تحلم فاطمة باستئناف صناعة الصابون وتطوير قدراتها (خضر حسان)
بشيء من الفضول والكثير من الشغف والتحدّي، كان مشروع صناعة صابون زيت الزيتون في قرية عيترون الجنوبية. يختمر على مهل ويتحضَّر ليتحوَّل إلى مصدر دَخل مادي لفتاة تزوّجَت حديثاً. لم يكن هدف فاطمة سلامة، أن تصبح اسماً إضافياً في سجلّ صانعي الصابون البلدي يدوياً، بل أن تبتكر شيئاً جديداً في هذا المجال، وتتّجه نحو الاحتراف، وتساهم في إضافة نشاط اقتصادي، وإن متواضع، في منطقة جنوبية حدودية.
الحلم الذي بدأ في أواخر العام 2019، كان على موعدٍ مع التحديات، أكبرها الحرب التي تركت فاطمة أمام ضغط كبير، لكنّها تؤكّد أنّ استكمال المشروع هو الخيار الوحيد الذي تعترف به.
خبرة كبار السنّ وأستاذ الكيمياء
عندما كانت إحدى صديقاتها تشتري صابون زيت الزيتون، سألت فاطمة البائعة عن كيفية تحضير الصابون، فكان الجواب "لن أعلّمك"، لتردّ فاطمة "سيأتي يوم وأعلّمك أنا". وبهذا التحدّي والإصرار بدأت الرحلة.
المحاولة الأولى للحصول على صابون زيت الزيتون بالاعتماد على فيديوهات موقع يوتيوب "فشلت فشلاً ذريعاً"، تقول فاطمة لـ"المدن". وكذلك المحاولة الثانية. وفي تلك الحالة، كان الخيار الأنسب "الاستعانة بمعلومات كبار السنّ في البلدة. فذهبت إلى سيّدة عمرها نحو 90 عاماً، كانت تصنع الصابون قديماً، فعلّمتني بعض المقادير للطريقة البدائية. ومع ذلك، احترق الصابون في التجربتين الأولى والثانية. وبعد عدّة محاولات فاشلة، نجحت".
تطوير القدرات وصناعة صابونٍ يتماشى مع العصر، كان هو الهدف "خصوصاً بعد مشاهدة فيديو لصابون على شكل كيك cake، فبات لدّي الفضول لمعرفة كيف يتمّ ترتيب الألوان والمقادير ليكون بهذا الشكل. وفي معرض البحث، كنت أدوِّن تفاصيل كل تجربة أقوم بها، كي لا أكرِّر الأخطاء".
بمبدأ التجربة والخطأ، كانت المعرفة تزداد "وبعد سنة من التجربة، اكتشفت أن الزيت يتأكسَد على درجات حرارة معيّنة، وبدون التأكسد لا يمكن صناعة الصابون. واكتشفت أنّ الصناعة بالطريقة الباردة، أي عدم غلي الزيت، يعطي نتيجة أفضل وتحافظ الصابونة على الفيتامين E الذي تحتويه، وتصبح أكثر لطفاً على البشرة، خصوصاً على الوجه".
مع كل نجاح، كان الدافع لتعلُّم المزيد، يصبح أكبر وأكثر ضرورة "فشاركت في دورة تدريبية أونلاين، ومدفوعة الثمن، طمعاً بالحصول على شهادة في التصنيع. وبالفعل، بات معدّل الفشل، تجربة واحدة من أصل 10 تجارب". ولمزيد من التطوير "اتّصلت بأستاذ كان يدرّسني مادة الكيمياء عندما كنت في الكويت، وأعطاني معادلةً للتوازن المثالي بين الزيت والماء وهيدروكسيد الصوديوم، أي المكوّنات الأساسية للصابون. ومع ذلك بقيت بعض الثغرات في الصناعة، خصوصاً ظهور بقع صفراء أو بيضاء، إلى أن انتبهت لأهمية ضبط درجة الحرارة. وبذلك، من العام 2021 حتى العام 2023 كانت كل التجارب ناجحة وبدون تشوّهات".
الاستفادة المادية من المشروع
تحوَّلَت صناعة الصابون بالنسبة لفاطمة من فضول للاكتشاف إلى مهنة تكسب منها مالاً، وفي هذه المرحلة، تشير فاطمة إلى أنّ "الفكرة أصبحت عملاً". ومع هذا التحوُّل، بات من المهمّ "تحديد الفئة المستهدفة من الزبائن، فكانت البداية بكبار السنّ لأنّهم يعرفون أهمية صابون زيت الزيتون الطبيعي. ولأنّ الصابون مصنوع بطريقة عصرية، نَصَحَ كبار السنّ أولادهم وأحفادهم بهذا الصابون، فارتفع الطلب عليه".
التحوُّل الأكبر في هذا المجال، كان "البدء بتصنيع أشكال تتلاءم مع مناسبات معيّنة، مثل ولادة طفل، فكنت أصنع صابوناً على شكل قدم طفل، على سبيل المثال، والأمر نفسه في أعياد الميلاد والأعراس وغير ذلك".
اتّساع رقعة العمل، جذبَ زبائن بقدرات مالية متفاوتة، ما دفعَ فاطمة لتطويع عملها ليتناسب مع تلك القدرات "فبعض الزبائن كان يهتمّ بمظهر الصابون بغضّ النظر عن كونه مصنوعاً من زيت الزيتون أو مواد أخرى، فكنت ألبّي طلباتهم بصناعة أشكال بواسطة صابون صناعي جاهز، ليتناسب الطلب مع القدرة المالية. وهناك زبائن يسألون عن الصابون الطبيعي ويدفعون ثمنه".
ترافقَ التقدّم في البيع مع البحث عن قيمة مضافة للمشروع، كي لا يتحوَّل إلى أمر روتيني ثابت "خصوصاً وأنّي صرت أشارك في معارض أستفيد منها بتسويق الصابون، وهذا أمر يستدعي التطوير المستمر". التطوير الإضافي، بدأ بتجربة مزج مكوّنات جديدة، مثل زبدة الشِيا، ألوفيرا، الخيار، العسل، الشوفان، النعنع، القرفة، جوز الهند، الليمون، الطين المغربي... وجرّبت أيضاً صناعة الصابون بالقهوة".
النجاح المستمر أوصَلَ هذا الصابون إلى خارج لبنان. وعن طريق الأصدقاء، بات لفاطمة زبائن في دبيّ والكويت، وطلبية الصابون أصبحت "نحو 200 قطعة وأكثر".
الحرب والخسارة
لم تكن تتخيَّل فاطمة أنّ إنهاء تحضير 400 صابونة تمهيداً لإرسالها إلى الكويت، وتلقّيها اتصالاً هاتفياً من فتاة في دبيّ تريد كمية أخرى تحضيراً لعرسها، سيترافق مع اندلاع الحرب. وبحسرة، تقول إنّ "400 صابونة صُنِعَت بأشكال تتناسب مع عيد الميلاد قُبَيل نهاية العام 2023. لكن في 8 تشرين الأول من ذلك العام، وقعنا في ما سُمّيَ بحرب الإسناد، فخرجنا من المنزل على عجل، وتركت كل الصابون هناك على أمل العودة قريباً واستئناف العمل وتسليم الطلبيات... لكننا لم نعد".
مع تفاقم حدّة الحرب، بات الهَمّ الأساسي كيفية إخراج الـ400 صابونة وتوصيلهم لشخص سيحملهم إلى الكويت "فاتصلت بأحدهم كان لا يزال في عيترون ويتحضَّر للخروج. طلبت منه إحضار الصابون، وتمكَّن من الوصول إلى منزلي وأحضرهم، ووصلت الطلبية إلى الكويت". ومع المعاناة اليومية خلال التهجير والانتقال من مكان إلى آخر في مختلف المناطق، بين الجنوب وبيروت وشرق صيدا "ألغيت كل الطلبات وتوقّف العمل بالمشروع، لكن الحلم باستكماله بقي موجوداً".
يبدو الحزن واضحاً على وجه فاطمة كلّما ذكرت تفاصيل مشروعها. تسرح بعيونها في البعيد لتستحضر حدثاً أو موقفاً تعلّمت منه وعزّزَ معرفتها بصناعة الصابون. وللتعويض المعنوي عن خسارتها، كانت تقصد محال بيع الصابون في الأسواق "وكنت أرى المُبالغة بالأسعار رغم الجودة القليلة مقارنة مع ما كنت أصنعه. وكنت أتمنّى حينها لو أستطيع التصنيع والبيع بجودة أفضل وأسعار أقل، ليتمكّن الجميع من استعمال الصابون الطبيعي".
سرقة الأوراق
رغم كل ما حصل "كنت أعلم أنّني سأعود إلى عيترون وسأجد الصابون واستأنف عملي". ومع وقف إطلاق النار في تشرين الثاني 2024 "ذهبت إلى المنزل ووجدت ما تبقّى من الصابون، وبعضهم في حال جيّدة ويمكنني بيعهم، والبعض الآخر فَقَدَ جماله وظهرت عليه الشوائب".
فرحة العودة قابلها حزن خسارة الأوراق التي تحوي كل المعلومات المدوَّنة حول صناعة الصابون والتجارب الأولى بنجاحاتها وإخفاقاتها، إذ أنّ "الإسرائيليين حَوَّلوا المنزل إلى ثكنة عسكرية ورموا الأثاث خارجه، وسرقوا كل الأوراق المتعلّقة بصناعة الصابون، وضاعت بذلك الملاحظات حول التجارب التي قمت بها والنتائج التي توصّلت إليها".
لا يمكن البقاء في عيترون راهناً. فالدمار هائل، ولا بنية تحتية تسهِّل الحياة هناك. كما أنّ المنزل الذي نجا من التفجير بعد أن فكّك الجيش اللبناني المتفجّرات التي زرعها الاحتلال، لا يزال غير صالح للعيش، إذ يحتاج إلى ترميم. وبالتالي، فإن عدم العودة إلى البلدة، يعني عدم استئناف صناعة الصابون "خصوصاً في ظل عدم توفُّر كميات كافية من زيت الزيتون. فالحرب قضت على موسمين، والصابون يحتاج لزيت قديم ليتم "أكْسَدَتَه" وتحضيره للصناعة".
رغم فقدان الأوراق "لن أعود إلى الصفر"، تقول فاطمة. لأنّ "التجربة علّمتني الكثير، وبعض المعلومات الأساسية موجودة على الانترنت. لكن بالتأكيد أحتاج إلى الوقت لأتذكّر وأقوم ببعض التجارب". لكن استئناف التصنيع ليس سهلاً، إذ حيث تعيش فاطمة حالياً "سعر زيت الزيتون مرتفع، وسيؤثّر ذلك على سعر مبيع الصابون، ولا يمكنني البيع بأسعار مرتفعة".
قضت إسرائيل على مشروع كان يشهد نجاحاً تلو آخر، ويمثّل فرصة عمل تشكّل رغم بساطتها، مورد عيشٍ وأحد دوافع البقاء في الجنوب. واليوم، تنتظر فاطمة ككل أبناء القرى الحدودية، عودة يؤخَذ قرارها خلف الحدود.
تعليقات: