يحاول العائدون انتشال ما تبقى من أثاث تحت ركام منازلهم (حسين سعد)
الطريق من الطيبة والعديسة وكفركلا، وصولاً حتى الخيام والوزاني وكفرشوبا، موحش جداَ. وحدها شاحنات جمع الخردة تتجول ذهاباً واياباً، باحثة عن محصول يومي من حديد المنازل المدمرة. يخرق صوت هذه الشاحنات، بين الحين والآخر، دوريات مؤللة لقوات حفظ السلام الدولية "اليونيفيل"، وسيارات مواطنين أتوا لتفقد بيوتهم ومتابعة عمليات الكشف على الأضرار، التي تتولاها مؤسسة جهاد البناء ومجلس الجنوب.
عين الطيبة والعديسة
في بلدة الطيبة، التي بات الوصول إليها عبر ديرسريان، من ناحية وادي الحجير، تحولت ساحتها الواسعة والجميلة، إلى أكوام من الركام. خسرت الطيبة العشرات من ابنائها، كما خسرت أحد أبرز معالمها التاريخية والأثرية، وهي "العين الفوقا" ومئات المنازل والمؤسسات التجارية. وبحسب رئيس البلدية عباس دياب، شهدت الطيبة عودة حوالي 150 عائلة إلى منازلها القابلة للسكن، فيما لا تزال المياه والكهرباء غائبتين عن البلدة.
عند العين الأثرية في بلدة العديسة، التي لم يطَلْها الدمار الكلي، إنشغل صالح رمال، بمساعدة آخرين في قص وتقطيع جذوع أشجار كبيرة إقتلعتها الجرافات الإسرائيلية. يعمل على رفعها من أمام محاله للدخول إليها. أما جاره عارف علي حسين، فيتفقد منزله في الجهة المقابلة ومحلاته التجارية. فقد جرى تدميرها إلى جانب أكثر من ثمانين بالمئة من منازل البلدة وسط غياب تام لشبكتي الكهرباء والمياه.
ما يزال حسين نازحاً خارج بلدته إلى الآن، لكنه يزورها بين وقت وآخر لمتابعة عمليات الكشف، التي تقوم بها جهاد البناء، ولم تصل إلى بيته لغاية الآن. ويشكو حسين أنه كان يملك مشغل حدادة إفرنجية ومحلات لبيع الخرضوات، طالها الدمار. ويقول: "ما خلولنا شي وصرنا على الحديد".
تغيرت معالم الشارع الرئيسي في العديسة بسبب تراكم أكوام الردميات. وعند نقطة الجيش اللبناني مقابل مستوطنة مسكاف عام، حيث يرابط جندو اليونيفيل، تم تحويل الطريق باتجاه كفركلا. فقد عمدت قوات الإحتلال إلى تجريف الطريق الرئيسي بمحاذاة الجدار، وصولاً الى بوابة فاطمة في كفركلا.
دمار مرعب في كفركلا
بين العديسة وكفركلا، إعتلى علي شيت، إبن كفركلا، سيارة بيك أب يكدس فيها حديد بيته. كان البيت مؤلفاً من ثلاث طبقات، وكراجات تحتضن آلات زراعية معدة لحراثة الأرض. وبصوت منهك يقول: "سنعيدها باللحم الحي. عندما أنتهي من رفع الأنقاض سأضع بيتاَ جاهزاَ إلى حين إعادة الإعمار الآتي ولو بعد حين".
نزولاً إلى كفركلا، حيث تنقشع الصورة الكاملة للدمار المرعب، يبني عباس جمعة غرفتين بجانب منزله ومنشرته المدمرين بالكامل. يستعدّ جمعة للعودة الى البلدة هرباً من جحيم بدل الإيجار، في بلدة تول، قرب النبطية، كما قال، مشيراً إلى أنه "لن يتخلى عن كفركلا، وأنه يبيت بين ركام منزله ملتحفاً السماء".
في وسط كفركلا، المسيجة بأشجار الزيتون، بعضها مقتلعة من جذورها أو محترقة، يتناوب أحمد نايف وزوجته أم مصطفى على انتشال ما تبقى من أثاث منزلي، من داخل منزلهما المدمر بالكامل. وتقول إم مصطفى والدة الشهيد هيثم: "لا شيء يثنينا عن الرجوع إلى بلدتنا التي قدمت الشهداء والأنفس والبيوت، وسنكمل هذه المسيرة وسنأخذ بثأرنا مهما بلغت التضحيات".
عند الجهة الشمالية للبلدة، يمتلك علي شيت ثلاثة معاصر زيتون حديثة وجاروشة ومحطة للوقود، تعرضت جميعها للحرق، ولم تبق سوى جدران متشحة بالسواد، وخزانات محطة الوقود تحت الأرض. ومنذ أسبوع أنهى شيت وإخوانه، تنظيف وتأهيل باحة المحطة، وزودها بماكنتي عداد للبنزين والمازوت. يأتي يومياً الى كفركلا من مكان نزوحه في منطقة النبطية قائلاً: "نعتمد في عملنا في الوقت الحالي الإستثنائي، على الزبائن من أصحاب الشاحنات والآليات على إختلافها. فهي تعمل في نطاق البلدة ومحيطها على مدار الوقت. في وقت لم تجد فيه عائلة واحدة من أبناء كفركلا مأوى في عموم البلدة التي دمرت عن بكرة أبيها".
الخيام تلملم الشهداء
من قلب كفركلا، نتابع طريقنا إلى آخر البلدة، فيستوقفنا مركز للجيش اللبناني، تؤازره ملالتان وجنود من الكتيبة الإسبانية العاملة ضمن "اليونيفيل"، طلبوا منا تحويل مسارنا شمالاً نتيجة إقفال الطريق في المنطقة، المحاذي للحدود اللبنانية الفلسطينية، وذلك بعدما سألوا عن وجهتنا وهويتنا.
المشهد عند مدخل مدينة الخيام الغربي، يختلف تماماً عن مشهد الدمارالهائل في وسطها. هنا لم تتوقف عملية انتشال جثامين الشهداء. عند هذا المدخل الواسع المسيج بأشجار الصنوبر، تتسلل الأعشاب البرية الشوكية. وقد نبت في غفلة عن أصحاب الأرض في السهل الفسيح الممتد نحو تل الحمامص المحتلة، الذي ظل لموسمين متتاليين أرضاً بوراً.
شمل الدمار الكلي، حوالي ثمانين بالمئة من منازل وبيوت الخيام، فيما سلمت نسبياً بعض الأحياء من ناحية السهل وإبل السقي. عاد الكثير من أهلها إليها، بعد إصلاح أبوابها ونوافذها، في حين تتابع البلدية مع مؤسسة كهرباء لبنان ومصلحة مياه لبنان الجنوبي توفير شبكات كهرباء ومياه جديدة. ويقول المختار علي رشّيد: "عادت عشرات العائلات إلى البلدة وهي تداوي نفسها بنفسها، بمساعدة البلدية. لقد خسرت منزلي، لكنني أحج الى الخيام من مكان نزوحي في بيروت بشكل شبه يومي. أدرس فكرة شراء منزل جاهز أضعه على أطلال البيت بعد الإنتهاء من رفع الأنقاض. فقد تلقيت بدل الايواء من مؤسسة جهاد البناء، التي تواصل أعمال الكشف ومسح الأضرار".
يتابع حسين صادق، المربي المتقاعد، أعمال رفع الأنقاض من المنازل المدمرة في ساحة الخيام كغيره من أصحاب المنازل. وأتفق مع أحد المتعهدين على رفع أنقاض منزله وإزالة الردم، مقابل حصول الأخير على حديد المنزل، لا سيما وأن الحكومة لم تبدأ بأزالة الردم من البيوت المدمرة، كما وعدت سابقاً بتلزيم هذا الملف على مستوى الجنوب. وبدوره يؤكد أنه يعمل على احضار بيت جاهز والإنتقال مجدداً إلى الخيام.
تتخذ سوسن فياض، المعروفة بسوسن المختار، من أحد الكراجات مقراً لها، تتابع من خلاله خدمات المواطنين، إلى جانب زوجها المختار أحمد حسان. وحالها حال باقي أصحاب البيوت المدمرة لناحية السكن. فمع انقضاء ساعات النهار وحلول الإفطار، تغادر فياض إلى منزلها المستأجر في بلدة إبل السقي المجاورة للخيام. وإذ تؤكد أنها حصلت على بدل ايواء وأثاث، إلا أن الأساس يبقى في إعادة الإعمار.
كفرشوبا تستعيد حياتها
بلغ عدد الأهالي العائدين إلى كفرشوبا، في منطقة العرقوب أكثر من النصف، فيما سجلت عودة شبه كاملة إلى مزرعتي حلتا ووادي خنسا، التابعتين إدارياً إلى كفرشوبا. ووفق رئيس البلدية قاسم القادري عاد التيار الكهربائي إلى غالبية أحياء البلدة، باستثناء حيّ واحد. وكذلك أنهت مؤسسة جهاد البناء أعمال الكشف، بإستثناء منطقة شانوح، وننتظر قدوم فرق مجلس الجنوب في الايام القليلة المقبلة للقيام بأعمال الكشف والمسح.
دمرت إسرائيل أكثر من 85 بالمئة من بيوت بلدة الوزاني، ولم يبق فيها سوى بعض المنازل والمسجد والمدرسة. ومنذ إنسحاب إسرائيل عاد الى الوزاني ما بين عشرين إلى ثلاثين عائلة، من أصل ثمانين كانت تسكن البلدة. بعض هذه العائلات سكنت في المنازل التي لم يطالها الدمار الكلي أو في مسجد البلدة والمدرسة الرسمية، كما أكد رئيس البلدية أحمد المحمد. وحتى الساعة لا يوجد كهرباء ومياه في البلدة، ويعتمد العائدون على التزود بالكهرباء من خلال أنظمة الطاقة الشمسية وشراء المياه بواسطة الصهاريج على نفقتهم الخاصة. فالبلدية غير قادرة على تأمين هذه الإحتياجات، والدولة لم تمد يدها للمؤازرة، كما قال.
تعليقات: