منزل علي الجرّاح في بلدة المرج
تواصل مديرية الاستخبارات في الجيش اللبناني التحقيقات مع الموقوفين: علي ويوسف الجراح. وظهرت معلومات كثيرة عن عمل الأخوين وطريقة تواصلهما مع جهاز المخابرات الإسرائيلية «الموساد»، ونوع المهمات التي كانا يقومان بها، إضافة إلى حجم الأموال التي كانا يتقاضيانها بالمقابل.
نجح علي الجرّاح، الموقوف لدى مديرية الاستخبارات في الجيش اللبناني على ذمة التحقيق بتهمة التخابر مع إسرائيل، في تلبس شخصية مزدوجة طوال أحد عشر عاماً. وعاش رحلة متناقضة بين منزله الفخم في بلدته المرج ومنزله المتواضع المستأجر في منطقة المصنع الواقع خلف مخفر الدرك. والبحبوحة التي كانت تميّزه بين أهل بلدته لم يكن لها أثر في محيط مسكنه السرّي الثاني حيث تقيم زوجته الثانية الفلسطينية نعمت عويّد التي كان يبدو عليها الفقر والحاجة المادية. إلا أن كل ذلك لم يكن يمنعه من أن يستأجر شقة إضافية في بعبدا، قال في التحقيقات إنها لم تكن لأغراض العمل، بل للتسلية واللهو مع أصدقاء وصديقات.
يروي جيران زوجته الثانية أنها عاشت أياماً صعبة، ووصل بها الأمر إلى أن تقصد سائقي الشاحنات لشراء بعض ليترات المازوت بأقل كلفة، وأحياناً من دون ثمن. فهو لم يكن يقصد المنزل بصورة دائمة، ونادراً ما كان يبيت. وهي لم تكن تعلم عنه أشياء كثيرة، حتى في التحقيقات التي جرت معها، لم يظهر أنها كانت مطّلعة أو متورطة معه في عمله مع الإسرائيليين، وقالت إنها، منذ وقت غير بعيد، علمت بأنه يملك منزلاً فخماً في بلدته وأنه ميسور الحال، وعندما طالبته بالأمر قال لها إن ما يحكى عنه هو ما يخصّ شقيقه وإنه معدوم الأحوال. وقالت أيضاً إنه عندما يأتيها نهاراً، كان يمضي ساعات قليلة، يركن سيارته ـــ الجيب قبالة مركزي الأمن العام والجمارك بصورة واضحة، بعيداً عن سور المنزل عشرين متراً، ثم يصعد إلى الشقة إلى حين الغروب أو موعد انطلاقه إلى سوريا. إلا أن علي كان كثير السفر أيضاً، وهو كان يبرّر لها ولأقربائه بأنه يسافر لأجل القيام بأعمال التجارة أو السياحة، لكنه كان يسافر إلى بلدان عدة كمحطة، قبل أن يُنقل إلى إسرائيل، حيث ذكر في التحقيق أن مشغّله في «الموساد» كان يتواصل معه عبر الهاتف وبصورة عادية، وكان يطلب منه بين الوقت والآخر أن يسافر إلى الأردن أو مصر أو تركيا أو اليونان أو قبرص أو إيطاليا، وهناك كان ينتظره ضابط إسرائيلي يزوّده بجواز سفر إسرائيلي وينتقل معه إلى تل أبيب حيث يمضي وقتاً غير طويل (يوماً أو يومين أو أكثر بقليل) ليعود بعدها إلى البلد الذي سافر منه، ويظل حجزه قائماً في الفندق وتُدفع الفواتير من حساب السفر الذي كان الإسرائيليون قد خصصوه له، إلى جانب راتب شهري تطور مع الوقت حتى وصل إلى ما بين ستة وسبعة آلاف دولار أميركي.
وفي خلال سفراته إلى إسرائيل كان يلتقي مشغّليه الذين يجرون له دورات تدريبية على تشغيل أجهزة تنصت وتصوير وإرسال مواد وتواصل متطورة، كما يُزوَّد ببعض المواد وأجهزة الاتصالات. ونفى علي خلال التحقيق معه أن يكون قد انتقل إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة عبر الحدود الجنوبية، أو أن يكون قد انتقل بحراً كما جرى مع محمود رافع أكثر من مرة، ومع العميل الفارّ حسين خطاب. وركز المحققون على إمكان أن يكون هناك رابط ما بين الجراح ومحمود رافع، ولو بصورة غير مباشرة كتردد الجراح إلى الأماكن التي كان رافع يوصل إليها عملاء وضباط استخبارات إسرائيليين ليضعوا فيها بريداً سرياً، لكن الجراح لم يعترف بأيّ من هذه الأمور.
■ زيارة إسرائيل
وأكّد مصدر موثوق لـ«الأخبار» أن الجراح سافر إلى الأردن بعدما أوقِف محمود رافع عام 2006 بفترة قصيرة، ليمكث شهراً بكامله من دون معرفة المكان الذي نزل فيه. وادّعى أنه كان يعالج من مرض في معدته. وغاب عن «السمع» طوال الفترة التي قضاها، من دون أيّ علم عنه سوى اتصالات متقطعة بزوجته في المرج وبأخيه يوسف الذي اعتقل أيضاً بتهمة التجسس لتورطه مع أخيه. وكان الأخير يطمئن زوجته نعمت، فهو الوحيد من أفراد عائلته الذي كان يعرف بزواج علي السري بها. ويؤكد المصدر أنه بعد عودته من الأردن، ازدادت زياراته إلى دمشق لتصبح أسبوعية، حيث كان يمضي في كل زيارة يومين أو ثلاثة أيام، متنقّلاً في أرجاء مختلفة من العاصمة السورية، بحجة أنه ينتظر وفوداً دولية إنسانية ستأتي معه إلى لبنان لمعاينة الجمعية التي يترأسها وتقديم مساعداتهم لها.
وبعد عودته من الأردن، باع الجراح سيارته المرسيدس (280 زيتية موديل 78) واشترى سيارة الباجيرو الرباعية الدفع، التي ضبطت فيها كاميرا مراقبة متطورة، إضافة إلى سيارة هوندا أكورد كان يستعملها في التنقل داخل الأراضي اللبنانية. وكان الإسرائيليون قد زوّدوا علي بكاميرا المراقبة، فطلب من أحد فنيّي كهرباء السيارات تركيبها في سيارته. وبعدما أوقفت مديرية الاستخبارات الكهربائي المذكور، حققت معه ليتبيّن أنه لم يكن يعلم طبيعة الجهاز الذي ركّبه في سيارة علي، فأشار القضاء بالإفراج عنه.
■ مهمّة المسح الشامل
وكان الإسرائيليون يكلفون علي الجراح بإجراء مسح بواسطة الكاميرا المثبتة في سياراته لأماكن وطرقات يحددونها له. وتمكن خلال سنوات العمل الطويلة من إجراء مسح شبه كامل لمنطقة البقاع، وللضاحية الجنوبية وعدد من المخيمات الفلسطينية. وكان تركيز عمله في سوريا، حيث طلب الإسرائيليون مسح معظم أحياء مدينة دمشق، وبينها منطقة كفرسوسة حيث اغتيل فيها القائد العسكري في حزب الله الشهيد عماد مغنية، إضافة إلى مدن طرطوس وحماه وحمص وحلب، وغيرها من المناطق والمدن السورية. واستبعدت مصادر واسعة الاطلاع أن يكون هناك رابط مباشر بين عمل الجراح في كفرسوسة واغتيال مغنية، وخاصة أن فارقاً زمنياً كبيراً يفصل بين الأمرين، وكذلك بالنسبة إلى اغتيال العميد محمد سليمان في طرطوس.
ورغم ذلك، تشير المعلومات إلى أن الجراح أفصح لزوجته نعمت، بعد اغتيال مغنية، بأن هناك جهة ما تراقبه، ثم أقنعها بأن ذلك قد يكون تمهيداً لسلبه سيارته الباجيرو. وبهذه الذريعة، صار نادراً ما يتردد بالباجيرو، مفضّلاً سيارة الهوندا..
وكان الجراح، بحسب مصادر مطلعة، يفرغ ما تسجّله الكاميرا على كمبيوتر خاص ثم يرسله بواسطة جهاز زوّده به الإسرائيليون. وعثر محقّقو استخبارات الجيش على جزء كبير من التسجيلات التي تظهر فيها الأماكن التي كان قد صوّرها الجراح، محفوظة على الكمبيوتر الخاص به.
كذلك تبيّن أن الجراح كان مزوّداً بوسائل تشغيل للكاميرات التي بحوزته، ما يجعل الصور تنتقل مباشرة إلى المشغل الإسرائيلي، دون تحديد الوسيلة. هل هي عبر قمر اصطناعي أم من خلال وسيلة لنقل المعلومات إلى طائرات الاستطلاع التي كانت ولا تزال تجوب الأجواء اللبنانية، حتى إن مصدراً أمنياً لم يستبعد أن يكون ضباط من الموساد الإسرائيلي قد جهزوا شقة الجراح في المصنع ومنزله في المرج الذي بداخله تمديدات وتفاصيل تقنية غير عادية، مع الإشارة إلى أن الجراح كان يمنع زوجته الثانية من البقاء في منزلهما عند نقطة المصنع خلال عدوان تموز.
وكانت دورية أمنية قد دخلت منزله في محلة المصنع بعد نحو أسبوع من توقيفه، وطلبوا من زوجته فتح غرفة النوم أمامهم، وصادروا من داخل أحد الأدراج ظرفاً يحوي مستندات، رجّحت بعض المعلومات أن تكون حوالات مصرفية. وفي الوقت ذاته أيضاً صودر جهاز الكمبيوتر المحمول الخاص بالجراح من مكتبه في جمعية التأهيل الطبي في جلالا.
وأكد مصدر أمني أن استخبارات الجيش وقوة منه داهمت منزل الجراح الثاني في منطقة المصنع، وصادرت من داخل المنزل أجهزة رقمية متطورة في مجال الاتصال والتصوير والتشفير، إضافة إلى جهاز كمبيوتر وأقراص مضغوطة ومدمجة. وتؤكد المصادر أن رجال الأمن صادروا من على سطح منزل الجراح في المصنع كامير للمراقبة، كانت موجهة صوب مبنيي الأمن العام والجمارك اللبنانيين، لتغطّي منطقة وادي الحرير.
■ مهمّات قديمة
وتتشعّب الملفات التي عمل الجراح على جمع المعلومات المتعلقة بها، بدءاً من الهرمية التنظيمية لبعض المنظمات الفلسطينية وارتباطها الأمني بالاستخبارات السورية، مروراً بمهمات هذه المنظمات على صعيد العمل المقاوم داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة أو في لبنان وسوريا عموماً، وصولاً إلى دوره الاستطلاعي في حرب تموز 2006 من دون أن تسقط المتابعة الأمنية إمكان قيام الجراح بجمع معلومات عن تنظيمات لبنانية كانت فاعلة في العمل المقاوم قبل عام 1990. وتضيف المعلومات غير الرسمية أن الجراح نجح في تضليل الاستخبارات السورية ومن خلفها أجهزة الأمن التابعة للتنظيمات الفلسطينية التي تعرّضت مواقعها لعشرات الغارات الجوية في سهل البقاع ابتداءً من عام 1983 حتى عدوان تموز 2006، ولا سيما أن مواقع فتح ـــــ الانتفاضة في تعنايل وتعلبايا وجلالا كانت عرضة لهجمات جوية إسرائيلية أودت بحياة العشرات من الفدائيين داخل بعض هذه المواقع التي كانت تعتبر نسبياً مراكز سرية.
وللمفارقة، يذكر مطّلعون أن الطائرات الإسرائيلية التي دمّرت معظم الجسور والعبّارات في البقاع الأوسط أبقت على جسر واحد فقط على طريق مؤدية إلى منزل الجراح مباشرة في المرج.
■ قاسم: التحقيقات مستمرّة
من جهته، أكد نائب الأمين العام لـ«حزب الله» الشيخ نعيم قاسم في حديث لصحيفة «الوطن» القطرية «أن الشبكات الإسرائيلية شبكات موجودة ومنتشرة، وهي تعمل في لبنان وسوريا وأماكن أخرى في المنطقة، وهي عادة ما تكون شبكات منقطعة بعضها عن بعض، واتصالها يكون مباشرة مع الموساد الإسرائيلي»، مضيفاً أن «مسار التحقيق في اغتيال الشهيد القائد عماد مغنية يمكن أن تنفعه مسألة علي الجراح بإضافة معطيات جديدة أو مكملة، ولا أعلم إذا كانت ستؤدي إلى المزيد من المعطيات المؤثرة في التحقيق. يجب أن ننتظر حتى تستكمل هذه المسألة، ولكن التحقيق في اغتيال الشهيد مغنية مستمر، والمؤكد بالنسبة إلينا ويزداد تأكيداً يوماً بعد يوم هو أن العمل عمل إسرائيلي، بصرف النظر عمن يمكن أن يكون مساهماً فيه، وهذا ليس فيه أدنى شك، بناءً على مجموعة من المعطيات التي ستكشف لاحقاً إن شاء الله».
من جهة ثانية وعلى إثر إعلان قيادة الجيش توقيف الأخوين علي ويوسف الجراح بتهمة التخابر مع العدو الإسرائيلي، سارعت قيادات سياسية بقاعية من بلدة الموقوفَين إلى عقد اجتماع عائلي طغى عليه لون سياسي واحد. ورأى البعض أن الموضوع لا يعدو كونه «تلفيقاً» يهدف إلى تشويه سمعة النائب جمال الجراح، نظراً إلى الصلة العائلية بين الطرفين، ولأن شقيقاً للموقوفَين كان يعمل مرافقاً للنائب المذكور. وبعد هذا الاجتماع، بدأت الروايات تتضارب بين أبناء بلدة المرج ومناصري المستقبل، بين مصدّق لها وآخر يكذّبها ويربطها بالنظام السوري والمعارضة اللبنانية. ورأى أصحاب الرأي الثاني أن علي كان «كبش المحرقة» في المعركة ضد النائب الجراح، وخاصة أن علي كان في أحداث أيار الفائت «الدينمو» السري الذي وزّع السلاح في محيط سعدنايل والمرج وتعلبايا على عدد كبير من مناصري 14 آذار. وإذا قبل مناصرو «المستقبل» المذكورون حقيقة تورّط علي ويوسف الجراح بالتعامل مع إسرائيل، فإنهم يربطون ذلك باختراقات داخل التنظيمات الفلسطينية الموالية لسوريا. أما المصدّقون والمندهشون من خطورة الموقوفَين، فيسترجعون الأحداث والتواريخ، رابطين بين عدد من الأحداث والتغيرات التي طرأت على حياته، حيث بدأ عمله أجيراً مياوماً في الزراعة.
إلا أن شخصيات وقوى من فريق المعارضة كانت قد ساعدت في نشر الكثير من المعلومات عن الجراح بعد توقيفه، وذلك على خلفية حصد انعكاسات سياسية وشعبية انطلاقاً من الاعتقاد بأن هذه الفضيحة سوف تؤثر على سمعة نواب «المستقبل» ونفوذهم في المنطقة.
أين الخرق الآخر؟
لا يعدّ علي الجراح الذي تنقّل بين حركة فتح والقيادة العامة وفتح الانتفاضة الخرق الإسرائيلي الأبرز داخل فصائل المقاومة الفلسطينية. بل ثمة آخر (بشري أو فني) لم يُكشف بعد، بحسب مسؤولين أمنيين. وبحسب اعترافات محمود رافع الذي أوقِف عام 2006، كان الإسرائيليون يطّلعون على التحقيقات التي تجريها القيادة العامة مع العميل الفار حسين خطاب، الذي كان قد أوقِف في سوريا بعد اغتيال الشهيد جهاد جبريل عام 2002. فبعد توقيف خطاب، طلب الإسرائيليون من رافع الاختباء في شاليه في منطقة طبرجا، وكان مشغّله الإسرائيلي يتصل به يومياً ليبلغه أن خطاب «لم يعترف بعد»!
تضارب حول الجهات المسؤولة
إلى ذلك استمر العمل الأمني في لبنان يخضع لتضارب في التقدير السياسي الذي يرافق أعمال التحقيق والتقصي. وذكرت مصادر متابعة أن فرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي يحمّل ضمناً تنظيم الجبهة الشعبية ـــــ القيادة العامة المسؤولية عن إيواء وإيفاد عناصر فتح الإسلام وأن ذلك يتم بالتنسيق مع المخابرات السورية. فيما تشير مديرية المخابرات في الجيش اللبناني إلى أن التوقيفات التي تجري في مخيم البداوي تجري بالتنسيق المباشر مع القيادة العامة، وأن هناك جهات فلسطينية عدة توفر المساعدة. وفي هذا الإطار، ذكر مصدر فلسطيني مطّلع لـ«الأخبار» أن اجتماعاً عقد أول من أمس في وزارة الدفاع في اليرزة بين ممثلين عن فصائل المقاومة الفلسطينية وضباط كبار في مديرية استخبارات الجيش، مشيراً إلى أن ضباط الاستخبارات نوّهوا بأهمية الدور الذي تقوم به هذه الفصائل، وخاصة لناحية توقيف المطلوبين الذين ترد أسماؤهم في التحقيقات. وأشار المصدر إلى أن التعاون سيستمر طوال فترة التحقيقات التي تجريها المديرية، علماً بأن المصدر الفلسطيني كشف أن وجهاء من مخيم عين الحلوة ينتمون إلى تنظيمات مختلفة سيلتقون ظهر اليوم في صيدا مساعد مدير استخبارات الجيش العقيد عباس إبراهيم ومدير فرع الجنوب في الاستخبارات العقيد علي شحرور، «لتأكيد رفض هؤلاء الوجهاء أي صدام مع الجيش واستعدادهم للتعاون مع القوى الشرعية اللبنانية».
تجنيد على مرحلتين
أكّد مصدر مطّلع على التحقيقات أن الإسرائيليين الذين كانوا قد جنّدوا الجراح عام 1982، طلبوا منه ترشيح شخص لتجنيده، فاقترح شقيقَه يوسف، من دون أن يفاتحه بذلك. وعام 1992، جنّد الإسرائيليون يوسف الجراح من دون علم علي، ثم طلبوا منه ترشيح شخص لتجنيده، فاقترح شقيقَه علي. عند ذلك، أعلم الإسرائيليون الشقيقين بحقيقة تجنيد كلّ منهما، وأمروهما بالعمل معاً.
تعليقات: