الانتخابات البلدية في الجنوب: تزكية الهيمنة

يتقصّد الثنائي حزب الله - أمل بناء توافقات تفضي إلى لوائح تزكية إلغائية (Getty)
يتقصّد الثنائي حزب الله - أمل بناء توافقات تفضي إلى لوائح تزكية إلغائية (Getty)


تجري الانتخابات البلدية والاختيارية هذا العام فيما الجنوب يرزح تحت نكبة غير مسبوقة: آلاف الشهداء، عشرات الآلاف من الوحدات السكنية والمتاجر سُوِّيت بالأرض، وقُرى حدوديّة -يُقدَّر عددها بين خمس وأربعين وستّين- تحوَّل كثيرٌ منها إلى ركامٍ لا يصلح للحياة. إعادةُ إعمار هذا الدمار ستتطلّب سنواتٍ حتى مع توافر التمويل، بينما تفكّك النسيجُ الاجتماعي بعد أن فقدت العائلات فضاءات اللقاء التي كانت تجمع المقيمين في القرى والنازحين خارجها، وكذلك المغتربين.

وسط هذه الكارثة، وبدل أن تتحول هذه الانتخابات إلى مناسبة للنقاش العام حول ما جرى وأيضاً حول ما سيجري مستقبلاً في ما يخص إعادة الإعمار وضمان شروط العودة المستدامة، يجد الجنوب نفسه أمام إصرار حثيث على تغييب هذه التحديات من النقاش العام، تحت عنوان التوافق وفق منطق المحاصصة، وتقاسم المناصب في المجالس البلدية والاختيارية.

يتقصّد الثنائي حزب الله- أمل بناء توافقات تفضي إلى لوائح تزكية إلغائية، التي تُسوَّق بوصفها حلاً يجنّب القرى صدامات انتخابية، لا طاقة لها بها بعد الحرب وما نتج عنها.

هذا الطرح يطعن في جوهر الحقّ الديمقراطي للمواطنين في المشاركة، وفي مساءلة من يتولّى إدارة شؤونهم المحلية، ما يفرض مقاربة نقدية تنبّه إلى أخطاره الراهنة والمستقبلية. فالتوافق البلدي لا يصحّ إلا بتوافر شرطين واضحين: رئيس مستقل موضع ثقةٍ عامة وعدم احتكار النصابٍ القانونيّ بما يضمن تمثيلاً متوازناً. أما غير ذلك، فإذا احتكر طرفٌ سياسيٌّ الرئاسةَ والنصاب معاً، انتفى التوافق لصالح الإقصاء. هذا بالضبط ما يمارسه الثنائي "حزب الله" و"حركة أمل" عندما يحصر اهتمامه بهذين الموقعين، ثم يوزّع المقاعد الباقية تلويناً شكلياً؛ فيغدو التوافق واجهةً لهيمنة جديدة، تُمنَع المجتمعاتُ المحلية من أن تكون شريكاً فعلياً في قرار إعادة البناء.

وهذا النهج هو في صلب العقل الإلغائيّ والزبائنيٍّ المتجذر عبر تحالف الحزب والحركة منذ مطلع التسعينيات، وخصوصاً بعد العام 2005، حين اتُّخذ قرارٌ منهجيّ بإقصاء الخصوم وإلغاء الحياة السياسية تدريجياً في الجنوب والبقاع والضاحية. هكذا انعدمت التعدديّة، التي كانت سمةً تاريخية للجنوب، وصارت الهيمنةُ الأحادية استثناءً صارخاً لا قاعدةً طبيعية. وإلى جانب ذلك، يهدف النهجُ ذاته إلى تعطيل النقاش حول المسؤوليات، من قرار دخول الحرب إلى كلفة الدمار وإدارة الإعمار، وإبقاء القرار المحلي رهينة حسابات داخلية ضيقة أو تفاوضية إقليمية تتجاوز الجنوب. وبدلاً من فتح حوارٍ جاد حول أولويات إعادة البناء ومصادر التمويل ودور الدولة، يُختزل الناس إلى أرقامٍ في جداول انتخابية يُستدعَون يوم الاقتراع ثم يُهمَّشون مجدداً.

هذا التفرد بالقرار بات عبئاً على الجنوبيين وعلى لبنان بأسره، لأنّ العقل الذي يُدير الثنائي يرى في الانتخابات البلدية فرصةً لتثبيت الولاء السياسي عبر نظامٍ أكثريٍّ يسهل التحكّم به، لا مناسبةً لتجنيب المنطقة معركةً في ظرفها الكارثي. ولا تتوقف خطورةُ المشهد عند حدود الثنائي؛ فبعض القوى الحزبية المحلية والتي عُرفت تاريخياً بمعارضة التسلّط، ودفع كثيرٌ منها أثماناً باهظة من الإقصاء والتهميش، قبلت هذه المرة الدخول في لعبة المحاصصة على مستوى البلديات والمخاتير، وقبلت هذه القوى أن تدخل إلى لوائح "توافقية" تُمنح فيها مقاعدُ رمزية مقابل الصمت عن جوهر المشكلة: احتكار القرار الذي كانت تتصدى له على الدوام. الموضوع لا علاقة له بحسن أو سوء النوايا هؤلاء، سيما حين تمنح الثنائي شهادة "إجماع" زائفة تُستثمَر لتبرير مزيدٍ من الانفراد. وحين تصبح التزكية غايةً في ذاتها، وهو ما يزيد من إفراغ الحياة السياسية من مضمونها؛ ويضعف استقلاليةُ المجتمع، ويُطبَع الناس على فكرة أنّ التنافس الانتخابي أمر معيب أو زائد عن الحاجة.

هذا الخليط السياسي الهجين الزاحف نحو التزكية يستوجب التصدي له، مع إدراك تام للحظة السياسية الراهنة. فالمسألة اليوم أبعد من مجرد حسابات الفوز أو الخسارة بقدر ما هي معركة الدفاع عن التعدديّة وحرية العمل السياسي وحقّ الترشح والاقتراع، في مواجهة خطاب التخوين الذي يوسم أيَّ منافس بأنه "يخدم العدو ويطعن الشهداء"، كما سمعنا مراراً في بلدات الضاحية وبعلبك والهرمل. وحده التمسّك بخيار الترشح يفتح الباب أمام مساءلة من يحتكر القرار المحلي، ويُنعش الحياة السياسية التي جرى خنقها تدريجياً منذ عقود.

ولأنّ النكبة لا تلغي السياسة بل تحفّزها، تُرفع القبعة اليوم لكل مرشحة ومرشحٍ يصرّون على خوض الانتخابات رغم الضغوط والترهيب، ويجعلون إعادة الإعمار وحق العودة أولوية فوق الترتيبات الحزبية. فمن دون هذا الإصرار ستتحوّل البلديات إلى إداراتٍ صوريةٍ خاليةٍ من المساءلة والتجديد، وسيظلّ مستقبل قرانا رهينةَ إرادةٍ أحادية تحصر الجنوب في حساباتٍ لا تمتّ إلى مصالح أهله بصلة. الخيار واضح: إمّا توافقٌ مسؤولٌ يعيد السياسة إلى الناس ويضع الإعمار في الصدارة، أو تزكيةٌ تُكرّس الهيمنة وتحرُم الجنوب فرصة النهوض من جديد.

تعليقات: