إنتهاك حقوق الانسان مرتبط بالتدهور البيئي وتشويه الطبيعة

التخريب المتواصل حوّل لبنان من بلد سياحي إلى مستنقع للأوبئة والأمراض !

التلوّث الفكري أشدّ خطراً من نفايات المصانع والمكبّات العشوائية.

يعلّمنا الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد، ان الله خلق الكون لسعادة الانسان ورفاهيته، وان الانسان هو المسؤول الاول والاخير عن اعمار الارض والمحافظة على مقومات الحياة فيها، وقد ميزه دون سائر الخلائق، بعقل وفكر وحكمة، واعطاه نعمة التقصي والاستطلاع والتكيف مع البيئة والخليقة. هو الفنان المبدع يتكيف مع هذا الكون ويكيفه كما يشاء، وهو مدعو لـ"القيام بالاعمال الصالحة" والخير على الارض. فالشريعة والناموس في الكتاب المقدس يوجهان نحو محبة الله، التي تتجسد في محبة القريب، لذلك يجب ان يسعى الانسان للسلام والمصالحة مع نفسه، مع الله، مع الآخرين، مع البيئة التي يعيش فيها. وهذه المصالحة تتجسد عبر ايمانه المتجسد بالعمل، لان "الايمان بدون اعمال ميت"، اي في احترامه للطبيعة التي ليست ملكا له، بل هي ملك الله خالقها الذي وكل اليه امر رعايتها واحترامها.

ان الانسان، المخلوق على صورة الله ومثاله، له كامل الحرية والارادة بأن يسعى نحو الخير او يميل نحو الشر. صورة الله في الانسان، هي قدرته في التسلط على الخليقة كلها، مخضعا اياها بالبر والقداسة، مسبحا الله باسمها وموجها معه الخليقة نحو خالقها. دور الانسان القيادي هذا في الخلق، يعود الى ما قد منحه الله له من قوى وقدرات عقلية وعظمة حرية جعلته كائنا ذا ارادة، يتمتع بالصفات الانسانية التي لا نجدها عند سائر المخلوقات الجمادية، والنباتية والحيوانية.

ولو عدنا الى الرواية الثانية للخلق في سفر التكوين، لرأينا ان الرب الاله قد جبل آدم من تراب الارض ونفخ في انفه نسمة حياة (لفظة آدم، في اللغة العبرية، Adamah"، تعني المأخوذ من الارض، (لفظة "Rouah" تعني الهواء والروح). انطلاقا من هذا المعنى اللغوي الكتابي، يمكننا القول ان الانسان هو "كون مصغر" (Microcosme)، اذ يحمل في ذاته عناصر الكون الاربعة الاساسية التي هي ايضا عناصر بيئية: كالتراب والهواء والماء والنار. نستنتج من كل هذا ان الانسان هو "بيئي"، ليس لانه بحاجة الى عناصر البيئة فحسب، بل لانه "بيئي" في انتروبولوجياته"، وتركيبة الانسان الانتروبولوجية هي في جوهرها تركيبة "بيئية".

من الواضح ان الانسان والكون كانا في حالة انسجام تام وتفاعل ايجابي قبل تعدي الوصية، اذ كانت الارض تعطي ثمرها، والجداول مياهها، والطبيعة نسماتها؛ ولكن ما ان اكل آدم وحواء من الشجرة التي نهاهما الله عن ان يأكلا منها، حتى لعن الله الارض التي منها اخذ آدم فقال: "ملعونة الارض بسببك، بمشقة تأكل منها طوال أيام حياتك وشوكا وحسكا تنبت لك وتأكل عشب الحقول؛ بعرق جبينك تأكل خبزا حتى تعود الى الارض، لانك تراب والى تراب تعود". اصبحت الارض الام والقبر، والحشا واللحد.

مال الانسان بملء ارادته نحو الشر، واتجه نحو الخطيئة، التي فصلته عن علاقته مع الله ومع الآخرين، فأفسد الشر طبيعته. وهكذا اصبح فكر الانسان شريرا وفاسدا، واتجه نحو ايذاء خليقة الله المقدسة، فتلوث فكره، وفسد عقله، وتغلغل الى قلبه الطمع والجشع والكبرياء والحسد والنميمة والقتل والدمار، ونسي ان "خيرات الخليقة معدة للجنس البشري بأجمعه".

بعد هذا العرض اللاهوتي الذي بينا فيه العلاقة بين الله والانسان والكون، نصل الى القسم الثاني لنعالج فيه نظرة الكنيسة في تعليمها الاجتماعي الى دور الانسان والمجتمعات في حماية البيئة.

تعليم الكنيسة الاجتماعي

أ – تلوث بيئي:

في ما يتعلق بالنمو الانساني على مختلف الصعد، تعتبر الكنيسة انه لا يمكن ان يكون ثمة نمو صحيح اذا لم تُحترم الطبيعة والبيئة. وفي هذا السياق، يشير البابا يوحنا بولس الثاني في رسالته "الاهتمام بالشأن الاجتماعي" (13/12/1987) الى انه لا يسوغ، في مناقبية النمو ان يصرف النظر عن الحرمة التي يجب ان نحوط بها الخلائق التي تكون الطبيعة المنظورة، والتي كان الاغريق يسمونها "الكوزموس"، اشارة بالضبط، الى النظام الذي تتميز به. هذه الاشياء تستوجب هي ايضا الاحترام انطلاقا من اعتبارات ثلاثة ينبغي ان نمعن فيها النظر:

- الاعتبار الاول يقوم على الفائدة التي نجنيها، عندما ندرك اكثر، اننا لا نستطيع، بلا حرج، ان نستعمل على هوانا، ووفقا لحاجاتنا الاقتصادية، الكائنات بمختلف فئاتها الحية والجامدة – الحيوان والنبات والعناصر الطبيعية – بل يجب على عكس ذلك، ان ننظر في طبيعة كل كائن وفي علاقاته المتبادلة، ضمن نظام منسق هو "الكوزموس".

- اما الاعتبار الثاني فيرتكز على واقع يمكن وصفه ايضا بأنه يفرض ذاته اكثر فأكثر، وهو محدودية الموارد الطبيعية، علما بأن بعضها غير قابل للتجدد. فاذا اقبلنا على استعمالها وكأنها طاقات لا تنفد، وبالسيطرة المطلقة، فذلك يعرضها لخطر النفاد، وامتناع استعمالها ليس على الجيل الراهن فحسب، ولكن على الاجيال الآتية خصوصا.

- يتصل الاعتبار الثالث مباشرة بالنتائج التي يجرها النمو في بعض وجوهه، على نوعية الحياة في المناطق الصناعية. ونعلم جميعا ان الحركة التصنيعية تؤدي دائما اكثر، بطريقة مباشرة او غير مباشرة، الى تلويث البيئة وما يستتبعه ذلك من نتائج وخيمة على صحة السكان.

من الواضح اذاً، ان النمو وارادة التخطيط التي توجهه، واستعمال الطاقات وطريقة استعمالها لا يمكن ان تتم في معزل عن مراعاة المقتضيات الخلقية. وأحد هذه المقتضيات يفرض، بلا شك، حدودا في استعمال الطبيعة المنظورة. فالسلطة التي اكرم بها الله الانسان ليست هيمنة مطلقة، ولا يسوغ التكلم عن حرية التصرف حتى الافراط او استعمال الاشياء على هوانا. فالحدود التي فرضها الخالق نفسه منذ البدء، والتي يعبر عنها رمزيا "تحريم الاكل من ثمر الشجرة"، تبين بوضوح كاف أننا، في نطاق الطبيعة المرئية، نخضع لشرائع ليست بيولوجية فحسب، بل خلقية وانسانية ايضا، لا يسوغ لنا تجاوزها بلا حرج.

لقد اكدت كل المؤتمرات والاعلانات العالمية، وجود علاقة واضحة بين انتهاك حقوق الانسان والتدهور البيئي، لتدعم موقف منظمة العفو الدولية ومنظري حقوق الانسان البيئية، الذين يتبنون الفلسفة القائمة على وجود اعداد كبيرة من السكان، مهددين بتدهور قاعدة الموارد الطبيعية وتلوث المياه، اكثر ممن هم مهددون بالتعذيب. هذا التوجه يتفق مع دراسة اعدها مرصد حماية حقوق الانسان وهيئة الدفاع عن الموارد الطبيعية في واشنطن عام 1996؛ تشير الدراسة بوضوح الى ان حالات انتهاك حقوق الانسان مرتبطة بالتدهور والتلوث البيئي على المستويين الوطني او المحلي.

في رسالته "السنة المئة" (1/5/1991)، يعتبر البابا يوحنا بولس الثاني انه، الى جانب مشكلة الاستهلاك، تبرز مشكلة البيئة المرتبطة بها ارتباطا وثيقا، باعثة في النفس ذات القلق. فالانسان، الذي تسيطر عليه رغبة التملك والتمتع، وتطغى عليه رغبة التكون والتطور، يستهلك، بطريقة متطرفة وفوضوية، ثروات الارض، بل حياته ذاتها. فالاتلاف الغبي للبيئة الطبيعية، هو نتيجة خطأ انتروبولوجي منتشر في عصرنا، ويا للأسف! وذلك بأن الانسان، عندما يكتشف ما لديه من قدرة على تحويل العالم، بل على خلقه نوعا ما، بعمله، يغرب عن باله ان ذلك لا يتحقق، الا انطلاقا من الهبة الاولى والاصلية، التي جاد بها الله عليه. يخيل اليه انه يستطيع ان يتصرف بالأرض على هواه، فيسخرها لارادته بلا حساب، وكأن الله لم يحدد لها صورة وهدفا سابقين، يستطيع الانسان ان يطورهما لا ان يتنكر لهما. وعوض ان يضطلع الانسان بدوره معاونا الله في عمل الخلق، نراه يغتصب محل الله الخالق. فيفضي ذلك الى تفجير ثورة الطبيعة، وقد امست خاضعة لتحكمه لا لحكمه. ومثال على ذلك كارثة "تسونامي" التي شهدناها منذ عامين ونصف عام، والتي يرجح العلماء انها كانت نتيجة التجارب النووية التي اجريت في تلك البقعة من المحيط.

مثل حي ثان: صحة سكان لبنان في خطر من جراء تراكم الاوساخ والاقذار في الشوارع، ومن جراء قذف النفايات الى مياه البحر. يقول الاختصاصيون، ان نسبة الامراض الجلدية والامراض المعوية، تتزايد في لبنان، ناهيك بالامراض الرئوية والصدرية والحساسية، بسبب تلوث مياه الشرب بنفايات المعامل والاوساخ وحتى مياه الصرف الصحي، هذا من جهة؛ ومن جهة اخرى، تلوث الهواء من جراء جبال النفايات ودخان المعامل ودخان السيارات التي تعمل على المازوت. ثم نسمع ان لبنان بلد سياحي! من هنا ارتباط المشاكل بعضها ببعض، فمشكلة بيئية غيرت معالم البلاد وحولتها من وطن الجمال والسياحة، الى بلد الاوبئة والامراض، وهذا يؤثر بشكل مباشر على الاقتصاد وحتى على السياسة. فالغطاء الاخضر في لبنان لا يتعدى 7 في المئة من مساحته، بعدما اخذ يفقد مساحاته الخضراء الشاسعة منذ الخمسينات، وقد تحولت الى مساحات باطونية.

ان كان الانسان سيد الكون، فالسيد الحقيقي هو السيد المسيح، الذي ما طلب منا قط، ان نبذل ذاتنا لاجله، بل هو بذل ذاته عنا، واعطانا المثل، لئلا نستغل بعضنا وانفسنا والكون. فهو عندما تجسد وافتدانا، افتدى كل الكون، كل ما اخذه المسيح هو مخلص، والكون ايضا مخلص. فماذا فعلنا نحن بما خلصه المسيح؟

المسؤولية تقع على عاتق كل واحد منا في المحافظة على هذه الخليقة المقدسة نقية طاهرة وصافية. من هنا فالبيئة وحاجتها امانة في اعناقنا جميعا، فهي الحاضر الذي نعيش فيه وهي المستقبل لأجيال لاحقة.

ب – تلوث فكري وفساد عقلي:

البيئة والملوثات البيئية ليست ما ينتج من نفايات المعامل والشركات الضخمة والمصانع فحسب، والتي تطرح في الارض او التي تطير في الهواء، ولكنه "تلوث فكري" او بالاحرى "فساد عقلي"، الذي يجب ان ينقى ويصفى لانه اصل كل الشرور. والحقيقة يجب ان ننقي باطن الكأس، لا خارجها، لنشرب منها. واعتقد ان التلوث الفكري، وخصوصا هذه الايام، هو "مرض العصر"، فقد اثر من خلال تياراته المتعددة الاتجاهات والمصادر – ان كان سببها الدول العظمى او اي تنظيم شرير – على الانسان وعلى الدين والمعتقدات الدينية وعلى مجتمعنا الشرقي، واثر على بلادنا، التي هي مهد الحضارات والديانات السموية، وحياتنا الاجتماعية اليومية. ولقد اشار البابا بولس السادس الى هذا التلوث قائلا: "ان العالم لمريض. ليس داؤه في عقم الموارد او في احتكار بعضهم لها، بقدر ما هو في فقدان الاخوة بين الناس وبين الشعوب".

التلوث الفكري، هو الذي سبب التلوث البيئي، المعروف بأنه التغيير في الصفات الطبيعية، للعناصر التي تتحكم في البيئة، التي يعيش فيها الانسان: اهمها الماء والهواء والتربة. تغيير يؤدي الى الاضرار بها، نتيجة الاستعمالات غير السليمة لهذه العناصر، وذلك باضافة مواد غريبة عنها. وقد يكون التلوث بيولوجيا او كيميائيا او اشعاعيا، او بالنفايات او بعدم النظافة. فمنذ ان تحول صراع الانسان مع البيئة نتيجة فساده، من اجل الحياة، الى صراع من اجل الرفاهية، عندها بدأت المشاكل البيئية تظهر.

والتلوث الفكري، تلوث يسيطر على العقول والافكار. هو الذي اول من دفع البعض، لدفن النفايات في التربة، بهدف الحصول على الربح المادي، من دون تقدير لما ينجم عن ذلك، من عواقب وخيمة. وهذا ما تقوم به الدول الصناعية الكبرى، التي تهدر البيئة بنسبة اربعة اضعاف للشخص الواحد، من الدول النامية. والآن تطرح هذه الدول نفاياتها في الدول النامية، غير مسؤولة عن النتائج السلبية التي ستنتج من فعلتها هذه، من امراض واوبئة وضرر في التربة وتلوث في المياه والهواء. يقول البابا بولس السادس: "عسى الاشخاص والفئات الاجتماعية والدول ان يتعاونوا تعاونا اخويا، يعين القوي الضعيف على نموه، مفرغا في الامر كل كفايته وحماسته وحبه المجرد".

التلوث الفكري، هو الذي جعل الدول العظمى، تستعمل الاسلحة الكيميائية والنووية الفتاكة، لابادة الكائنات الحية. وجعل استخدام التكنولوجيا للاضرار بالانسان، خليقة الله الجميلة. "كل الاشياء تحول لي، لكن ليس كل الاشياء توافق. كل الاشياء تحل لي، ولكن لا شيء يتسلط عليّ".

البيئة.. هل من حلّ؟

أ – على صعيد الدول:

ان البيئة لا تكون سليمة في بلد دون البلدان الاخرى فالتضامن والترابط هنا لا مفر منهما. واكثر من ذلك فالبيئة لا تكون سليمة على سطح البسيطة وحدها، بل يقتضي ان تظل نظيفة في الفضاء الكوني ايضا. ان سلامة البيئة شرط يقع ضمن شروط استمرار العالم المتقدم. "فالعالم ليس سلعة، وعالم آخر ممكن".

"ان مبدأ حق الجميع في خيرات هذا العالم، علاوة على مبدأ الاخوة الانسانية والماورائية، يملي على البلدان الغنية واجبات نحو البلدان الفقيرة، تتمثل بالتضامن...". تعتبر الكنيسة ان الازمة البيئية الحاصلة تصيب الدول الفقيرة تحديدا، لان هذه الاخيرة معرضة اكثر من غيرها، لويلات الحروب والنزاعات، ولان الوسائل الاقتصادية والتكنولوجية المعدة لحماية البيئة، غير متوافرة لديها. من هنا ضرورة تكاتف بلدان الثروة وبلدان العوز، وهذا التكاتف يكفل حماية البيئة: شؤون البيئة المتعلقة بطبقة الاوزون، وارتفاع درجة حرارة الارض، وتغير المناخ، وانخفاض التنوع البيولوجي، والتصحر، وتلف الاحراج الاستوائية، وتلوث المحيطات، وتبديد المواد الاولية، وتزايد تراكم النفايات، وخصوصا السامة والذرية، هذه المخاطر لا تعرف حدود الزمان والمكان. ولقد اوصت منظمة الامم المتحدة في تقريرها عام 1987 باصدار اعلان عالمي لحماية البيئة، يتبعه اتفاق دولي تكون له القوة الالزامية.

على الدول ان "تتوخى الحد من تبذير الموارد الطبيعية والطاقات البشرية، وتمكين جميع الشعوب والناس كافة على الارض من الافادة منها بالقدر اللائق". فأزمة المياه التي تعانيها الدول الفقيرة تسبب الكثير من الامراض والعاهات والآلام وقد تؤدي في بعض الحالات الى الموت؛ وللحد من خطورة هذه الازمة، تشير الكنيسة الى ضرورة المحافظة على المياه وتوفيرها لاكبر عدد ممكن من سكان الكرة الارضية، لان المياه هي بطبيعتها عصب الحياة وعنصر حياتي لا غنى عنه، وهي حق طبيعي وشامل يرتكز على قيم "الكرامة الانسانية".

لقد جاءت فكرة حقوق الانسان في بيئة نظيفة، كرد على مظاهر الظلم البيئي، وغياب العدالة البيئية، واساليب التنمية غير المستدامة. لذلك يجب العمل على مأسسة حقوق الانسان البيئية، وهذا لا يمكن ان يتم، الا عبر تبني اهداف التنمية المستدامة، ممثلة بالمساواة بين الاجيال الحاضرة واجيال المستقبل. ان عملية مشاركة الجمهور ومؤسسات المجتمع المدني، في صناعة القرار التنموي، من خلال عملية تقويم الاثر البيئي، احد اهم الآليات باتجاه مأسسة حقوق الانسان البيئية، ليمكن المجتمعات من حماية حقوقها البيئية، عبر اتاحة المعلومات البيئية، حول حجم الضرر البيئي للمشاريع التنموية، وتبني مبدأ "من يلوث يدفع" للمحافظة على حقوق الانسان وطبيعة بيئته ومواردها من الفناء والاعتداء. "يجب ان يرمي دوما النظام الاجتماعي وتقدمه الى الافراد، لان نظام الاشياء يجب ان يخضع لنظام الاشخاص، وليس العكس".

لا تحل المشاكل البيئية ذات الطابع الكوني الا اذا تعاونت الدول في ما بينها من اجل استثمار امثل وافضل للثروات البيئية والطبيعية. وفي هذا السياق، يقول البابا بولس السادس: "على الدول الراقية واجب ملح ان تساعد الدول السائرة في طريق الترقي". لذا لا بد من ايجاد حلول قانونية دولية مبتكرة تؤمن التنسيق بين الدول، وايجاد ضوابط رادعة على المستوى الدولي مع الاخذ في الاعتبار سيادة الدول.

ب – على صعيد الكنيسة والمؤسسات والعائلة:

التقدم العلمي في سيطرة الانسان على المادة، بدأ ينقلب على الانسان من عدة وجوه. لذلك في باريس، تقود البلدية من عام 2001 سياسة نقل جديدة، بغية المحافظة على البيئة. فبعدما اوقف الترامواي الباريسي عن العمل قبل 61 عاما، اعيد اليوم استعماله، لانه الوسيلة الفضلى بيئيا والاقل تكلفة، بسبب ما تبعثه عوادم السيارات وغيرها من وسائل النقل العاملة على الوقود، من سموم تضر بالبيئة.

ففي زحلة، وعت البلدية خطر التصحر، فأعادت تشجير الجب الاجرد المطل على البلدة، بالسنديان واللوز المر والعصف، معتمدة طريقة غرس البذار، بناء على توصيات لجنة البيئة والزراعة في البلدية. ولقد تجمع اهالي المنطقة وانديتها وجمعياتها المدنية والكشفية للمشاركة بهذا العمل المشرف.

وفي اعتقادي ان نقطة الانطلاق في معالجة مشاكل البيئة تبدأ بالتوعية الصحيحة، والتربية الصالحة في المنزل والمدرسة والكنيسة وفي كل المنظمات التربوية والاجتماعية، لنعود الى فكرنا الشرقي والحضاري والديني، ساعين في نشر الحضارة، كما كنا مقاومين الشر وبانين جيلا صاعدا، يعرف كيف يحافظ على بيئته نقية. والكنيسة اسهمت عبر العصور ولاجيال في مكافحة التلوث البيئي بأشكاله كافة، عبر الاديرة والمؤسسات الكنسية والمحلية والعالمية حيث اسهمت في جر المياه وتنظيفها بأحدث الآلات ومدت مساعدتها للقرى المجاورة لها، مع زرع الصحراء ومعالجة تربتها.

الكنيسة اسهمت وتسهم عبر ارشاداتها ومواعظها وندواتها الثقافية المستمرة. واصدرت الكنيسة في حمص بيانا، باسم رؤساء الكنائس، خاص بالمآتم، طلبت فيه منع تقديم الدخان، لاضراره الكثيرة وتأثيراته السلبية المتعددة، ومنعت اطلاق العيارات النارية، والتخفيف من استعمال اكاليل الورود، والتعويض عنها بالتبرعات للجمعيات الخيرية. ولقد وجهت اولادها في مراكز التعليم الديني، ليعملوا على نظافة بيتهم ومدرستهم وشارعهم. ولديهم لجنة، باسم لجنة حماية البيئة، يترأسها الدكتور ابرهيم وردة، منبثقة من اخوية الاسرة في كنيسة ام الزنار بحمص، تطلعهم بشكل دائم على المستجدات حول البيئة.

"ان الحقيقة الكونية مدعوة هي ايضا الى التسبيح"، من هنا تبدي الكنيسة اهتمامها في الحفاظ على البيئة، فهي تستعمل منها اشياء كثيرة في ممارسة طقوسها الكنسية كالزيت والقطن والماء واغصان الزيتون والقمح والكرمة والنبيذ والخل والسمك، ويصادف موعد الصوم الاربعيني في معظم الاحيان في نصف آذار ونيسان، مع فترة توالد المواشي وارضاع حملانها. وتمنع الكنيسة في هذه الفترة اكل اللحم وشرب الحليب ومشتقاته. كما ان الاصوام الكنسية باعتبارها اصواما نباتية، تساعد في تنقية الجسم من مواد كثيرة وتريحه. وهو صحة تامة للجميع وهذا ما ينصحنا به الاطباء للتخفيف من الشحوم والمواد الدهنية القاتلة.

ان ما يستهدفه الانسان في مساعيه نحو تحسين المعيشة بالتصنيع اصبح وبالا وكابوسا عليه وعلى صحته وامواله، لذلك يجب ان نؤكد فنركز على البيئة الثقافية في التوعية.

1 – ان نكسب اولادنا عادات صحيحة وصالحة، للمحافظة على البيئة. وكذلك ان يكتسبوا "مهارات"، يستطيعون عبرها المحافظة على البيئة، وهذا العمل ينطلق بأسس، اولها التربية المنزلية، ثم التربية المدرسية عبر التعليم والتوجيه واعداد المناهج، ويجب ان تكون ثمة مادة رئيسية في المدارس لهذه التربية.

2 – رصد كل المشاكل البيئية في المنطقة ودرسها، ووضع الخطط العملية من اجل الحد من انتشارها اولا، ومعالجتها بغية ايجاد الحلول المناسبة لها.

3 – التوعية البيئية المستمرة، بغية الوقاية من حصول اي مشكلة بيئية، عن طريق المؤسسات والمنظمات الموجودة في الدولة، والحركات المسيحية كالطلائع والشبيبة والمؤسسات الدينية والنقابات المهنية.

4 – اعداد البرامج التربوية المستمرة في المدارس والتلفزيونات، ومن خلال الحملات، لمعالجة التلوث، كذلك عبر ايجاد مستوعبات متخصصة كل منها لفرز النفايات وخصوصا ما ينجم عنها من اضرار.

5 – تشجيع اعادة استعمال المواد المستعملة كالورق والحديد والزجاج، الخ. كذلك يجب ادراج برنامج تقنين معين على البيوت والمصانع والمؤسسات، بغية الحد من الهدر على كل الاصعدة كالمياه والكهرباء وغيرها.

6 – وضع قانون جديد يحمي البيئة ويعرض منتهكيها للتغريم وحتى للحبس ان اقتضى الامر.

الخلاصة

بناء الانسان يحمي البيئة وحماية البيئة تبني الانسان، "فكيف نبقى غرباء عن امكانية كارثة بيئية تجعل اماكن واسعة من الكرة الارضية غير صالحة للسكن ومضرة بالانسان؟". "ان جمال المرء، ينضج عبر جمال ما حوله، وجمال ما خلق الله حولنا نشوهه بأيدينا او نحفظه بأيدينا. فما فوقنا من طبقات سماء، وما حولنا من خضرة ونبات، وما يحوطنا من ماء، انما هي في الاعناق وجبت صيانتها. فالقليل من الاهتمام والرعاية كفيل بحماية بيتنا من التشوه والزوال". من هنا فالبيئة وحاجتها امانة في اعناقنا جميعا، فهي الحاضر الذي نعيش فيه وهي المستقبل لاولادنا، "لا بد لبشرية اليوم من ان تعي واجباتها ومسؤولياتها تجاه الاجيال المقبلة".

"بدأ الانسان حياته على الارض وهو يحاول ان يحمي نفسه من عوامل الطبيعة. وانتهى به الامر بعد آلاف السنين وهو يحاول ان يحمي الطبيعة من نفسه". المسؤولية تقع على عاتق كل واحد منا في المحافظة على هذه الخليقة المقدسة نقية طاهرة وصافية. "ان جمال الخليقة يعكس جمال الخالق غير المتناهي. فيجب ان تستدعي الاحترام والخضوع لدى عقل الانسان وارادته". فلنصل مع القديس فرنسيس الاسيزي "نشيد المخلوات"، مسبحين الله في خلائقه: "لك المديح، يا ربي، في جميع خلائقك، ولاسيما السيدة اختنا الشمس، التي تمنحنا بها، في النهار النور، انها جميلة، ولها اشعاع شديد التألق، وهي عنك، ايها العلي، تقدم لنا الرمز... لك المديح، يا رب، لأجل اخينا الماء، ذي النفع العظيم والتواضع الشديد، الثمين والطاهر...

لك المديح، يا رب، من اجل الاخت امنا الارض، التي تحملنا وتقوتنا، التي تؤتي الثمار المتنوعة مع الازهار المختلفة الالوان والاعشاب... سبحوا وباركوا ربي، واحمدوه واخدموه في كل تواضع".

ان تعليم الكنيسة الاجتماعي، يتوجه الى حياتنا وبيئتنا. فنرجو ان نكون قد احطنا ببعض جوانب الموضوع، وان نكون قد اشعلنا نار الروح من جديد في رماد يكاد ينطفئ.

المراجع

- يوحنا بولس الثاني، "الاهتمام بالشأن الاجتماعي"، 13/12/1987.

- يوحنا بولس الثاني، "السنة المئة"، 1/5/1991.

- يوحنا بولس الثاني، "نور الشرق"، 2/5/1995.

- بولس السادس، "ترقي الشعوب"، 26/3/1967.

- يوحنا بولس الثاني، نحو الفية جديدة"، 6/1/2001.

- يوحنا بولس الثاني، "الى جميع الشبان"، 30/3/ 1985.

- المجلس الحبري للثقافة، "من اجل راعوية الثقافة"، 23/5/1999.

- مجمع العقيدة والايمان، "الحرية المسيحية والتحرر"، 22/3/1986.

- "التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية"، عرّبه حبيب باشا وآخرون، سنة 1999.

- "المجتمع المحلي. العولمة والبيئة، التحديات الرهائن والبدائل"، وقائع المؤتمر الثاني والعشرين، سلسلة الشأن العام في قضايا الناس، منشورات جامعة سيدة اللويزة، لبنان، 2000.

- سلوانس بطرس النعمة، "المسيحية والبيئة"، محاضرة تليت في الندوة الاولى لاطباء حمص في قاعة الميتم الاسلامي بحمص بتاريخ 20/5/2004.

- عايد راضي خنفر، "حق الانسان في بيئة نظيفة"، مقالة سحبت عن الانترنيت.

- المجمع الفاتيكاني الثاني، الدستور الراعوي حول التبشير في عالم اليوم "فرح ورجاء"، 7/12/1965، عدد 26.

- "يوم الشجرة والتحريج في جديتا"، في جريدة النهار، الاربعاء 13/12/2006.

* راهبات الوردية

تعليقات: