بعد العودة الكبيرة للنازحين باتت آلاف الشقق السكنية والمحلات التجارية مقفلة وخاوية (Getty)
مع اندلاع الثورة السورية عام 2011، تدفّق مئات آلاف اللاجئين السوريين إلى لبنان، هربًا من الحرب والموت، ليزيد عددهم عن المليون لاجئ، بحسب تقديرات الأمم المتحدة. اصطدم اللجوء الكثيف سريعًا برفض فئات شعبية وسياسية لبنانية، وسط اتهامات للاجئين بأنهم باتوا عبئًا اقتصاديًا وأمنيًا على لبنان.
طوال السنوات الأخيرة، ومع الانهيار الاقتصادي اللبناني، تصاعدت حدة الخطابات الشعبوية ضد السوريين بشكل كبير. بلغت حدود العنصرية والكراهية، وبات الهجوم على اللاجئ السوري القوت السياسي اليومي لعددٍ من الساسة والأحزاب، وشاركت فيه بعض شاشات التلفزة، إضافة إلى المنصات الالكترونية التي استرزقت عبر ضخ الكراهية والعنف الكلامي ضد السوريين.
أزمة اقتصادية في بر الياس
بعد سقوط النظام السوري عاد الكثير من السوريين إلى بلدهم. ولمعاينة حجم هذه العودة جالت "المدن" في عدد من القرى والبلدات البقاعية، التي شكلَّت حاضنة للاجئين السوريين طوال سنوات الأزمة. فتبيّن أنّ معظمهم عاد إلى سوريا. وحتّى الذين نزحوا بعد سقوط النظام السابق عاد القسم الأكبر منهم. ويكشف الواقع على الأرض أن عشرات المخيمات السابقة ما عادت موجودة وتمَّ هدمها، كما أن آلاف الشقق السكنية فَرَغَت من النازحين. ورغم ذلك يستغرب كثيرون سبب إخفاء العدد الفعلي للعائدين.
في بلدة بر الياس البقاعية أو أرض الشتات السوري كما تمَّت تسميتها، ناهز عدد السوريين فيها 130 ألف نازح، كانوا يتوزعون بين لاجئين في المخيمات داخل البلدة وعلى أطرافها. وقد بلغ عدد الذين يعملون في الزراعة والبناء والعمالة العادية نحو 60 ألفاً. بينما سكن نحو 70 ألفاً في منازل مستأجرة، كانوا يعملون في التجارة بين لبنان وسوريا، وبعضهم أقام مطاعم ومؤسسات تجارية من هنا وهناك.
هذه الأرقام يؤكدها مختار بر الياس زاهر الهندي. ويلفت في حديث لـ"المدن" إلى أن ما يزيد عن 65 بالمئة من النازحين السوريين عادوا إلى بلدهم حتّى الآن. هذا فيما يستعد الكثير منهم للعودة قريباً. ويشرح الهندي عن الفائدة الاقتصادية التي شكلها اللجوء السوري، بخلاف ما يشاع لأسباب سياسية أو طائفية. فاللجوء السوري أمّن اليد العاملة الكفؤة والرخيصة في قطاعات عديدة، مثل البناء ونجارة الباطون والخياطة والزراعة وغيرها. كما أن بعض المتموّلين من النازحين استثمروا أموالهم في البلدة وساهموا بتنشيط اقتصادها.
وأضاف الهندي أنه بعد العودة الكبيرة للنازحين باتت آلاف الشقق السكنية والمحلات التجارية مقفلة وخاوية، ولا تدرّ قرشاً على أصحابها. ويسمي المختار هذه الظاهرة بأنها "مرحلة الدخول في التأثير العكسي والسلبي للعودة على الاقتصاد"، مضيفاً أن "مشاكل لبنان سببها الفساد والمحسوبيات في بلدنا وليس الغريب".
عرسال شبه خالية من النازحين
اشتهرت بلدة عرسال في البقاع الشمالي، أنها عاصمة اللجوء السوري. فقد ناهز عدد اللاجئين السوريين فيها قرابة 140 ألف شخص. وتناقص العدد على مر السنوات، لكن بعد سقوط النظام السوري، بات عدد النازحين لا يتجاوز 6000 نازح. والتناقص يزداد مع الوقت. فيوم غدٍ الجمعة يستعد نحو 500 نازح لمغادرة البلدة عبر معبر الزمراني الجردي. وهذا ما أكده منسق مخيمات اللاجئين السوريين في عرسال سامر عامر. وشكر عبر "المدن" أهالي عرسال على استضافة النازحين طوال السنوات الفائتة مؤكداً: "منذ خروجنا القسري من بلدنا، قلنا بالفم الملآن خرجنا لنعود، والحمد لله زال نظام الإجرام، ومنذ الساعات الأولى لزواله بدأت العودة الكثيفة طوعاً، وهي في طور الاستكمال. نعرف حساسيات الداخل اللبناني. لذلك نطمئن الجميع، سيعود كل سوري إلى بلده من أجل بنائه. لبنان بلدنا وأهله أهلنا، وأملنا أن يرى اللبنانيون سوريا وشعبها كذلك".
الأثر السلبي للعودة
العودة السريعة للسوريين إلى بلدهم، كان لها أثر سلبي كبير على اقتصاد البلدة النائية. فخلال 13 عامًا مضت، شكَّل اللجوء المورد الاقتصادي الأول للبلدة ولأبنائها. فعدد العقارات المستأجرة لإقامة المخيّمات كان 143 عقاراً. واستأجر السوريون مئات البيوت والمحال التجارية للسكن أو التجارة. وأدى النزوح إلى خلق ما يزيد عن 800 وظيفة في الجمعيَّات والمنظَّمات الإغاثيَّة المحلية والدولية. كما استفاد العشرات من أصحاب صهاريج المياه وشاحنات شفط الجُوَر الصحّيّة من العمل في المخيّمات، وقد توقف عملهم نهائياً في الآونة الأخيرة.
مظاهر العنصرية مستمرة
العدد الأكبر من اللاجئين غادروا إلى بلدهم، ورغم ذلك ما زال البعض يرمي مشاكله على النازحين. ويضع مراقبون استمرار حملات العنصرية تجاه النازحين، في خانة النكد الطائفي والديموغرافي البحت. والهدف شد العصب المذهبي والطائفي، واختراع انتصارات وهمية، كما يحصل مع الأحزاب المسيحية. فقد أعاد رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل، منذ أيام في لقاء حزبي تكرار مواقفه السابقة. فاعتبر وجود اللاجئين السوريين في لبنان تهديد للهوية والديمغرافيا اللبنانية، واستمرار وجودهم بمثابة زوال للبنان. أما في بلدة القاع التي تعتبر منطقة "قواتية" فقد دخل موضوع اللجوء السوري في صلب الحملات الانتخابية، وصل الامر حد المزايدة باستعمال القوة لطردهم، علما أنّ القاع تعتمد على العمالة السورية بالكامل في مواسمها الزراعية وغيرها من الاعمال اليومية.
في المناطق الشيعية تتكرر الاعتداءات الجسدية التي تطال السوريين منذ الاشتباكات الحدودية في منطقة القصر، كما حصل في الهرمل من ضرب وطرد للسوريين حينها. وفي الأسبوع الفائت تعرض عشرات السوريين للضرب والايذاء في الهرمل عقب طعن أحد السوريين مواطناَ في المدينة. ولم يشفع لهم أن القوى الأمنية ألقت القبض على الجاني سريعاً، وكانت حادثة فردية. لكن الاحتقان والعنصرية ضد السوريين أدت إلى هذه الحملة التي طالت عشرات السوريين الآمنين.
تعليقات: