سوق الجمال الشعبي في الشياح (حسن عبد الله)
الغلاء، ارتفاع الأسعار، الأزمة التي يعيشها لبنان في السنوات الأخيرة، مفاهيم كلها تقود باتجاه واحد: نحو الشعبي. شعبي: سوق الملابس شعبي، سوق المواد الغذائية شعبي، والأدوات المنزلية شعبي. أسواق شعبية تنتشر في كافة أنحاء الجمهورية، باستثناء بعض شوارع العاصمة التي باتت حكرا على الميسورين. شعبي بمعنى أن عامة الشعب تلجأ إليه، وليس بمعنى أنه صنع هنا.
أخلت الملابس المستوردة من أوروبا المكان لتلك المستوردة من الصين والهند وإندونيسيا وتركيا، أو من الغرب ولكن بعد مواسم من تصنيعها.
من الحمرا حتى مار الياس، ومن برج حمود حتى برج البراجنة، ومن الشياح حتى صبرا، صارت الملابس رخيصة الثمن، متدنية الجودة، تحتل واجهات المحلات، والبسطات، وأحيانا أرصفة الطرقات، ومعها الملابس التي تقع في خانة ما بين »الستوك« والمستعملة.
إلا أن عملية التحول في النوعية هذه لم تخف ما هو »أعظم«، أي عملية »الإعراض« عن الشراء من أساسه.
فالأسواق تشهد تراجعا في عمليات الاستيراد كما في حجم المبيعات. ويقول نقيب مستوردي الألبسة الجاهزة محمد سالم إن نسبة الاستيراد تراجعت ثلاثين في المئة مقارنة بالعام الماضي، في حين يؤكد مساعد نقيب الألبسة المصنعة في لبنان فادي حسامي أن نسبة المبيع في الاسواق اللبنانية تراجعت بحدود الستين في المئة خلال السنوات الثلاث الماضية.
ويقول عدد من التجار إن المحلات الشعبية وتلك التي تبيع ماركات معروفة تستورد من البلدان نفسها تقريبا: الصين بالدرجة الاولى، ثم تركيا والهند واندونيسيا، مع استيراد معظم القطنيات من مصر وسوريا. لكن الفارق في نوعية القماش وجودة الخياطة هو الذي يميز بضائع عن أخرى.
زبائن ميسورون و... سرقات
تؤكد بائعة في أحد المحلات الشعبية في الحمرا أن عدد الزبائن الميسورين الذين يقصدون المحل زاد في ظل الازمة الاقتصادية، وهم يشترون في الغالب منامات وسراويل، في حين بقيت غالبية الزبائن من ذوي الدخل المحدود الذين تدنت قدرتهم الشرائية، فأصبحوا لا يختارون إلا ما هم بأس الحاجة إليه.
وتشير الى أنه في السابق، كانت الام تشتري ملابس للعائلة خلال الموسم بقيمة تتراوح بين مئتين وخمسين ألفا وثلاثمئة ألف ليرة، فأصبحت تشتري اليوم بقيمة مئة وخمسين ألف ليرة.
وهناك صنف ثالث من الزبائن هم السياح العرب الذين يقصدون المحل للتبضع، من خليجيين وعراقيين وسوريين وأردنيين ومصريين.
وتوضح بائعة في محل شعبي آخر في الحمرا أن من بين زبائن المحل شخصيات معروفة. وتفاجأ أحيانا بزبونة تفاصل في أسعار الملابس، بينما سائقها ينتظرها مع سيارتها في الخارج. إلا أن غالبية الزبائن هم من غير الميسورين الذين زادت اسئلتهم عن الاسعار.
وتؤكد زيادة حالات السرقة في المحل: تقيس الزبونة قطعة ملابس وتنزع عنها العلامة الخاصة بالمحل وتضعها في محفظتها، وفي حال اكتشفها المحاسب على الصندوق تكون الاجابة في الغالب: اعجبتني ولا املك ثمنها.
وتقول إنها ترى في محلات أخرى غالية قطع الملابس نفسها الموجودة حيث تعمل، لكنها تباع بأسعار أعلى بكثير.
وقد انعكس التراجع في المبيعات على رواتب البائعات، فمنهن من لم يتقاضين الزيادة على الرواتب التي أقرتها الحكومة، وبعضهن تقاضى زيادة أقل من المبلغ المقرر، وهو مئتا ألف ليرة. إلا أنه ليس بإمكانهن إبداء امتعاضهن سوى في السر.
الاستعداد للأعياد
في برج حمود، بدأ أصحاب المحلات التحضير لموسم عيدي الميلاد ورأس السنة، لاسيما أن الأعياد أصبحت مناسبة للتعويض عن قلة الزبائن في الفترة المتبقية من موسم الشتاء.
وتقول بائعة في أحد المحلات الكبرى: »خارج الأعياد لا يوجد بيع تقريبا،« مشيرة إلى أن نسبة البيع تتراجع عاما بعد عام، »مثل كل شيء آخر في البلد«.
بدورها، تشرح كارلا أنها متخصصة في بيع البضائع الاجنبية التي تعرض في ركن خاص من محلها، لكنها أيضا تعرض البضائع الرخيصة الثمن، تبيعها لزبائن من لبنان وخارجه، لذلك تقول إن نسبة البيع جيدة.
ويقصد برج حمود في الموسم الحالي السياح القبارصة، بعد الخليجيين في الصيف، بالاضافة الى الاردنيين والسوريين.
ملابس مستعملة ..»سينييه«
في الشياح، زاد الاقبال على سوق الملابس المستعملة.
ويوضح أحد البائعين ويدعى مشهور الخنسا أن عدد زبائن الملابس المستعملة تضاعف بعد حرب تموز عما كان عليه قبلها، وقارب أحيانا الستين بالمئة، ويتنوع هؤلاء بين ميسورين وفقراء.
من المعروف أن الملابس المستعملة هي أوروبية المصدر، لكن بعد ارتفاع سعر اليورو، استبدل الالماني منها بالبريطاني.
ويشرح الخنسا أنه يجري في بريطانيا في نهاية كل عام تجميع الملابس التي لم يعد يريدها اصحابها ،لتصديرها في »بالات« تتضمن كل أنواع الملابس. يشتري هو من تلك البالات، ويبيع القطعة بسعر يتراوح بين ألف وألفي ليرة.
ويشمل السعر المذكور السترات والسراويل، لا توجد عنده قطعة بسعر أعلى من ألفي ليرة.
وقد لاحظ من خلال عمله أن الفقراء يخجلون من شراء الملابس المستعملة أكثر من الميسورين، ربما لأنهم يعرفون في قرارة أنفسهم أنهم غير قادرين على شراء غيرها.
أما جاره، فهو متخصص في بيع الملابس المستعملة »سينييه«، بالاضافة إلى البطانيات والأغطية والمخدات والستائر. يقول إن لديه زبائن مداومين من الميسورين، لكنهم يقصدونه ليلا كي لا يراهم أحد، يشترون أفضل ما في »البالة«، بعدما يفتحها خصيصا لهم.
لا دراسة لحركة الأسواق
يقدر مساعد نقيب أصحاب مصانع الالبسة في لبنان فادي حسامي نسبة التراجع في سوق الملبوسات بستين في المئة، وهو يعرف تلك النسبة من كلامه مع الزبائن الذين يقصدونه، لأنه لا توجد دراسات لحركة الاسواق في لبنان.
يورد مثلا على ذلك قائلا إنه كان يستقبل في معمله كل صباح بين خمسة عشر وعشرين تاجرا، فأصبح يستقبل بين ثلاثة وأربعة تجار، يسألهم عن وتيرة العمل فيجيبون بأنه قد يمضي يوم كامل »لا يستفتحون فيه«.
يضيف نقيب مستوردي الالبسة محمد سالم إلى الازمة الاقتصادية الداخلية سببا آخر لتراجع القدرة الشرائية هو تراجع موارد المغتربين اللبنانيين الذين يرسلون الاموال إلى أهاليهم، على اعتبار أن غالبية اللبنانيين يعتاشون من أموال الاغتراب.
أزمة الألبسة الوطنية
وقد ساهمت الازمة في اقفال عدد من معامل النسيج الوطني، إذ يؤكد حسامي أنه كان في لبنان خلال التسعينيات، سبعة آلاف مصنع للألبسة الجاهزة، بينها ألف وثلاثمئة معمل مسجلة لدى النقابة، تبيع تسعين في المئة من إنتاجها في السوق المحلية، ثم تراجعت نسبة البيع من الانتاج إلى حدود الثلاثين في المئة حاليا.
كما تراجعت نسبة التصدير إلى الخليج بنحو عشرين في المئة. أما نسبة التصدير الى أوروبا فكانت تقدر بثلاثة وعشرين بالمئة، ثم وصلت اليوم إلى خمسة في المئة. ويعيد حسامي السبب إلى كلفة التصنيع في لبنان وهي الأعلى بين الدول المجاورة، وحتى أعلى من العديد من دول العالم.
ويقول انطلاقا من خبرته في مجال بيع الالبسة إن المستهلك اللبناني هجر المنتج الوطني لمصلحة الصيني والتركي والهندي والاندونيسي، مع العلم بأن المصنعين اللبنانيين يعرفون القياسات اللبنانية ويخيطون الملابس المناسبة لها.
ويؤكد حسامي أن نسبة المحلات التي تستورد من الصين تصل إلى التسعين في المئة، ومن بينها محلات الحمرا وفردان والاشرفية، »فحتى البضائع الأوروبية تصنع في الصين«.
ويرد نقيب مستوردي الالبسة سبب تخلي اللبنانيين عن البضائع الاوروبية إلى الارتفاع الكبير في اسعارها، بالإضافة الى ارتفاع سعر اليورو (سابقا) مقارنة بالدولار.
ويوضح أن كلا من ايطاليا وألمانيا تحولت إلى تصنيع الملابس في بولونيا واليونان وكرواتيا، لكن ذلك لم يؤد إلى خفض الاسعار لأن كلفة التصنيع في تلك الدول عالية، ما ساهم في تقدم الصيني والتايواني والتركي. وهو يصنف البضائع المستوردة الى لبنان في درجات: الايطالي أولا، ثم البولوني، فالكرواتي، فالتركي، فالصيني.
ومع تراجع نسب البيع، تبقى نسب الارباح متروكة للتجار.
يقول حسامي إنه يمكن استيراد قميص رجالية مثلا بسعر أحد عشر دولارا ثم تباع بخمسين دولارا، أي أن الارباح تتراوح بين مئتين وخمسين بالمئة وثلاثمئة بالمئة.
وانتقد سالم من جهته الفارق الكبير بين سعر استيراد البضائع الصينية وسعر مبيعها في السوق، قائلا إن القطعة التي يتم استيرادها بسعر ألف ليرة تباع بعشرة آلاف ليرة، لكنه قال إنه غير قادر عن الحد من نسب أرباح التجار، لأن كل تاجر يتلقى دعما من جهة ما.
تعليقات: