“محاولة لتهدئة بحر الغضب” لمحمد العبدالله.. اختصار أحوالنا

قسمًا بالنور المقطوعْ، وبالماء المقطوعْ، وبالبنزينْ وبالأفرانْ، ومصرف لبنانْ، أنا تعبانْ
قسمًا بالنور المقطوعْ، وبالماء المقطوعْ، وبالبنزينْ وبالأفرانْ، ومصرف لبنانْ، أنا تعبانْ


على هامش ندوات الأغاني الساخرة التي تنظمها مؤسسة أمار في قصر سرسق في الأشرفية - بيروت، يمكن الحديث في لبنان عن تيمات كوميدية تهكمية لغوية كثيرة في هذا المجال، من حنكشيات الزحلاوي نجيب حنكش الذي وُصف بـ"إبتسامة ساخرة تمشي على قدمين"، إلى"تفتت اللغة" في طقاطيق "شيخ الملحنين" فيلمون وهبي، إلى زجليات البيروتي عمر الزعني ودبابيسه الانتقادية. ومن يوميات شوشو المسرحية الذي "هزمته الديون والرقابة"، إلى تدمير الكلام في معجم زياد الرحباني "المتمرّد الذي غنى لغة الشارع"، وحتى بعض أغاني مارسيل خليفة في "الليلة بدي خلي الكاس"، وهوارة العاقوري الجبيلي الراحل، آلان مرعب، وحدية طبيب الأسنان مخول قصوف "في "مثقفون نون". وصولاً إلى السخرية في الزجل ككل، وفي شعر الأخوانيات الذي طالما تبناه الشعراء في المقاهي وفي أحاديثهم الشفوية، لكنهم عزلوه في ارشيفهم، رغم دعوة شوقي بزيع في إحدى مقالاته إلى اطلاق سراح هذا النوع من الشعر، لكن الإصدرات بقيت محدودة في تجارب لطارق آل ناصرالدين وناجي بيضون.

وكي لا يطول الكلام حول الأغاني الساخرة، سأختصر الحديث في أغنية واحدة، غير متداولة كثيراً في الاذاعات ومحطات التلفزة. وربما كانت تحتاج لحناً آخر لإيصالها، وهي معبّرة عن أحوال لبنان وفلسطين وسوريا والعراق.

إذ يُروى، والله أعلم، أنّ الشاعر اللبناني الخيامي، رفيق سهراتنا في شارع الحمرا، الراحل محمد العبد الله، صاحب "رسائل الوحشة" و"حبيبتي الدولة" التي هي "رهاننا الوحيد مهما كان ضعيفاً" و"هي المشكلة وهي الحل"، كان في مدينة صور الساحلية الجنوبية، يبتاع من "فلافل بوّاب" في أواخر أيّام الحرب الأهلية. ركله أحدهم وتبيّن أنّه عنصر في إحدى التنظيمات المسيطرة والمهيمنة في ذلك الزمان، أو مسؤول فيها وربما ما زال. فكتب العبدالله قصيدة عنونها "محاولة لتهدئة بحر الغضب"، غناها في ما بعد الفنان اليساري الجبيلي، سامي حواط، وتقول كلماتها:

أحد الإخوان،

وأنا أبتاع رغيف فلافل

من ذاك الدكان،

لم يعجبه أمرٌ، لا أعرفه، فيّ،

فيدايَ كأيدي الناسْ

وكذلكَ رجلاي وعيناي

وأيضًا لا أختلفُ حذاءً ولباسْ

أحد الإخوان ...

لبطني

وأنا إن قيس الإنسان بهامته

سأساوي بالنسبة للأخّ اثنينْ

أو قيس الإنسان بفكرته

سأساوي ألفينْ

أو قيس الإنسان برقّته شجاعته

سأساوي مليونينْ

قلتُ: ألقّن هذا الحيوانْ

درسًا لا ينساهْ

فأضربه كفينْ

على رقبته وقفاهْ

ولكن حين علمت بأن

الأخّ اللابط أعلاهْ

من زلم السلطانْ

أحجمتُ

لأنّي تعبانْ

قسمًا بعليّ والعباسْ

قسمًا بجميع القديسينْ

أنا تعبانْ

قسمًا بصلاحِ الدينْ وحطينْ

وجميعِ الجبهات لتحريرِ فلسطينْ

أنا تعبانْ

قسمًا بالنور المقطوعْ

وبالماء المقطوعْ

وبالبنزينْ وبالأفرانْ

ومصرف لبنانْ

أنا تعبانْ

وإن شئتمْ قرفانْ

وان شئتمْ كسلانٌ وجبانْ

وكانت الأغنية تتضمن عبارة "وجودت فخر الدين"(الشاعر)، الذي اعترض على هذا النوع من المزاح، رغم أنه يكتب شعر الإخوانيات، فحذفت من الأغنية ومن النص المنشور ضمن "أعمال الكتابة".

والحال إن القصيدة أو الأغنية التي يجازف فيها "باللغة إلى حدود التخلي الكامل عن جماليتها"(شوقي بزيع) بسبب أنه استخدم فعل "لبط"، تختصر أحوال لبنان وشجونه وسياساته وسلوكيات زعرانه وسلطانه.

تختصر أحوال الكتابة الساخرة التي أبدع محمد العبدالله فيها، بنصوصه الجامعة بين التهكم والسخرية والمرارة والمرح واللعب والجد والذات والمكان والحكاية والفلسفة، سواء حين وصف الفروج المشوي في الشواية، أو سيارة اللادا الروسية بتقنيتها المتخلّفة، أو جلسات الأكل والكبة النية والحشيش، أو علاقته بالحرب الأهلية وتنقله من مكان إلى آخر في أوقات اشتعالها. وتختصر الأغنية نظام العناصر "غير المنضبطة" ونظام الأهالي ونظام الأمر الواقع وانماط التفكير المهيمنة، وواقع الحروب المتكررة والجبهات والأذرع الاقليمية وأطماع العدو وشراسته.

إنها تختصر أحوال المتعبين، التي انتهت إلى اللامبالاة في أهوال الكوارث.

تعليقات: