السيد في صورة من الأرشيف
يلاحظ أحد المتابعين عن كثب، لملفّ جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، أنّه كلّما حان موعد صدور تقرير جديد عن لجنة التحقيق الدولية المستقلة، تنظّم حملة إعلامية وبشكل مدروس ومتناسق، لإلقاء كمّيات من التكهّنات والتخيّلات والتحليلات عن مسار التحقيق ومجرياته ومفاعيله، وتسبغ عليها صفة المعلومات والأخبار المؤكّدة، وتلصق مصدرها بلجنة التحقيق الدولية التي تتلقّف كلّ ما يقال هنا وهناك وتدرسه وتناقشه وتبدي انزعاجها منه، وتتصدّى لمحاولات التكرار والنسج المتواصل على نفس المنوال، وتوصل رسالة الاحتجاج إلى المعنيين، ولا تلتزم الصمت إزاءه، على ما فيه من حرج، ولكنّها لا تدخل في دوّامة الردود والتوضيح المباشر، لأنّها تعتقد بأنّ الغاية من هذه المساعي البائسة، هي إخراج اللجنة والتحقيق عن غاياتهما بكشف قتلة الحريري، والدخول في جدال يسيء إلى العمل الجنائي القائم ولا ينفعه على الإطلاق.
ويقول هذا المصدر المعني بالتحقيق أكثر من سواه ممن يقودون حملات التشويش على التحقيق قبل صدور تقرير اللجنة الدولية في الثاني من كانون الأوّل ٢٠٠٨ على أبعد تقدير، بأنّ ما جرى نشره من أخبار بداعي أنّها مستقاة من فحوى التحقيق، ليس إلاّ استباقاً للتحقيق واحتواء له، فيما يرى مصدر آخر أنّها تأتي في سياق الضغط لإبقاء الضبّاط الأربعة قيد الاعتقال التعسّفي وتوليد المزيد من الحجج والذرائع غير القانونية، وتقديمها للجنة التحقيق إذا ما كرّرت تأكيداتها الواردة ضمن جملة كتب أرسلتها في مرحلة سابقة وعلى دفعات، لوكلاء الضبّاط ووقّعها رئيسها القاضي الكندي دانيال بيلمار، وقبله سلفه القاضي البلجيكي سيرج برامرتز، بأنّ القضاء اللبناني هو المسؤول الأوّل والأخير عن مسألة التوقيف والإفراج، وبيده الحلّ والربط، وبأنّه لا علاقة لهؤلاء بهذه الجريمة.
الادعاء على ميليس
وينطلق هذا المصدر في تشريح الحملة الإعلامية، بأنّ اللواء الركن جميل السيّد قدّم أمام القضاء الفرنسي ثلاث دعاوى ضدّ كلّ من رئيس لجنة التحقيق الدولية القاضي الألماني ديتليف ميليس ومعاونه الشرطي غيرهارد ليمان وكلّ من اشترك بتركيب الشهود وتضليل التحقيق، باعتبار أنّ ميليس هو المسؤول عن التوصية المخالفة للقانون والتي ألزمت القضاء اللبناني بتوقيف الضبّاط الأربعة، بعدما استند في تحقيقاته على شهود بينهم محمّد زهير الصدّيّق وهسام هسام، سقطت شهاداتهم رويداً رويداً مع تكشّف المزيد من الحقائق خلال التحقيق، وأبرزها ما يتعلّق بشاحنة »الميتسوبيشي« وشقّتي خلدة ومعوّض.
والغريب أنّ القضاء اللبناني نفسه ممثّلاً بالنائب العام التمييزي القاضي سعيد ميرزا والمحقّق العدلي الثاني إلياس عيد، وطبعاً المحقّق الثالث صقر صقر، لم يستمع إلى الصدّيّق ولم ير وجهه وصورته إلاّ في وسائل الإعلام، واستند إلى رواياته ذات الرؤوس والينابيع المتعدّدة لتوقيف الضبّاط.
إظهار مرعي
وفجأةً، ومن دون سابق تصوّر أو إنذار، أخرج إلى العلن المسؤول في تنظيم »فتح الإسلام« ورجل الاستخبارات الدانمركية، والمخبر لدى غير جهة استخباراتية عربية وغربية أحمد سليمان مرعي (والدته وردة مواليد عام ١٩٨١ رقم السجل ٥ وادي خالد) ودُفع به إلى التحقيق، وتمّ تسريب معلومات عن ضرورة إجراء مواجهة بينه وبين اللواء السيّد، بحجّة أنّ للقضاء اللبناني تحقيقاً مستقلاً عن لجنة التحقيق الدولية، كما قيل، علماً أنّ هذه اللجنة استمعت إلى مرعي في شهر أيلول عام ،٢٠٠٨ ولم تدع اللواء السيّد لمواجهته ولو كان لديها شيء يستوجب حدوث مثل هذه المواجهة بينهما لفعلت من دون أدنى تردّد، ومن دون انتظار إرشادات ونصائح أحد، على حدّ تعبير المصدر نفسه.
وأكثر ممّا تقدّم، فقد جرى توقيف مرعي بتاريخ ٢٩ أيّار عام ،٢٠٠٧ في فندق» بارك تاور« في محلّة الأشرفية حيث كان نزيل الغرفة الرقم ،٣٠٧ وعثر معه على ثمانية مستندات مزوّرة اعترف بالحصول عليها ممن أسماه »أمير التزوير« في مخيّم نهر البارد، وأقصر شخص في »فتح الإسلام« الفلسطيني أبو خالد، ومن دون أيّ مقابل مادي، كون الأخير يعمل لمصلحة تنظيم »فتح الإسلام« وهو ينشط في هذا المجال مع كلّ من طلحة، و»أبو الأفغان«، و»أبو ريتاج«، ومجموعة نبيل رحيّم وغيرهم من تنظيم» القاعدة«، فلماذا تأخّر القضاء اللبناني في إجراء مواجهة بين مرعي والسيّد إذا كانت لديه معلومات ما، تستوجب الإضاءة عليها وتنير التحقيق، مع الإشارة إلى أنّ نقل ملفّات مرعي من المحاكم ودوائر التحقيق في طرابلس إلى قصر عدل بيروت بذريعة الأسباب الأمنية، تمّ بإيعاز من القاضي ميرزا نفسه، وبناء لقرار صادر عن محكمة التمييز الجزائية برئاسة القاضي رالف رياشي.
كما أنّ للتحقيق بجريمة اغتيال الحريري الأولوية المطلقة على سائر الملفّات والدعاوى المتهم بها مرعي وبعضها مرتبط بجرائم النصب والاحتيال، فلماذا انتظر القضاء اللبناني كلّ هذه الفترة الزمنية الطويلة والتي تمتد سبعة عشر شهراً لكي يبالي بما لدى مرعي من كلام؟ وهل هذا التأخير المقصود هو من ضمن خطّة الإبقاء على الضبّاط قيد التوقيف والتذرّع به عند مفاتحة لجنة التحقيق من جديد للقضاء اللبناني بمسألة التوقيف؟ يسأل المصدر نفسه.
تكبيل اليديـن مخالف
لحقوق الإنسان
وعمد القاضي صقر صقر إلى تعيين جلسة تحقيق لسماع إفادة اللواء الركن جميل السيّد من دون معرفة وكلاء الدفاع عنه المحامين أكرم عازوري ويوسف فنيانوس ومالك السيّد بمضمون هذه الجلسة والغاية منها. وتزامن موعد هذه الجلسة مع قدوم طبيب السيّد من الولايات المتحدة الأميركية خصيصاً للإشراف على إجراء فحوصات طبّية روتينية (منظار) في المستشفى وليس في السجن.
وكان مقرّراً أن يخضع السيّد لهذه الفحوصات قبل تعيين جلسة المواجهة بإدارة صقر، غير أنّ اللواء السيّد تفاجأ بأنّ الفرقة المولجة بنقله إلى المستشفى والتابعة لفرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي تريد تكبيل يديه على غير العادة، وكإجراء يمارس للمرّة الأولى منذ توقيفه في ٣٠ آب عام ،٢٠٠٥ وهو ما لم يحصل معه البتّة، سواء عند نقله إلى قصر عدل بيروت، أو إلى مقرّ إقامة لجنة التحقيق الدولية في »المونتفردي«، فرفض الخضوع لهذا الأمر المفروض، وظلّ متشبّثاً بموقفه، من دون أن يتحرّك القضاء لحلّ هذا التدبير الذي تختلف آراء قضاة لبنان أنفسهم بشأن جوازه أو استبعاده، وهو مثار نقاش مزمن بينهم من دون العثور على العلاج المناسب له، وكم من قاض صرخ بوجه العناصر الأمنية وهي تكبّل يدي سجين أحضر إلى محكمته أو دائرته طالباً منها عدم تكرار هذا الفعل المخالف لأبسط حقوق الإنسان.
وكانت مهمّة إحضار السيّد وليس السَوْق كما يستخدم هذا التعبير خطأ لأنّه خاص بالحيوانات، بينما الأفضل استبداله بكلمة إحضار عند الحديث عن إنسان كما يقول غير قاض جزائي، محصورة بفرقة »الفهود« التابعة للقوى السيّارة في قوى الأمن الداخلي، وفجأة انتقلت المسؤولية إلى »فرع المعلومات« الذي يراد إعطاؤه دوراً أكبر من حجمه واختصاصه وبما يخالف مرسوم إنشائه الرقم ٣٩٠٤ الصادر في ٦ آب عام .١٩٩٣
وبقي الطبيب ينتظر ثلاثة أيّام لحلّ هذه المعضلة وحجزت الغرفة اللازمة في المستشفى، ولكن من دون الوصول إلى نتيجة حاسمة بإبقاء اليدين حرّتين وغير مقيّدتين، وطار معها موعد جلسة التحقيق.
وبعد خمسة أيّام، أيّ يوم الثلاثاء الواقع فيه ٢١ تشرين الأوّل ،٢٠٠٨ تحدّد موعد آخر لمواجهة مرعي والسيّد، وصعدت الفرقة الأمنية نفسها لإتمام عملية الإحضار، وقدّم المحامي عازوري معذرة فسّرت على أنّها تهرّب من هذه المواجهة، فما كان من السيّد إلاّ أن أصدر بياناً أكّد فيه استعداده لمواجهة مرعي ومن أنتجه وصنعه بشرط عدم تكبيله، وذكّر القاضي صقر بما خوّله إيّاه القانون من حقّ الانتقال إلى السجن لإجراء التحقيق خصوصاً أنّ مرعي موجود هو الآخر في سجن رومية المركزي أيضاً، »وهناك أسبقيات عديدة عن هذه الحالة للقضاء برمّته، ويمكن الرجوع إليها للاستفادة منها«.
وصادف أن عقد في اليوم نفسه، اجتماع بين القاضي بيلمار والقاضي ميرزا في مكتب الأخير في الطابق الرابع من قصر عدل بيروت، من دون حضور القاضي صقر، ليتوّج هذا اليوم بما ورد في سياق نشرة أخبار تلفزيون »الجديد« من معلومات عن توجّه لإخلاء سبيل أحد الضبّاط، وكان المقصود به اللواء الركن السيّد.
أسئلة بلا أجوبة
وتسأل مصادر وكلاء الضبّاط الأربعة لماذا كلّما كان بيلمار بصدد إعطاء موقف معيّن تبدأ التسريبات، ويفرج عن شاهد جديد يحمل، هذه المرّة، اسم أحمد مرعي؟، ولماذا التركيز على اللواء السيّد دون سواه من الضبّاط الآخرين الذين تمّ نسيانهم؟ وهل للأمر علاقة بما أثبتته الكتب المرسلة من لجنة التحقيق الدولية من أنّه لا علاقة للسيّد بالجريمة وهذا ما صار معروفاً لدى القضاء اللبناني الذي فقد كلّ الحجج المقنعة لإبقاء السيّد قيد الاعتقال الذي وصفته المفوّضية العليا لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة بالتعسّفي، وصار يبحث عن حجج إضافية بذريعة التحقيق ولكن من دون جدوى؟، ولماذا يستبعد القاضي صقر من الاجتماعات الحسّاسة بين بيلمار وميرزا ويستدعى فقط عندما يحضر المحقّقون العدليون في الجرائم الكثيرة الأخرى والتي طلب من لجنة التحقيق الدولية تقديم المساعدة فيها؟ ولماذا لا يتمّ إحضار مرعي إلى جلسات المحاكمة أمام محكمة الجنايات في بيروت حيث يحاكم في غير دعوى، ويتسبّب بتعطيل مسار العدالة ولا يوجد من يعترض على هذه المعاملة غير اللائقة لهيئة محكمة الجنايات المؤلّفة من القضاة هيلانة اسكندر وحارس إلياس وغادة أبو كرّوم؟.
أين طه؟
وتذكّر هذه المصادر بضرورة العثور على خالد طه الذي ذاع صيته ضمن »مجموعة الـ١٣« المرتبطة بتنظيم» القاعدة« وتوقيفه، لأنّه يعرف ملّياً تاريخ أحمد أبو عدس منذ اللحظة الأولى لاختفائه بصورة غامضة إلى حين ظهوره التلفزيوني في شريط فيديو معلناً عن مسؤوليته عن جريمة الاغتيال.
وتسأل هذه المصادر لماذا الإصرار على إحضار أحمد مرعي والتغاضي عن البحث عن طه وملاحقته؟ ولماذا لم يطلب من الفصائل الفلسطينية المتعاونة مع الأجهزة الأمنية اللبنانية في مسعى توقيف عبد الرحمن عوض الذي يحمل أسماء مستعارة كثيرة للتمويه، المساعدة في توقيف طه الذي قيل في السابق بأنّه هرب عند توقيف مجموعته إلى مخيّم عين الحلوة؟ ولماذا لم يرد اسم طه ضمن لائحة المطلوبين المتوارين داخل المخيّم المذكور، أليس طه أهمّ من عوض بالنسبة إلى قوى ١٤ آذار؟ ولماذا لا يقوم القضاء اللبناني باستجواب أفراد مجموعة طه وحسن نبعة المختصرة باسم»الـ١٣« بجريمة اغتيال الحريري، على غرار ما فعلت لجنة التحقيق الدولية المستقلة؟ وهل أصبح الهدف من التحقيق باغتيال الحريري معرفة القاتل ومحاكمته، أم استعمال قضيّته لتحقيق مكاسب سياسية وانتخابية؟.
وتبقى بوّابة التساؤلات مشرّعة، بانتظار تقرير لجنة التحقيق الدولية المستقلّة وما يحمله من مضمون يؤمل أن يكون جديداً ونافعاً في سبيل كشف الجناة الحقيقيين لمحاكمتهم في المحكمة الدولية الخاصة للبنان ووضع حدّ للإفلات من العقاب.
تعليقات: