مي عبدالله: ترامب.. هل يفاوض إيران أم يناور الصين؟


لم تعد الصين مجرد منافس اقتصادي لأميركا، بل باتت تشكّل تهديدًا مباشرًا لمكانتها كقوة عظمى. هذا التحوّل جعل من السياسات الأميركية الأخيرة، تحت إدارة ترامب، تبدو كأنها تسير في خطٍ واحد: عرقلة صعود الصين بكل الوسائل الممكنة، حتى وإن تطلّب الأمر تجاوز الأولويات التقليدية، والذهاب بعيدًا في تحالفات مؤقتة قد تعاكس الثوابت التاريخية.

وإذ تلوّح واشنطن بورقة المفاوضات النووية مع إيران، يبدو أن الهدف الفعلي ليس التهدئة بقدر ما هو إعادة خلط الأوراق الجيوسياسية. فإيران، التي باتت حلقة مركزية في مشروع "الحزام والطريق" الصيني، قد تُشكّل ثغرة يمكن النفاذ منها لعرقلة التمدد الصيني في المنطقة. وإذا ما نجحت أميركا في فك هذا الارتباط، أو حتى في التشويش عليه، فهي تكون قد حققت اختراقًا استراتيجيًا في صراع النفوذ العالمي.

لكن الطريق إلى ذلك ليس مفروشًا بالوعود. فطهران، التي لم تعد تلك الدولة المعزولة كما في العقود الماضية، لن تُفرّط بعلاقاتها مع بكين بسهولة. وإذا قررت الدخول في تفاوض جاد مع واشنطن، فالثمن سيكون باهظًا، وقد لا تحتمله السياسة الأميركية، ولا حسابات إسرائيل المتوترة أصلًا من أي ليونة تجاه إيران.

في موازاة هذا المشهد، صعّدت الإدارة الأميركية خطواتها باتجاه بكين، من خلال فرض رسوم جمركية هي الأعلى في تاريخ العلاقات بين الطرفين، بلغت 145% على الواردات الصينية. هذا التصعيد لا يحمل بُعدًا اقتصاديًا صرفًا، بل يتعداه إلى رسالة صريحة: لن يُسمح لصينٍ صاعدة بأن تنافس على قيادة العالم.

ورغم الرد الصيني بضبط قيمة العملة وتوسيع التحالفات الدولية، فإن النزيف الاقتصادي العالمي بات واضحًا، والسوق الدولية بدأت تدفع ثمن هذا النزاع المتسارع.

ولأن الثابت الوحيد في السياسة هو المصلحة، فقد فتحت واشنطن خطوطًا جديدة حتى مع حلفائها التقليديين. زيارة نتنياهو الأخيرة إلى البيت الأبيض، التي جاءت على وقع الرسوم المفروضة على منتجات إسرائيلية، كشفت أن العلاقات الأميركية-الإسرائيلية لم تعد محصّنة كما كانت. الاقتصاد أولًا، حتى ولو على حساب الحليف الأقرب. والمفارقة أن النقاش بين الجانبين لم ينحصر في المسائل الاقتصادية، بل امتدّ إلى الموقف من إيران، والقلق الإسرائيلي من أي تفاهم قد يُخفف القبضة الأميركية على طهران.

في خضم كل هذا، لا يبدو لبنان بعيدًا عن هذه الاشتباكات الكبرى. فاقتصاده الهشّ قد يتأثر مباشرة بانكماش التجارة العالمية، خاصة مع تزايد القيود الجمركية. سياسيًا، فإن أي تقارب أميركي–إيراني سيُربك التوازنات المحلية، ويضع القوى المتحالفة مع طهران أمام استحقاقات جديدة. أما على الصعيد الأمني، فإن تصعيدًا بين إسرائيل وإيران قد يجعل من الجنوب اللبناني ساحة توتر مفتوحة، لا سيما في وجود مقاومة كامنة حالية متأهبة عند للوقت المناسب.

أمام كل هذه اللوحة المعقّدة، يُطرح السؤال الكبير: هل تنجح أميركا في الإمساك بكل هذه الخيوط دون أن تفلت منها؟ الصين تتقدّم بخطى محسوبة، وإيران ترفع سقف شروطها، فيما العالم يشهد حالة تململ متزايدة: احتجاجات داخل الولايات المتحدة، تمرد أوروبي صامت، وتكتلات بدأت تتشكل في وجه السياسات الأميركية.

ربما يكون ما نشهده اليوم ليس مجرّد فوضى، بل إعادة صياغة للعالم... عالم لم يعد يقبل بقطب واحد، ولا بصمت الآخرين.

وفي ختام هذه اللوحة السياسية المعقّدة، يُمكن تَصوُّر مسارين رئيسيين:

إذا نجحت واشنطن في فك ارتباط إيران بالصين، فستكون قد حققت ضربة استراتيجية مزدوجة: عزلت الخصم الأكبر اقتصاديًا، وأعادت طهران إلى طاولة المصالح الغربية، ولو بشروط جديدة. حينها، ستحصد إيران مكاسب ضخمة تعيد ترميم كيانها على الصعيدين الداخلي والدولي، لكنها في المقابل ستُضطر إلى إعادة ترتيب علاقتها مع حلفائها في المنطقة. قد لا يعني ذلك إضعافهم بالمعنى الصريح، لكن من المرجّح أن تُعاد صياغة أدوارهم لتناسب المرحلة الجديدة، حيث التهدئة المؤقتة قد تسبق أي عودة إلى المواجهة.

أما إذا فشلت أميركا في فك هذا الارتباط، فستكون الصين قد كسبت جولة كبرى في صراع الهيمنة، وستعزز تحالفها مع طهران، وربما تنقله إلى مستويات غير مسبوقة — اقتصاديًا، عسكريًا، وحتى تكنولوجيًا. هذا الفشل سيعيد خلط أوراق الإقليم بشكل مغاير: إيران ستتشدد أكثر، وحلفاؤها سيتحررون من أي ضغوط تهدئة، وقد نشهد موجة تصعيد جديدة، تفرض وقائع مختلفة تمامًا على خارطة النفوذ.

بين هذين الاحتمالين، يتأرجح العالم… فيما «هيجان الكون» ليس إلا انعكاسًا لصراع القوى الكبرى على رسم ملامح المرحلة المقبلة.

مي حسين عبدالله

الدكتورة مي حسين عبدالله
الدكتورة مي حسين عبدالله


تعليقات: