتبر نفسي جزءًا من أسرة المجلس. أنا أودّ أن أقول أنّني سعدت بهذه الجلسة، الحديث الذي يعود إلى الماضي والجنوب أسعدني كثيرًا وكل الشكر.
د. إبراهيم بيضون يلقي كلمة في ذكرى أربعين الشاعر إبراهيم شرارة في الثانوية العاملية عام 1983
المؤرخ الراحل د. إبراهيم بيضون
المؤرخ الراحل د. إبراهيم بيضون
تعليقات: