الجنسية السورية للمقاتلين الأجانب: حسابات الأمن والتكلفة الاجتماعية (Getty)
تُعد مسألة الجنسية من أكثر القضايا حساسية في الدول الخارجة من الحروب والنزاعات. ومع بدء مرحلة إعادة بناء الدولة السورية، تبرز قضية المقاتلين الأجانب الذين مكثوا في البلاد لفترات طويلة وتزوجوا سوريات وأنجبوا أطفالاً، كأحد أعقد الملفات التي تتشابك فيها الأبعاد القانونية والاجتماعية والأمنية.
الرئيس السوري، أحمد الشرع، طرح مؤخراً فكرة منح الجنسية لهؤلاء المقاتلين بدافع إنساني. حيث يرى أن إعادة ترحيلهم قد يشكل خطراً على حياتهم وحياة أسرهم، في ظل الملاحقات القضائية التي قد يتعرضون لها. لكن هل يمكن اعتبار هذا الطرح خطوة نحو العدالة الانتقالية، أم أنه قرار محفوف بالمخاطر الأمنية والقانونية وقد يفتح الباب أمام تحديات جديدة؟
التجربة البوسنية
تقدم التجربة البوسنية نموذجاً يستحق التأمل، إذ شهدت البلاد تدفقاً للمقاتلين الأجانب خلال الحرب الأهلية، حيث قدموا تحت شعارات الجهاد والدفاع عن المسلمين. بعد انتهاء النزاع، واجهت البوسنة معضلة قانونية تتعلق بوضع هؤلاء المقاتلين الذين تزوجوا وأنجبوا أطفالاً على أراضيها.
في البداية، منحت السلطات الجنسية للبعض بناءً على ظروف استثنائية، لكن سرعان ما تراجعت عن هذه الخطوة بعد تصاعد الضغوط الدولية واتهامات بتسهيل بقاء "الجهاديين".
وفي عام 2007، أطلقت البوسنة حملة واسعة لسحب الجنسية ممن حصلوا عليها بطرق غير قانونية، ما أدى إلى معارك قانونية معقدة استمرت سنوات. وخلال تلك الفترة، برزت انتقادات دولية تتهم الحكومة البوسنية بالتراخي في مكافحة الإرهاب وتسهيل بقاء أفراد يشكلون تهديداً للأمن الإقليمي. وفي نهاية المطاف، تحولت هذه القضية إلى أزمة قانونية وإنسانية تداخلت فيها أبعاد الأمن والسيادة والحقوق الإنسانية.
تؤكد تلك التجربة على أن قرارات منح الجنسية في سياقات ما بعد الحرب لا يجب أن تكون وليدة الضغوط الآنية، بل يجب أن تُبنى على أسس قانونية متينة لتجنب تحوّلها إلى قنبلة موقوتة تهدد الأمن والاستقرار.
شروط صارمة
في السياق السوري، تثير مسألة المقاتلين الأجانب تساؤلات حول الإطار القانوني الذي ينظم منح الجنسية. فمعظم هؤلاء دخلوا البلاد بطرق غير قانونية وانخرطوا في فصائل مسلحة مصنفة على قوائم الإرهاب. فهل من المعقول أن يُمنحوا الجنسية دون مراعاة المخاطر الأمنية والاجتماعية في البلاد التي تشهد انقسامات حادة في هذا السياق؟ لا سيما أن الجنسية ليست مجرد وثيقة تمنح حق الإقامة والعمل، بل هي عقد اجتماعي يتضمن حقوقاً وواجبات. لذلك، إذا قررت الدولة السورية المضي قدماً في هذا الاتجاه، ينبغي وضع شروط صارمة تشمل إثبات حسن السيرة والسلوك، والخلو من السجلات الإجرامية، والالتزام بالقوانين، وإثبات الرغبة في الاندماج وتفهم التنوع والتعدد في المجتمع السوري.
لكن إذا كان المقاتلون الأجانب الذين تزوجوا سوريات يستحقون الجنسية، فلماذا لا يمتد هذا الحق لشرائح أخرى مهمشة منذ عقود، مثل الفلسطينيين السوريين الذين ولدوا وتربوا في البلاد ولا يزالون يُعاملون كأجانب. إن التعامل الانتقائي في هذا الملف لا يعكس ازدواجية في تطبيق القانون فحسب، بل يعزز مناخ الإقصاء والإحباط لدى شرائح مجتمعية عانت من التهميش.
وفي الوقت الذي يتحدث فيه الشرع عن حماية المقاتلين الأجانب من مخاطر الترحيل، يتغافل عن ضرورة حماية المجتمع السوري من المخاطر الأمنية الناتجة عن إدماج أفراد ارتبطوا بجماعات مسلحة في مؤسسات الدولة. هنا تبرز ضرورة وضع ضوابط صارمة للانتساب إلى الوزارات السيادية كالدفاع والداخلية، مع تحديد فترة زمنية بين حصول الفرد على الجنسية وبين الحق في الانضمام لتلك المؤسسات، واشتراط خلو السجل من أي ارتباطات بجماعات مسلحة.
العدالة الانتقالية
أما الملف الأخطر، فهو العدالة الانتقالية. إذا كان الهدف من التجنيس هو تحقيق العدالة وتجنب العنف المستقبلي، فلا بد أن تشمل المحاسبة كل من تورط في إراقة دماء السوريين، سواء كان أجنبياً أو سورياً، تابعاً للنظام أو للمعارضة.
كما لا يجوز أن يتحول الخطاب إلى استهداف المقاتلين الأجانب حصرياً، بل يجب التعامل مع ملف الجرائم بمعايير قانونية شاملة، تنظر إلى الجريمة كجريمة، بغض النظر عن جنسية الفاعل أو انتمائه.
في النهاية، إن منح الجنسية السورية للمقاتلين الأجانب ليس قراراً بسيطاً يمكن اتخاذه بدافع الرحمة أو تحت ضغط الظروف الآنية، بل هو قرار سيادي يتطلب مراجعة شاملة لمنظومة القوانين المتعلقة بالجنسية والإقامة، مع مراعاة مصلحة المجتمع السوري أولاً، دون إغفال الحقوق الإنسانية للمقيمين.
المطلوب ليس مجرد سن قوانين جديدة، بل بناء عقد اجتماعي جديد يقوم على قواعد العدالة والمساواة، ويضع أسساً قانونية واضحة للتجنيس، ويضمن في الوقت ذاته حماية المجتمع من الانزلاق نحو الفوضى الأمنية والاجتماعية.
تعليقات: