بات من المسلمات أن المرأة تواجه العنف أساساً في منزلها وفي إطار المجتمع الصغير الضيّق المحيط بها. الأب او الاخ أو الزوج او أحد الأقرباء الذكور هم من يمارس فعل العنف، والام والشقيقة والأقرباء الإناث الملتزمات بالصمت عنه، هن الضحايا، الملتزمات بالصمت.
والعنف على أشكاله الجسدية والمعنوية، تظلّله قوانين الاحوال الشخصية في لبنان، والعقوبات التي تفرضها، فإذ بها تعنّف المرأة قانونياً عبر مواد تلائم الدين والمذاهب، المسيحية منها والمسلمة... قوانين سنّت في حقبات تاريخية غابرة.
قوانين أحوال شخصية تبيح العنف وتطبقها دولة توقع على اتفاقيات دولية مناهضة للعنف ضدّ المرأة، ثم تتحفظ على أي بنود من شأنها ان تزعزع من صلابة القوانين المحلية، أو أن تفتح المحاكم في وجه النساء المعنفات.
ويرتكز العنف القانوني على التمييز الذي تحمله قوانين الأحوال الشخصية في طياتها، منها ما يعود تاريخه الى العهد العثماني، ومنها ما يعترف بنفاد مدة صلاحيته من دون الجرأة على تعديله.
هكذا تبدو الحلول معدومة في وجه ٨٧ في المئة من النساء اللواتي تعانين من العنف الكلامي و٦٨,٣ في المئة منهن اللواتي يتعرّضن للعنف الجسدي. فيلتزمن الصمت، وهنّ على يقين بأن ما سنّ من قوانين منظمة للعلاقات الزوجية تتوج الرجل سلطاناً على البيت، وتجعلهن تخترن بين واحد من شرّين، الأطفال او النفقة مثلاً، اذا قرّرن الطلاق. والا بقين محكومات بالصمت في ظلّ قانون وموروث اجتــماعي يجـرّدهن من أي سلاح.
تلك كانت خلاصة أربع دراسات نشرها التجمّع النسائي الديموقراطي في كتيّبين، سلّطت الضوء على العنف ضدّ النساء وقوانين الأحوال الشخصية وعقوباتها.
الأولى كانت دراسة ميدانية للدكتورة فهمية شرف الدين بعنوان »آلام النساء وأحزانهن: العنف الزوجي في لبنان«، تعرض فيها العنف الزوجي بالأرقام. فيما تناقش الثلاث المتبقية »العنف القانوني ضدّ المرأة في لبنان: قوانين الأحوال الشخصية والعقوبات«.
تمييز فعنف فسكوت
اختارت شرف الدين في بحثها حول العنف الزوجي عيّنة مقصودة تمثلت بثماني وأربعين امرأة من مختلف المحافظات وستين امرأة من محافظة بيروت، تنتمين مناصفة الى الدين المسيحي والمسلم.
وكانت المفاجأة أن الدراسة وجدت أن ٢٧,٣ في المئة من المعنفات هن من ذوات التعليم الجامعي وان ٤,٧ في المئة منهن هن أميات. وهناك نسبة ٤٨,٣ في المئة منهن يعملن و٥١,٧ في المئة عاطلات عن العمل.
هؤلاء النساء لا يفرّقن بين أنواع العنف، فاللواتي يخضعن لعنف كلامي يشكلن ٨٧ في المئة من العينة والجسدي ٦٨,٣ في المئة. فيما تتعرض تسعون في المئة من النساء الى العنف النفسي، أي الاهمال والتهميش والاذلال... و٥٥ في المئة الى العنف الجنسي و٦٥ في المئة الى العنف الاقتصادي المتأتي عن حرمان المرأة من المصروف او منعها من العمل.
تواجه هؤلاء النساء العنف بالسكوت لزمن طويل (٦٢,٧ في المئة) ، لأن المدة الفاصلة بين حدوث العنف وبين الإعلان عنه، بحسب الدراسة، تتراوح بين ثلاثة اشهر وعشرين سنة بسبب موروثات اجتماعية تندرج تحت اطار »العيب« و»الجرصة«.
وهن اذا اشتكين، فأول من يشتكين له هم الأهل (٥١,٣ في المئة) فيما تشتكي ثمان في المئة منهن فقط لدى المخافر.
هكذا تحاول ٨٣ في المئة من النساء تجنب العنف وتحتج عليه ٣٤ في المئة منهن فقط داخل المنزل. وبالنسبة لهن، تندرج اسباب ممارسة الزوج للعنف ضمن ثلاثة أطر: أولها الافكار التقليدية التي تختزل صورة المرأة، وثانيها النشوء ضمن عائلة مفككة، وثالثها الخضوع للعنف خلال سنوات حياته.
الى ذلك، رصدت الدراسة أنه بعد العنف، تتعرض النساء في الغالب الى ثلاثة مواقف: اللامبالاة (٣,٦٤ في المئة)، طلب السماح (٣١,٣ في المئة) وممارسة الجنس (٣٣ في المئة) الذي يتراوح بين ممارسة الحبّ والاغتصاب أو ممارسة الجنس بعد العنف بعنف أكبر.
وتنتج عن العنف حالات من الخوف الدائم لدى ٥١ في المئة من النساء المستجوبات في حين يؤدي الى توتر عصبي لدى ٧٥,٥ في المئة منهن. ١٩,٧ في المئة تشعرن بالذنب و٣٩ في المئة منهن تنطوين على أنفسهن. فيما يكون الأطفال ضحية ٤٤ في المئة منهن حين تشعرن بغضب شديد.
غير أنه، وعلى الرغم من السكوت والانطواء والشعور بالذنب وعدم الشكوى لدى المخافر.... دفع العنف بـ٥٧,٧ في المئة من النساء الى طلب الطلاق الذي غالباً ما يأتي بعد سنين طويلة من تعرّضها للعنف.
وهي تطلبه بسبب ظلم كل من الزوج والمجتمع لها. لكن ٤٢ في المئة منهن لا يتجرّأن على طلب الطلاق خوفاً من التشرّد وحرمانهن من أطفالهن. ليس ذلك فقط، بل تذهب النساء إلى حدّ تحمل المسؤولية في فعل العنف، وهذا ما أكدته ٤٧,٣ في المئة منهن.
امام هذا الواقع تطالب ٩٢ في المئة من النساء بقوانين لحماية المرأة من العنف إذ تجد فيها الرادع الأبرز لرجالهم المعنفين. ٧٨,٧ في المئة مستعدات لتوقيع العرائض لكن ٤٦,٧ منهن فقط مستعدات للاحتجاج علناً. وهن يطالبن (٦١ في المئة) بتحويل الجمعيات النسائية الى قوة ضاغطة.
قوانين »السخرة« أو »سفر برلك«
تتفق الباحثات ماري روز زلزل، وغادة ابراهيم وندى خليفة على أن القوانين اللبنانية على اختلاف مرجعياتها المذهبية والمدنية تفتقر الى آليات تحمي النساء من العنف، »لا بل يشكّل النظام القانوني الطائفي«، بحسب زلزل، »حالة عنف لما يتضمنه من عنف مباشر وتمييز ضدّ المرأة، وأيضاً لما يتضمنه من تبرير لمرتكبي العنف«. كما انها بالنسبة لابراهيم »تنال من حقوق المرأة وتنتقص من كرامتها«.
ولأنها تتحكم بأوضاع العائلة والحياة الزوجية من جوانبها كافة، أي زواجا وطلاقا وحضانة وارثا ونفقة... تجد المرأة نفسها امام تمييز مستمر يشكل أساساً لكل عنف تتعرض له.
تشير زلزل في دراستها حول »معالجة العنف المنزلي والوقاية منه في قوانين الأحوال الشخصية للطوائف المسيحية« أنه بين العامين ١٩٩٠ و،٢٠٠٧ أدخلت تعديلات هامة على عدد من قوانين الاحوال الشخصية لدى الطوائف المسيحية، في خطوة انفتاح على مفهوم الشراكة. الا أن هذه التعديلات لم تكتسب بعد قوة القانون إذ لم يتم تصديقها بعد.
وما خلصت اليه أيضا ابراهيم في دراستها حول »واقع المرأة في التشريعات المعمول بها لدى الطوائف الاسلامية الثلاث« انه، »على الرغم من اعتراف الفقهاء والمنظرين بأن الأحكام المشكو منها إنما أتت في حينها لتنظيم ما كان سائداً وللحد من أضراره«، فإن قوانين الأسرة ما زالت هي نفسها منذ العهد العثماني.
ومن الأمثلة التي تقدمها الباحثة على ذلك، معاملة المرأة كالقاصر او كالناقص الأهلية اذ يشترط القانون موافقة وليها عند عقد زواجها. ولا يمكن التخلص من شرط موافقة الولي الا بادعاء ان الفتاة ليســت بكــراً، الأمـر الذي تراه ابراهيم انتقاصاً من شخصها وعنفاً ممارساً ضدّها.
ولعلّ قمة العنف القانوني الممارس ضدّ المرأة يتجلى في عدم الاعتراف باغتصاب الزوجة أو »النكاح بالإكراه«، على أساس انه واجب عليها يفرضه عقد الزواج.
في المسيحية، تلفت زلزل الى تشكيل العنف سببا للهجر ولكن من دون فسخ الزواج او الطلاق. »في حين ان المحاكم المذهبية لا تشتمل على كل حالات العنف الجسدي لا سيما اغتصاب الزوجة ولا تشمل حالات العنف النفسي والعقلي والاجتماعي. كما العنف من قبل الاولاد او الأقارب المقيمين داخل المنزل«.
كما يتجلى العنف القانوني في قوانين الطلاق، بحيث تنصّ أحكام الشريعة الاسلامية على مبدأ حرية الرجل المطلقة في تطليق زوجته، باستثناء الدروز حيث يتساوى الرجل والمرأة في حق طلب الطلاق. وإذا طلبت المرأة التفريق فعليها الانتظار سنوات وسنوات لتصل إلى مبتغاها.
وبعد الطلاق ينظر في حرفية العقد، فالمرأة المشاركة في ثروة العائلة لا حقوق لها سوى ما حدد من مهر. وقيمة المهر لا تُعدل وفقاً للقيمة الشرائية لها بل حســب المنصوص عنها حرفياً.
وتأتي مسألة حضانة الأطفال لتشكل نقطة الضعف الأبرز التي يتم ابتزاز المرأة ـ الأم على اساسها في الاسلام كما في المسيحية، فهي غالبا ما تجبر على التخلي عن النفقة مقابل حضانة اولادها.
وتشير ابراهيم الى ان »اطفال لبنان يخضعون كل بحسب طائفته الى سن حضانة مختلف. ويسقط حق المرأة بحضانة اولادها اذا تزوجت، وهذا ما يقيد حريتها وتنحصر بالمشاهدة في حين تنتقل الحضانة الى ام الأم اذا كانت موجودة او ام الأب«.
كذلك يمارس العنف قانونياً ضدّ المرأة في معرضين آخرين لدى الطوائف المسلمة، الاول حين تجبر على طاعة زوجها والا اعتبرت ناشزاً (وهي لفظة معنفة)، »فهي تواجه طلباً رسمياً من المحكمة يلزمها باطاعة زوجها والخضوع لرغباته مقابل ايداع معجل المهر وتأمين مسكن شرعي لها. والمســكن لا يفترض ان يراعي مركزها الاجتماعي والثقافي والعائلي«. والثاني بسماح بعض الطوائف للرجل بتعدد الزوجات وهو ما لا يعتبره القانون سبباً لطلب المرأة للطلاق.
بالاضافة إلى القوانين المذهبية التي تعطي امتيازات للرجل لا تقابلها واجبات، توجد أعراف اجتماعية كالتي تحرم المرأة من ارثها على الرغم من حقها به قانوناً.
وبعيداً عن قوانين الأحوال الشخصية التي تنظمها الاديان والطوائف، تبدو الدولة بمنأى عن أي قانون او تعديل يحمي المرأة من العنف الممارس ضدّها. لا بل حين وقّع لبنان على اتفاقية القضاء على جميع أشكال العنف ضدّ المرأة العام ١٩٩٦ التي اقرتها الامم المتحدة، أبدى تحفظه على عدد من المواد التي تتعلق بجنسية المرأة واعطائها إلى اولادها، كما تلك التي تساويها في الحقوق والواجبات في اثناء الزواج وعند فسخه وفي الوصاية على الاولاد. وهذا بذريعة المحافظة على التوازن بين شرائح المجتمع.
وتلفت المحامية ندى خليفة في دراستها حول »العنف ضد المرأة في قانون العقوبات« الى عدم ضمّ القانون اللبناني المدني اي مادة تتعلق بالعنف ضدّ النساء، فهي اذا ما تعرّضت للعنف تحتكم الى المواد ٥٥٤ التي لا تميّز بين الرجل والمرأة.
في حين أن العقوبات على جرائم الاغتصاب ما زالت خفيفة وغير رادعة بحسب الباحثة، مؤكدة وفي معرض آخر، أن عقوبة جرائم الشرف التي تمنح الرجل عذراً مخففاً لا تشكل له رادعا لارتكاب مثل هذا النوع من الجرائم.
وتجد الباحثة ضرورة في تعديل القوانين اللبنانية، خصوصاً ان الفارق الزمني شاسع بين اقرارها وتاريخنا الحاضر.
تعليقات: