في ظل الأحداث الأخيرة التي شهدتها بيروت، يبدو أن الفوضى لم تأتِ صدفة، بل تحمل رسائل واضحة وأجندات خفية. من يحرك هذه الخيوط، ولماذا الآن؟ مقالي يسلط الضوء على الأبعاد الخفية لهذه الأحداث، ويضع التساؤلات التي يجب أن تُطرح قبل الانجرار وراء أي تفسير سطحي.
من المستفيد من هذه الفوضى؟
في مشهد يعيد إلى الأذهان سيناريوهات الفوضى المدبرة، شهدت بعض شوارع بيروت، خاصة طريق مطار رفيق الحريري الدولي، تظاهرة تعبر عن اعتراضها على منع هبوط طائرة إيرانية تحمل على متنها ركاب لبنانيين وسرعان ما تحول المشهد الى أعمال شغب تحت شعار "شيعة شيعة" من قبل مندسين مستغلين للموقف لإثارة الفوضى ، فقد عمدت مجموعات مشبوهة إلى الاعتداء على ممتلكات المواطنين، وتحطيم اللوحات الإعلانية، وإقلاق راحة الناس، وتجاوزت ذلك إلى استهداف آلية تابعة لقوات "اليونيفيل" وإحراقها والاعتداء على جنودها. وبينما سارع الثنائي الشيعي، (حركة أمل وحزب الله) ، إلى استنكار هذه الأعمال المشبوهة والدعوة لملاحقة المتورطين، يبقى السؤال الأهم: لماذا الآن؟ ومن له مصلحة في إشعال هذه الفوضى؟ وهل يمكن اعتبار هذه الأحداث عفوية أم أن أهدافها واضحة؟
من السذاجة الاعتقاد أن ما يحصل مجرد فلتان أمني عابر. لا شيء عشوائي في بلد تحكمه التوازنات الحساسة، وكل تحرك كهذا يحمل في طياته رسائل سياسية وأمنية. أحد الأهداف الأكثر وضوحًا هو محاولة تشويه صورة حزب الله وإظهاره كتنظيم فقد السيطرة على شارعه، في حين أن هذه التصرفات ليست من ثقافته ولا من سلوكه المعروف بانضباطه الصارم. المشهد برمته يوحي بمحاولة منظمة لضرب رصيده الأخلاقي وإظهاره أمام الداخل والخارج بمظهر غير مسؤول، بما يخدم أجندات سياسية تريد كسر هالة التماسك والانضباط التي عُرف بها.
لماذا طريق المطار تحديدًا؟
ليس جديدًا أن بعض الجهات تحاول الترويج لفكرة أن مطار بيروت لم يعد آمنًا، تمهيدًا لطرح مشاريع فتح مطارات بديلة في الشمال أو في مناطق أخرى ضمن حسابات سياسية وأمنية معروفة. لكن المستجد هذه المرة أن الفوضى تأتي في توقيت دقيق، حيث لم تعد القضية مجرد فكرة بل أصبحت مطلبًا يُروَّج له بوسائل أكثر حدة، من خلال خلق واقع أمني مصطنع يُستخدم لاحقًا كذريعة في المحافل الدولية والمحلية لتبرير هذا التحول.
ومن الممكن أيضا، أن تكون هذه الفوضى مرتبطة بالتشييع المرتقب لسماحة السيد. فالتوقيت لا يمكن أن يكون محض مصادفة. قبل أيام قليلة من التشييع، يبرز هذا التحرك في محاولة واضحة للتشويش على الحدث، وربما عرقلة وصول المشاركين أو خلق بيئة غير آمنة تمنعهم من التوافد بحرية. هناك من يدرك جيدًا رمزية هذا التشييع وما يحمله من دلالات سياسية وشعبية، ويسعى إلى توجيه الأنظار نحو الفوضى بدلاً من المشهد التضامني الذي سيرافقه. هذه ليست المرة الأولى التي يتم فيها استخدام الشارع لتحقيق أهداف خفية، لكنها هذه المرة تأتي ضمن مشروع أوسع، يمتد من المطار إلى الساحات السياسية والإعلامية.
عبر التاريخ، لم يكن توظيف الفوضى سياسيًا حكرًا على جهة واحدة، بل كان أسلوبًا تستخدمه أطراف متعددة لتحقيق أهدافها. في لبنان، شهدنا مرارًا كيف استُغل المال السياسي لتحريك الشارع وخلق أزمات متعمدة، سواء عبر تمويل جماعات معينة أو استغلال الغضب الشعبي لتوجيهه نحو تصعيد يخدم أجندات محددة.
في بلد يعاني انهيارًا اقتصاديًا خانقًا، يصبح اللعب على وتر الفقر والتوظيف المالي للفوضى خيارًا متاحًا لمن يريدون تحريك المشهد وفق مصالحهم. ليس من المستبعد أن تكون بعض هذه المجموعات قد استُغلت ماليًا للقيام بأعمال الشغب، فالفقر المدقع يمكن أن يحول أي أزمة إلى فرصة لأطراف داخلية وخارجية تستخدم المال لشراء الولاءات أو لخلق واقع معين يخدم أجنداتها.
و لا ننسى ان للبعد الإقليمي والدولي دور لا يمكن تجاهله. في ظل التصعيد المستمر في المنطقة، لا يمكن النظر إلى هذه الأحداث بمعزل عن سياقها الإقليمي. لبنان ليس جزيرة معزولة، وكل تحرك داخلي غالبًا ما يكون مرتبطًا بمشاريع أكبر تُدار من خلف الحدود. القوى الإقليمية والدولية التي تحاول الضغط على المقاومة في أكثر من ساحة، قد تجد في هذه الفوضى أداة لإرباك الوضع الداخلي، سواء لإضعاف الموقف السياسي للمقاومة، أو لإرسال رسائل قبل استحقاقات كبرى مثل انسحاب الجيش الإسرائيلي المرتقب من بعض القرى الحدودية في 18 شباط. فكلما اقترب موعد تغيير ميداني كبير، ظهرت محاولات لإثارة البلبلة والتشكيك بجدوى ما تحقق.
إلى أين تتجه الأمور، وهل ستتحمل الدولة مسؤولياتها؟
وبغض النظر عن الجهة التي تقف وراء تأجيج هذه الفوضى، فإن المسؤولية الأخلاقية تقع أيضًا على القوى السياسية والحزبية لضبط قواعدها، ومنع أي تحركات قد تستغل من قبل المتربصين بالأمن والاستقرار.
أما الدولة فهي اليوم أمام اختبار حقيقي. إما أن تثبت أنها قادرة على فرض الأمن ومحاسبة المتورطين، وإما أن تبدو وكأنها فقدت السيطرة، مما يعطي مبررات إضافية لمن يريدون تدويل الملف الأمني أو فرض تغييرات على الأرض بحجة الفوضى. المطلوب ليس مجرد بيانات استنكار، بل تحرك جاد لكشف من يقف وراء هذه الأعمال ومحاسبته، لأن التغاضي أو التسويات المعتادة لن تؤدي إلا إلى تكرار المشهد بمزيد من العنف في المستقبل.
إذا كان الهدف من هذه الفوضى هو زعزعة الاستقرار وإضعاف ثقة الناس بالدولة والمقاومة معًا، فإن الرد الحقيقي يكون في وعي اللبنانيين وعدم انجرارهم وراء الأفخاخ المكشوفة. من الواضح أن هناك من يعمل على إشاعة الفوضى تحت عناوين مختلفة، لكن من الواضح أيضًا أن هذه الألاعيب باتت مكشوفة، ومن يقف خلفها لم يعد مجهولًا. التحدي الآن هو ما إذا كانت الدولة قادرة على كبح هذا الطابور التخريبي، أم أنها ستترك لبنان رهينة لأجندات لا تخدم إلا أعداء الداخل والخارج. الأيام القادمة ستحمل الإجابة.
بقلم : مي حسين عبدالله
تعليقات: