التحريض على اللاجئين السوريين: بؤس استجداء الأصوات الانتخابية

المفوضيّة: سيتوقّف دعم التعليم بالكامل، ما سيحرم 15 ألف طفل من الالتحاق بالمدارس
المفوضيّة: سيتوقّف دعم التعليم بالكامل، ما سيحرم 15 ألف طفل من الالتحاق بالمدارس


يجد اليوم، أكثرُ من مليونٍ ونصفِ المليون لاجئٍ سوريٍّ أنفسَهم في العراء القانونيّ والإنسانيّ في لبنان. فمع اقتراب الشوط الأوّل من الانتخابات البلديّة في 4 أيّار 2025 يرتفع خطابٌ شعبويّ يستنهض الغضبَ ضدّ "نزوحٍ يهدِّد هويّة البلد"، فيما تُترجِم البلديّاتُ والأجهزةُ الأمنيّة هذا الخطابَ إلى مداهماتٍ فجريّة، وقراراتِ حظرِ تجوّل، وطردٍ جماعيّ. ويتزامن ذلك كلُّه مع أزمة تمويليّة خانقة في وكالات الإغاثة، تركت مفوَّضيّة اللاجئين من دون أكثرَ من 85% من حاجاتها لعام 2025. وهكذا يلتقي موسمُ صندوق الاقتراع، وهاجسُ "الأمن القوميّ"، ونضوبُ الموارد الدوليّة فوق رؤوس لاجئين فَقَدوا حتى حقَّ الانتماء إلى الأزمة.


التعبئة الشعبويّة

لم ينتظر جبران باسيل أكثرَ من بضعة أسابيع بعد تحديد 4 أيّار 2025 موعدًا للشوط الأوّل من الانتخابات البلديّة حتّى أعاد تصويب نيران خطابه نحو "احتلالٍ مُقنَّعٍ بالعمل الإنسانيّ"، الصفة الّتي أطلقها على اللاجئين السّوريّين في مهرجان ذكرى الانسحاب العسكريّ السوريّ من لبنان. في كلمته عيَّر باسيل الحكومة بقبولها "مفهومَ العودةِ الطوعيّةِ المشروطة"، واتّهمها بالخيانة، متعهِّدًا "تحريرَ لبنان مرّةً ثانية" من نزوحٍ يراه عائقًا أمام "هويّة لبنان".

ولا يختلف توقيت هذا التصعيد عن سوابقه؛ ففي عام 2024 سبقت موجةُ مداهماتِ الجيش للمدارس والمعامل الّتي يعمل فيها سوريّون حملةً إعلاميّةً صاخبةً قادتها محطّاتٌ تلفزيونيّة وصفحاتٌ حزبيّةٌ على وسائل التواصل الاجتماعيّ. ومنذ فرض بلديّة الحدت حظرَ تجوّلٍ ليليًّا على السوريّين (2019)، امتدّت العدوى إلى عشرات البلدات في جبل لبنان والشمال. وغالبًا ما تُصاغ القرارات بعباراتٍ فضفاضة كـ"صَوْن السِّلم الأهليّ"، لكنّها تُترجَم إلى منعِ التنقّل وتعسّفٍ في منح إفادات السكن.

وتشير إحصاءات "TIMEP"، استنادًا إلى تحليل 12 ألف منشور على "فيسبوك" و"تويتر" (تموز 2024 – شباط 2025)، إلى أنّ 34% من المحتوى الأكثر انتشارًا حول اللاجئين يندرج في خانة التضليل أو خطاب الكراهية، وغالبًا ما يربط "الوجود السّوريّ" بالجريمة والمخدّرات من دون أدلّة. حيث يخلق التفاعلُ الرقميّ دائرةَ ذُعرٍ تُغذّي الحملاتِ الميدانيّة، فتبرّر المداهمات وتشدّد القيود البلديّة.


المفوّضيّة: العودةُ فرصةٌ إيجابيّة

توضح الناطقة باسم السّامية لشؤون اللاجئين في لبنان، ليزا أبو خالد، أنّ "الوضع داخل سوريا يتغيّر سريعًا، ما يخلق فرصةً إيجابيّةً لعودة مزيد من اللاجئين أو للشروع في التفكير العمليّ في العودة المستدامة. وحتّى نيسان من العام 2025 تقدّر المفوّضيّة أنّ نحو 370 ألف سوريّ عادوا إلى سوريا من الدول المجاورة منذ أوائل كانون الأوّل/ديسمبر 2024، بينهم 143 ألفًا من لبنان. كما ارتفع عدد النازحين داخليًّا العائدين إلى منازلهم".

وتضيف: "أفاد 27 % من اللاجئين السوريّين الذين شملهم استطلاعٌ حديث في لبنان ومصر والأردن والعراق بأنّهم يخطّطون للعودة خلال الاثني عشر شهرًا المقبلة (مقابل أقلّ من 2 % قبل سقوط نظام الأسد). تعمل المفوّضيّة على دعم اللاجئين المستعدّين للعودة، مع استمرار مساندة مَن يفضّلون التريّث، وتوسيع الدعم الإنسانيّ داخل سوريا لضمان استدامة العودة. فلا تزال الأزمة الإنسانيّة في سوريا كبيرة، إذ يحتاج الملايين إلى الغذاء والمأوى والرعاية الصحيّة. ولتكون العودةُ مستدامة تحتاج سوريا إلى الوظائف والمدارس والخدمات الأساسيّة، كما أنّ رفع العقوبات سيساعد في إعادة الإعمار وتهيئة الظروف لعودة مزيد من العائلات". وتؤكّد أبو خالد أنّ "فجوات التمويل أثّرت أساسًا في الدعم الموجَّه للاجئين، وسيؤثّر العجز أيضًا في انتشار ونطاق عمل المفوّضيّة. لم تتلقَّ المفوّضيّة سوى 15 % من احتياجاتها التمويليّة حتى نيسان".

وتستطرد بالقول: " وقد أدّى التجميد الأخير للتمويل من الولايات المتحدة -إلى جانب عجز أوسع في مساهمات المانحين- إلى تقويضٍ حادّ لقدرتنا على تقديم الخدمات الأساسيّة لكلٍّ من اللاجئين والمجتمعات اللبنانيّة الأكثر هشاشة. تأتي فجوة التمويل هذه في وقت حرج للغاية، فيما نواجه حاجةً ملحّة لتأمين موارد كافية للحفاظ على التدخّلات المنقذة للحياة واستمرار الاستجابة الإنسانيّة الشاملة في لبنان. تبلغ الاحتياجات عبر المنطقة، ولا سيّما في لبنان وسوريا، أعلى مستوياتها منذ سنوات. ويعود ذلك إلى الصراع الأخير—الذي لا يزال متقطّعًا—وجولات النزوح الجديدة من سوريا، إضافةً إلى الضعف المستمرّ في الهياكل الوطنيّة الواقعة أصلًا تحت ضغط كبير".

وفي هذا السّياق تُحذّر: "من دون تحرّك عاجل، يهدّد العجز الحالي بتعميق الاحتياجات وترسيخ مواطن الضعف، وزيادة التكاليف والتعقيد طويلَي الأمد لأي استجابة إنسانيّة. إنّ حالة عدم اليقين في التمويل وانعدام الرؤية الواضحة حول التوقّعات التمويلية الكبيرة تُجبرنا بالفعل على اتخاذ قرارات صعبة بشأن الأنشطة الممكن دعمها، مع تركيز مفوضيّة لبنان أساسًا على أنشطة إنقاذ الحياة وتنفيذ الولاية الأساسيّة باستخدام التمويل المرن والمخصص المتاح".


إحصاءات مُحدَّثة

وزوّدت المفوّضيّة"المدن" بإحصاءاتٍ محدَّثةٍ عن المساعدات:

- حُذِفَ 347 ألف شخص من مكوّن النقد في البرنامج المشترك مع برنامج الأغذية العالميّ اعتبارًا من نيسان؛ ولن يُدعَم سوى 206 آلاف حتّى حزيران 2025.

- 45 ألف لاجئ لن يتلقّوا الرعاية الصحيّة الثانويّة بعد كانون الأوّل 2025.

- 40 ألف لاجئ لن يتمكّنوا من الوصول إلى الرعاية الصحيّة الأوّليّة بحلول نيسان 2025.

- قد تتوقّف أنشطة العودة لما يصل إلى 400 ألف شخص إذا لم يتوافر التمويل اللازم.

- سيتوقّف دعم التعليم بالكامل، ما سيحرم 15 ألف طفل من الالتحاق بالمدارس.

- 45 ألف شخص لن يحصلوا على أطقم أو تحسينات للمأوى.

وتختم أبو خالد حديثها، قائلةً:" لا يزال المنظور المستقبلي غير مؤكّد، ولا يمكننا تأكيد حجم الأموال التي ستُتاح للمساعدات. ومع ذلك، نعلم أنّه في عام 2025 وفي السنوات المقبلة، علينا أن نخفّض توقعاتنا التمويليّة على نحوٍ كبير. نشعر بقلق بالغ إزاء الفجوة المتزايدة بين الاحتياجات والموارد -وهي فجوة كانت جليّة بالفعل قبل هذا العام- وما سيترتّب عليها من تأثير هائل على الأشخاص الذين نقدّم لهم المساعدة".


الترحيل والثغرات القانونيّة

وقد فتح سقوطُ الأسد، ولا سيّما بعد تحقّقه من دون ثأرٍ أهليّ أو اشتباكٍ دمويٍّ منفلت، طاقةَ أملٍ عظيمةً أمام الشعب السوريّ المُتشظّي في شتات الأرض للعودة إلى وطنه، بعد سنوات من التهجير والنفيّ والاغتراب القسريّ. وعلى مدى أربع عشرة سنة، وفي فضاءٍ هائل من التعبئة العنصريّة والتحريض ضدّ اللاجئين السوريّين، ولا سيّما في بلدان الجوار كتركيا ولبنان، عادت إلى الواجهة دعواتٌ لبنانيّةٌ تُطالب بإعادتهم فورًا إلى بلادهم عقب إعلان سقوط النظام مباشرةً. وتزامنت هذه الدعوات مع قرار بعض الدول الأوروبيّة تجميد النظر في طلبات اللجوء الجديدة للسوريّين، على إيقاعِ جدلٍ سياسيٍّ وحقوقيٍّ حول استمرار انطباق صفة "لاجئ" عليهم. ومع انفتاح أفق العودة، ترتفع الأصوات المطالِبة بإعادة اللاجئين فورًا إلى سوريا، مستندةً إلى "انتفاء ذريعة اللجوء". لكنّ هذا الطرح يصطدم بغياب أرضيّة قانونيّة محلّية (لبنان لم يُصادق على اتّفاقيّة 1951) وبالتساؤلات الحقوقيّة حول أمان العائدين واستدامة عودتهم.

وتبرز تقارير منظّمات حقوقيّة عن حالات ترحيلٍ قسريّ رُصِدت على المعابر الرسميّة وفي مطار بيروت. حتى الآن ينفي الأمنُ العامّ اللبنانيّ وجودَ "خطة ترحيلٍ منهجيّة"، لكنّ ناشطين يوثّقون مداهماتٍ فجريّةً في البقاع والشمال تتبع أنماطًا "تشبه سنوات 2023–2024"، حين خرجت حافلات "العودة الطوعيّة" من عرسال تحت الضغط والتهديد بالعقوبة. فيما تصف "الجمعيّة اللبنانيّة لحقوق الإنسان" بعضَ عمليّات الترحيل بأنّها "عودةٌ تحت الإكراه": إذ يُخيَّر لاجئون مخالفون للإقامة بين التوقيف أو توقيع استمارةٍ للمغادرة "الآمنة".


وفي الوقت الذي بدا فيه الباب يُفتح لعودة الملايين من السوريّين إلى ديارهم، ما يبشّر بالانفراج، تحول في لبنان إلى شرارة تصعيدٍ انتخابيّ، وإلى ضغط ماليّ، ومسرح لحملات كراهية تهدّد النسيج الاجتماعيّ. وحدها سياساتٌ رشيدةٌ تربط الأمن الإنسانيّ بالاستقرار العامّ، وتمويلٌ دوليٌّ مستدام، وحوكمةٌ شفّافة، يمكنها نقل ملفّ النزوح من ساحة التجاذب إلى مسار الحلّ، ويُفسَح للاجئين المجال ليختاروا، بحقّ، بين العودة الطوعيّة أو البقاء الآمن إلى حين.

تعليقات: