قراءة في كتاب علي بدر الدين «66 يوماً من النزوح» بين مآوي القهر وظلال الأمل

ابراهيم مصطفى يتسلم الكتاب من الصحافي الزميل علي بدرالدين
ابراهيم مصطفى يتسلم الكتاب من الصحافي الزميل علي بدرالدين


على امتداد 66 يوماً من النزوح، يسرد الصحافي الأستاذ علي بدر الدين تفاصيل تجربة إنسانية قاسية، عايشها الجنوبيون لحظة بلحظة، يوماً بيوم، تحت نار العدوان “الإسرائيلي” الأخير، إنه كتاب لا يحمل مجرد توثيق لحرب، بل هو نص نابع من عمق التجربة، يمزج بين وجع الراوي ودمعة النازح، وبين شهادات الأمل واليأس، والحنين والفقد، والانتظار والغياب.

هذا ليس مجرد تأريخ للحظة هروب من الموت، بل تصوير دقيق لمصير شعب اقتُلع من أرضه، ليقيم مؤقتاً في مدارس، وفي بيوت لا تشبه بيوته، وفي مدن وقرى لم يخترها. رسم بدر الدين خارطة الوجع اللبناني الجنوبي، ودوّن تفاصيلها بحبر التجربة، ليقدّم لنا شهادة حية عن زمن التشريد، وعن الناس الذين انتظروا العودة إلى منازلهم تحت هدير الطائرات، بينما كانت أرواحهم معلقة بين البقاء والزوال.


مدنٌ مصنوعةٌ من الغربة…

ووطن مؤقت على الأرصفة

في طوفان النزوح، نرى الجموع وهي تتدفق على الطرقات، محمّلة بما خفّ حمله من متاع وحكايات مؤلمة، يفرّون بأرواحهم من نار العدوان، باحثين عن مأوى، ولو مؤقت، وفي مأساة عائلة نازحة، تتجسّد صورة الأسرة التي فقدت البيت والأمان، وتُصارع من أجل البقاء في ظلّ ظروف لا ترحم. بينما النازحون بين الإهمال والاستغلال والشائعات يكشف الوجه الآخر للمحنة؛ وجهاً بشعاً يستغلّ حاجة الضعفاء، وينسج حولهم الأقاويل والوعود الكاذبة.

في لقاء بين نازحين بالصدفة، تتعانق الحكايات، وتتصافح الأرواح، بحثاً عن عزاء، بينما تتجلى الخديعة في تضليل، حين يصبح النازح ضحية التضليل الإعلامي، يعيش على أمل عودة مؤجلة أو وقف لإطلاق نار لا يأتي. أما الإعاشات الخالية من المعلبات، فهي عنوان للجوع الحقيقي والمجازي، حيث تتراكم المساعدات، لكن الحاجة والكرامة تنزف بصمت.


على حافة المصير

بين البقاء والزوال…

في “البقاء أو الزوال”، تبدو الحياة معلقة على خيط رفيع، حيث يتساءل النازح: هل يستطيع الصمود في مدارس الإسمنت الباردة، أم تبتلعه دوامة الانكسار؟ هواجس نازح، حكاية مخاوف لا تنتهي، تتسلل إلى القلب مع كلّ غارة على بيت او حارة ومع كلّ نبأ عن بلدة مدمّرة أو شهيد جديد. في “النبطية التي في خاطري”، يسترجع الكاتب صورة المدينة التي أحب، مدينة الحقول والبيوت البيضاء، التي تحوّلت إلى أطلال في ذاكرة نازح.

أين الرحمة يا بعض شعب لبنان العظيم؟

في “أهكذا يُعامل النازحون يا بعض شعب لبنان العظيم؟”، ترتفع صرخة الاحتجاج، لا ضدّ العدو فحسب، بل ضدّ من تجاهل صرخات اللاجئين في وطنهم، من تركهم يتوسّلون مأوى أو لقمة. ويحمل بدر الدين إلينا “رسالة من نازح يائس ومفلس” رجاءً أخيراً، صوتاً متعباً يبحث عن إجابة… عن معنى لهذا المصير المفروض قسراً. ثم يأتي التساؤل المؤلم في “نازح يسأل: أذهب إلى أين؟”، حيث لا جواب إلا الصبر، ولا أفق سوى الانتظار على قارعة الطرق.


الحنين الذي يثقل القلب

والمفتاح الذي لا يفتح إلا الذاكرة

في “الحنين إلى البيوت والأرض”، يصبح المفتاح الذي احتفظ به النازحون رمزاً لأمل ثقيل؛ يحملونه كما يحملون قلوبهم المتعبة، يحدقون فيه وكأنهم يستحضرون رائحة التراب، وجدران البيوت، وصوت الأحبة، أما في “ارفعوا أيديكم عن النازحين”، فهي صرخة ضدّ استغلالهم، وضدّ من استباح حريتهم، وكرامتهم، في سوق الابتزاز السياسي والمساعدات المشروطة والممهورة بالذل والاذعان.


حكايات التشرد…

وجوه النزوح المتعددة

ومن دفتر التشرّد، تنبثق حكايات لم تكتمل فصولها بعد، وجوه مرّت في صمت، وقلوب علّقت أحلامها على مفترق الانتظار في “الزمن الذي توقف عند عتبة الملاذ”، كانت الساعات تمضي ثقيلة كأنها لا تنوي التحرك، بينما الأرواح تزدحم خلف أبواب مغلقة، يقيّدها الخوف، ويشدها الأمل من بعيد.

هناك، “طفولة مفقودة في زوايا النزوح”، أطفال بلا ملاعب، بلا دفاتر، بلا حقائب، حُرموا دفء البيوت وضوء المدارس، وعاشوا أعمارهم القصيرة في ظلال الملاجئ والغرف المزدحمة، حيث يصبح اللعب ترفاً، والحلم رفاهية مؤجلة.

وفي “البيت الذي في قلبي”، يسكن الوطن كما لم يسكن من قبل؛ بيت لا يتهدّم، لا يحترق، ولا تنال منه آلة حرب، إنه بيت معلّق في القلب، نوافذه تطلّ على الذكرى، وأبوابه لا تُفتح إلا بالحنين.

أما “المرايا المكسورة في عيون النساء المشردات”، فهي شهادة على وجوه فقدت ملامحها بين التعب والخوف، نساء بلا زينة، بلا أساور ولا عقود، لا يحملن سوى ثقل الأطفال والخوف على الغد، وذاكرة مشققة على وجوههن كأرضٍ عطشى تنتظر المطر.

وفي وطن “معلّق في الهواء”، تذوب الجغرافيا وتتلاشى الحدود، فلا وطن إلا في الحلم، ولا علم إلا في الذاكرة، ولا أرض إلا في الوجدان، بين حقيبة الرحيل وصورة قديمة علّقوها على جدار الوقت.

وها هو “الجنوب في خريطة القلب”، ليس أرضاً فحسب، بل حالة انتماء عصيّة على الاجتثاث، محفورة في الأجساد، ومكتوبة في العيون التي ترفض أن ترى مكاناً آخر بديلاً.

وفي الفجوة بين “مراكز الإعاشة وصرح الكرامة”، وقف النازحون يحملون كرامتهم كبطاقة هوية، رغم حاجتهم للقوت والدواء، يثبتون أنّ الكبرياء يمكن أن يعيش حتى في أقسى حالات الذلّ، وأنهم لم يفقدوا سوى المأوى، لا الشرف ولا العزّة.

ذلك “الأمل الضائع على حافة اليأس”، كان خيطاً واهياً، ومع ذلك تمسكوا به، كلّ صباح ينهضون، يفتشون عن وجه السماء، يرسمون فيها مستقبلاً مختلفاً، وطناً يعود، وقرية تعود، وحقولاً تنبت من جديد.

وفي “اللقاءات القدرية على دروب التشرّد”، تتلاقى الأرواح كما تتلاقى الطيور المهاجرة في سماء مجهولة، يشدّ بعضها بعضاً، ويبتسمون رغم الدموع، يقتسمون الخبز والذكرى، ليظلوا أحياء، ولو على طرف الرحيل.

“حين يصبح المفتاح أثقل من الجسد”، يكون الإصرار على العودة هو الحياة بحد ذاتها؛ ذلك المفتاح الصغير في الجيب، تحوّل إلى صليب يحملونه، ينتظرون اليوم الذي يعيدهم إلى أبواب منازلهم، يفتحون به زمناً توقف هناك.

وفي “نساء بلا زينة… بلا مرايا”، هن البطلات المجهولات، اللواتي صنعن حياة وسط العدم، غزلن من صبرهن عباءة لأطفالهن، وزرعن حكايات الرجاء في قلوبهم الصغيرة.

أما “البطل الذي لا يعرفه أحد”، فهو ذاك الرجل الذي حمل كلّ يوم حكاية العائلة على كتفه، أو تلك المرأة التي كتمت خوفها لتمنح الدفء لغيرها، أبطال لا تذكرهم الصحف، لكنهم صامدون على جبهة الكرامة والوجود.


شهادة حية من قلب النزوح

كتاب 66 يوماً من النزوح هو وثيقة حية كُتبت بمداد الدموع، صوت ينطق باسم من صمتوا طويلاً خلف جدران الملاجئ، وتحت أسقف البؤس، وبين طرقات الشتات.

سجّل علي بدر الدين هذه التجربة الإنسانية الخالدة بصدق كبير، فكان عمله شهادة للتاريخ، ووثيقة إنسانية لكلّ شعب ما زال يذوق مرارة القهر والتشريد.

إنها ليست حكاية الجنوب فقط، بل حكاية كلّ من فقد بيته، وأحلامه، وبقي صامداً على عتبة الانتظار، مؤمناً أنّ للعودة يوماً سيأتي حتماً وقطعاً.

الصحافي الزميل علي بدرالدين يقدم كتابه لعضو كتلة التحرير والتنمية النيابية النائب ناصر جابر
الصحافي الزميل علي بدرالدين يقدم كتابه لعضو كتلة التحرير والتنمية النيابية النائب ناصر جابر


تعليقات: