مي عبدالله: من يكتب النهاية وأين تأخذنا المنعطفات؟


بقلم: مي حسين عبدالله

في زمن لم تعد فيه الحرب مجرد أخبار تُذاع، بل حياة تُعاش بين القصف والنزوح والانتظار، لم يعد السؤال: "هل نحن في حالة حرب؟" بل أصبح. "إلى متى يمكن أن تبقى الحرب دون اسم رسمي لها؟"

من غزة، التي يُعاد قصفها كلما ظنّ العالم أن المجازر بلغت مداها، إلى جنوب لبنان، حيث لا هدنة تُحترم، وحيث الاغتيالات والضربات تأتي كأنها طقسٌ يومي… المشهد يُعاد تشكيله ببطء، لكنه لا يسير نحو التهدئة، بل نحو تصعيد مُبهم، متقطع، لكنه لا يتوقف.

في غزة، إسرائيل استأنفت قصفها، لم تكتفِ بالدمار الذي صنعته، ولم تصل إلى مبتغاها رغم كل المجازر. كلما اعتقدت أنها حسمت المعركة، وجدت أن غزة لا تُسحق، بل تتحوّل إلى ما هو أخطر عليها: مقاومة تستمر رغم انقطاع كل أسباب الحياة، وحدة شعبية تتزايد مع كل مجزرة جديدة ودعم إقليمي لم يعد مجرد بيانات شجب، بل وصل إلى الفعل العسكري المباشر.

وهنا، يدخل اليمن على الخط، ليس برسالة سياسية، بل بصواريخ تصل إلى الداخل الإسرائيلي، وأسطول يهدد الملاحة العالمية. ففي ظل انكفاء أغلب الجبهات، يبرز اليمن كأقوى اللاعبين إقليميًا. حيث يعطل الملاحة البحرية في البحر الاحمر وباب المندب ويحرج دولاً كبرى ويهدد مصالح عالمية ويربط تدخله بانهاء العدوان على غزة لا بتهدئة بينية. وهو يفرض نفسه كصوت لا يُمكن تجاوزه، وكساحة قد ترسم معادلات المستقبل أكثر من أي طرف آخر.

أما الجنوب اللبناني، بين اللا حرب واللا أمان، ما يحدث ليس حربًا شاملة، لكنه أيضًا ليس هدنة. إنه حالة غموض أمني مرعبة حيث إسرائيل تضرب متى شاءت، وتغتال متى قررت، دون اعتبار لأي قواعد اشتباك.

و الناس بين النزوح والانتظار… ينتظرون قصفًا لا يُعرف توقيته، وهدنة لا يُعرف إن كانت ستأتي.

الشمال اللبناني الذي ينبئ بفوضى قادمة، التحركات الغامضة فيه لبعض الجماعات في الشمال اللبناني تطرح أسئلة خطيرة: هل هناك محاولة لإدخال الفوضى إلى لبنان عبر الشمال؟ هل هناك من يسعى لإشغال الجيش اللبناني بمعارك داخلية، لإضعافه ومنع أي مواجهة مع إسرائيل؟ أم أن هذه التحركات جزء من ضغط أميركي على لبنان، في سياق خطة نزع سلاح المقاومة؟

إسرائيل اليوم أقرب إلى دولة في أزمة منها إلى دولة في موقع قوة فقد فشلت في حسم معركة غزة رغم القصف المتواصل وعجزت عن السيطرة على جنوب لبنان، حيث لا تزال المقاومة تُبقيها تحت ضغط الصمت.

وهي تشهد الآن واحدة من أعمق أزماتها الداخلية منذ نشأتها. الانقسام السياسي بلغ ذروته، وفقد المجتمع ثقته بالمؤسسة العسكرية، وباتت أصوات داخلية تصف الحرب على غزة بأنها مغامرة خاسرة.

هناك خوف من الانهيار السياسي مع تصاعد الضغط على حكومة نتنياهو، واحتمال أن تؤدي الإخفاقات المتتالية إلى تفكك ائتلافه. البعض يتحدث عن شبح حرب أهلية داخلية إذا لم تتوقف الانهيارات النفسية والاجتماعية والاقتصادية. الجيش لم يعد مقدسًا، والنصر لم يعد ممكنًا، والداخل يغلي بصمت قد ينفجر.

والشرخ الداخلي في إسرائيل لم يعد شأناً داخلياً فحسب، بل أصبح عاملاً حاسماً في قرارات الحرب والسلام في المنطقة. فالانقسام السياسي والاحتجاجات الشعبية والاهتزاز في ثقة الجمهور بالمؤسسات العسكرية قد يؤدي إلى تراجعٍ في قرارات التصعيد العسكري خوفاً من تفجير الجبهة الداخلية.

في المقابل، قد يلجأ صانع القرار الإسرائيلي إلى توسيع الحرب أو افتعال ضربة كبرى للهروب من أزماته الداخلية، رغم أن نتائجها قد تكون كارثية عليه. وبين هذا وذاك، هناك احتمال ثالث: أن تؤدي الهزائم المتراكمة إلى إنتاج قيادة جديدة أقل تطرفاً وأكثر انفتاحاً على التهدئة.

بالتالي، فإن التوازنات الإقليمية في المرحلة المقبلة ستُبنى ليس فقط على ما يجري في الجنوب أو غزة، بل أيضاً على ما ينفجر في قلب تل أبيب والقدس من أزمات سياسية واجتماعية.

أما تركيا التي تجيد اللعب على حبال الخطاب الشعبي الداعم لفلسطين والسياسة الهادئة مع اسرائيل تشهد إحتجاجات من بعض الطوائف العلوية، ويشكل ذلك ظاهرة لافتة في خريطة الإقليم.

في ظل المجازر المتواصلة في غزة، حافظت تركيا على خطابها المتوازن تجاه إسرائيل، دون أن تنزلق إلى القطيعة أو التصعيد، ما يشير الى وجود تفاهم عميق بين الطرفين جوهره تقاسم النفوذ في الساحة السورية تقاسمًا هادئًا. تركيا تُدير الشمال وتُمسك بمفاصل اجتماعية وعسكرية واسعة، فيما تبسط إسرائيل نفوذها في الجنوب عبر غارات متواصلة تستهدف الوجود الإيراني. لا صدام بين القوتين، بل توازن مصالح غير معلن، يجعل من سوريا ساحة مقسّمة بين قوتين خصمين في العلن، متفاهمين على الأرض.

المهم هنا، أن تركيا التي ظنت نفسها بمنأى عن نيران هذه المنطقة، قد تجد نفسها في قلب الحدث دون أن تخطط لذلك.

أميركا التي لا تزال تراهن على الضغط السياسي والعسكري لإبقاء الوضع تحت السيطرة، تدرك أن النفوذ الإسرائيلي يتراجع، وأن التوازنات في المنطقة تتغير. أما دول الخليج، فهي في موقف معقّد:

فمن ناحية لا تريد التصعيد، لكنها تدرك أن معادلة القوة في المنطقة لم تعد لصالح إسرائيل كما كانت من قبل. ومن ناحية أخرى قد يدفعها تصاعد الدور الإيراني واليمني إلى إعادة حساباتها.

المستقبل القريب إلى أين؟

1 . استمرار العدوان الإسرائيلي على غزة، مع تصاعد الاستهداف للمدنيين وارتكاب مجازر جديدة، مما قد يدفع إلى تحركات إقليمية غير تقليدية، خصوصًا من اليمن.

2. الجنوب اللبناني سيبقى تحت ضغط ناري إسرائيلي، وسط استمرار المقاومة بالتزام الصمت العسكري، ما يُبقي المنطقة في حالة انتظار مشحونة قابلة للانفجار في أي لحظة.

3.الشمال اللبناني مرشح للتوتّر الأمني، إما عبر اختراقات داخلية أو تسلل جماعات تخدم أجندات خارجية، في ظل غموض إقليمي وضغط دولي متزايد على الجيش اللبناني.

4. اليمن سيواصل استهداف إسرائيل ومصالحها البحرية، وقد يتحوّل إلى مركز ردع فعلي ما لم تتدخل أطراف دولية كبرى لتقييد دوره.

5. تصعيد غير مستبعد بين إسرائيل وإيران، سواء عبر ضربة إسرائيلية محدودة داخل الأراضي الإيرانية أو تصعيد عبر الساحة السورية، وهو ما قد يشعل جبهة إقليمية واسعة.

6. الداخل الإسرائيلي قد يُعيد رسم المشهد السياسي بالكامل، عبر انهيار ائتلاف نتنياهو أو بروز تيار جديد أكثر براغماتية، ما سينعكس على نمط إدارة الصراع.ما يحدث اليوم ليس مجرد حرب، بل إعادة تشكيل للمنطقة. فإسرائيل لم تعد قادرة على فرض إرادتها كما كانت في السابق. و المقاومة، رغم كل الضغوط، لا تزال تُراكم إنجازاتها. والمفاجئ أن لاعبًا واحدًا، هو اليمن، لا زال حاضرا بقوة فيي ساحة الصراع.

7. أما تركيا فإن ضغط الداخل العلوي والغضب من ازدواجية المواقف قد يدفع تركيا لإعادة تموضعها الإقليمي، إما عبر تصعيد في الشمال السوري، أو عبر تبنّي خطاب أكثر حدة تجاه إسرائيل، تفاديًا لانفجار داخلي يصعب احتواؤه.

كل طرف في هذا الصراع يكتب سطرًا في الحكاية... ويبقى السؤال الأكبر: من الذي سيكتب النهاية؟

مي حسين عبدالله

الكاتبة مي حسين عبدالله
الكاتبة مي حسين عبدالله


تعليقات: