ليس الهدف من هذا الطرح تحميل رئيس البلدية مسؤولية ما لا يُحتمل، بل الاعتراف بأن النظام الحالي يتركه وحيدًا في المواجهة، في غياب مجلس فعلي يشاركه الحمل. والإصلاح هنا لا يقيّده، بل يحرّره.
رغم مرور أكثر من أربعة عقود على صدور المرسوم الاشتراعي رقم 118/1977 الذي يُعدّ الإطار الناظم لعمل البلديات في لبنان، لا يزال هذا القانون عاجزًا عن مواكبة تطورات الواقع اللبناني، ومتطلبات المجتمعات المحلية، والتحوّلات الكبرى التي طرأت على مفهوم الإدارة المحلية.
من الناحية النظرية، يشكّل القانون إنجازًا في سياق تكريس اللامركزية الإدارية، إذ يمنح البلديات الشخصية المعنوية، والاستقلال المالي، وصلاحيات في مجالات الصحة والتعليم والبنى التحتية والتنظيم المدني. كما يُنتخب مجلس بلدي من المواطنين مباشرة، ما يعزّز الطابع التمثيلي والديمقراطي لهذه الهيئات.
لكن في الممارسة، تُظهر المجالس البلدية عجزًا بنيويًا عن تأدية دورها، وغالبًا ما تتحوّل إلى مجالس رمزية تُختصر بصلاحيات الرئيس وحده، فيما يبقى باقي الأعضاء في موقع المتفرّج أو المصوّت فقط، دون أي تحديد دقيق لمسؤولياتهم.
العضو البلدي، تحديدًا، يتحوّل في ظل الغموض القانوني إلى منصب رمزي لا يرتبط بأي مهمة واضحة، ولا يخضع لأي معيار يُمكّن من مساءلته على أساس أدائه. فالقانون لا يكلّف العضو بمسؤولية محددة، ولا يُلزم المجلس بتوزيع الأدوار، ولا يمنح نائب الرئيس أي صلاحيات حقيقية، مما يجعل أعضاء المجلس أقرب إلى شهود على قرارات تُتّخذ في مكان آخر، أو أدوات تصويت في مشهد ديمقراطي شكلي.
وهنا تكمن الأزمة: حين يتحوّل المجلس البلدي إلى رئيسٍ ينفرد، وأعضاءٍ يتوارون، يغيب المشروع، وتنعدم المحاسبة.
لذا، فإن الإصلاح الحقيقي يبدأ من قلب هذه الحلقة:
- يجب تعديل القانون ليُلزم كل مجلس بلدي بوضع نظام داخلي يوزّع المهام بين الأعضاء، ويحدد لكل عضو ملفًا واضحًا (مثل: الصحة، التعليم، الأشغال، البيئة...)
- يُربط هذا التوزيع بمحاضر رسمية، وتُنشأ لجان دائمة برئاسة أعضاء، تقدم تقارير دورية.
- يُمنَح الأعضاء بدل مالي شهري ثابت، يُثبت أن العمل البلدي مسؤولية لا ترف تطوعي.
- يُعطى نائب الرئيس صلاحيات فعلية، ويُحدّد دوره بوضوح في القانون.
- تُفرض على الأعضاء الجدد دورات تدريب إلزامية في الشأن البلدي والإداري.
بهذه الإجراءات، يمكن أن يتحوّل العضو البلدي من عنصر صامت إلى فاعل، ومن شاهد على القرار إلى صانعه. والإدارة المحلية لا تُبنى بالرئيس وحده، بل بالمجلس كله.
أبرز نقاط الضعف في القانون تكمن في غياب:
- آليات واضحة لتوزيع المسؤوليات داخل المجلس.
- صلاحيات فعليّة لنائب الرئيس.
- توصيف دقيق لدور كل عضو بلدي.
- مساءلة منتظمة تُبنى على الأداء لا على الانتماء.
- بدل مالي يوازي المهام المطلوبة.
كما أن العلاقة بين المجالس البلدية والدولة المركزية تتّسم بتداخل الصلاحيات، حيث كثيرًا ما تتجاوز الإدارات المركزية حدود اختصاصها فتتدخل في ملفات من المفترض أن تُدار محليًا، مما يربك عمل البلديات ويقيّد قدرتها على اتخاذ القرار والتنفيذ.، فالبلديات تملك كامل صلاحياتها،. أما الموارد المالية، فهي غير كافية، وغير عادلة في التوزيع.
لذا، فإن الإصلاح الحقيقي يمرّ عبر:
-إلزام الرئيس ونائبه وجميع الأعضاء بالإقامة الدائمة في البلدة التي يُمثّلونها، فلا تمثيل بلا معايشة يومية لهموم الناس وواقع البلدة
- تعديل القانون لتحديد وظيفة كل عضو بلدي بوضوح.
- إلزام المجالس بتشكيل لجان دائمة تتوزع الملفات بحسب كفاءة الأعضاء.
- منح بدل مالي شهري يُثبت أن العمل البلدي ليس تطوّعًا بل وظيفة مجتمعية.
- إعادة تنظيم دور نائب الرئيس وإعطائه صلاحيات حقيقية.
- فرض دورات تدريب إلزامية لكل الأعضاء الجدد.
الإدارة المحلية ليست ترفًا، والمجالس البلدية ليست واجهة. إنما هي النواة الأولى لأي بناء وطني جدي. وإذا لم نُصلح القانون، فكل انتخابات بلدية قادمة ستكون تكرارًا باهتًا للفشل نفسه، ولو تغيّرت الوجوه.
الدكتورة مي حسين عبدالله
تعليقات: