إنها أرض الحب والدم والبارود مكلومة ويتيمة في عيدها الذي أرادته للأحرار جميعاً منذ نصف قرن من الزمان، حين حرّر أبناؤها أول أرض عربية محتلّة وردّوا النار بالنار: قبضة كربلائية مقابل «القبضة الحديدية»، ودموع العذراء في كنيسة دير ميماس تواسي أم الشهيد الحزينة تغسّل ابنها وتكفّنه عند النهر.
اجتمع اللئام على نحر تلك الأرض الجنوبية ثانيةً وثالثةً كي يبصم لحمها المحروق للطائرة بحُسن صنيعها: ثمة من يريد أن يربي شعباً ببيوته المهدومة، وأولاده القتلى المذبوحين كل يوم بأحدث ما تنتجه التكنولوجيا والمسيّرات والذكاء الاصطناعي. لكنّ هذا الوحش الكاسر بآلته الكاسحة والكاسرة لا يعرف ذلك الدفء في الحكايات، وقاموس الأصالة في حكايات أولاد الأرض بلهجتهم العاملية الترابية المحبّبة، ولا قوة الأم التي تحمل جثة ابنها وتصعد بها جبلاً بأكمله. حكايتان من أهل الأرض نسردهما في عيد المقاومة والتحرير، لئلا ننسى أين تكمن القوة في عميق أرواحنا، طيبة الإنسان الجنوبي في الحكاية الأولى وسياحته في الجغرافيا والحب والتراث وأرضه التي يعرفها كما كفّ يده، فتنبسط حرةً جميلة من أعالي الريحان حتى سهل الحولة في فلسطين، وعزم المرأة الجنوبية في الحكاية الثانية التي تنجب زعتراً ومقاتلين، وتُعيد كل الأشياء إلى مكانها: الجبل إلى بهائه والغيم إلى سمائه والماء إلى نهره، والمحتلّ لا بد يوماً إلى زواله
1- حين ضاع «جحش يوسف»
(عاش حسن يحيى ن. مئة عام إلا قليلاً، ولم يمت قبل أن يروي الحكاية)
حين عدنا في 25 أيار وبانت من بعيد بيوت سجد المهدّمة، ومشت البوسطة الصغيرة الهوينا فوق الطريق الترابية، أخذتني غفوة صغيرة: رأيتني في المنام أدخل القرية على «جحش يوسف»، ظافراً عالي الجبين، وجحش يوسف يومها حين أطل من «كوع النجاصة» نثرت عليه النساء الأرزّ كما لو كان فرس عنترة.
انتظر يوسف في ذلك النهار من عام 1934 أن «تطفّ (تنتشر)» البرودة ليخرج بالجحش ذي العين الواحدة («على فرد كريمة») إلى حقله عند «راس المريّح» عند مدخل سجد الشمالي: لا شيء يوحي بحدث استثنائي في نهار كغيره من تموز: عليا عادت من الحصيدة ونامت قبل أن تكمل «عدة» خبز المرقوق التي كانت تكفي لإطعام جبل عامل بأسره، هو قبل المغيب يربط الجحش في قبو أبي فيصل، يصلي، ويقرأ قليلاً في كتاب الله ثم يأكل وينام.
سمع يوسف «طحشة» قرب الباب: قيل الكثير إن يوسف كانت تزوره الجنية الصالحة، لكن هذه المرة كانا اثنين من «النوَر» ممّن اعتادت القرية على زياراتهما. سألاه عن طريق البيادر: دلّهما على الطريق وحين صافحهما مودعاً، انتبه إلى إصبع مبتورة في يد أحدهما.
عند أول الصبح، علت الصيحة في سجد: «ضاع جحش يوسف»! وجد هذا الأخير الرسن مفكوكاً، وكانت الدواب الضائعة يُقتفى أثرها في مكانين لا ثالث لهما: إما على البيدر حيث بقايا الحصاد، أو على البركة حيث يشرب الجحش مع الحجلة.
علِمَ يوسف علْمَ اليقين أن النوري المبتور الإصبع قد افتك الجحش من الرسن حين ودّعه في الليلة الماضية، ومثل يوسف لا ينام على ضيم. أرسل يوسف فرقة مشكّلة من داوود، وأحمد الحاج، ومحمد ابراهيم إلى بيادر الريحان: كانت ثلة من النوَر ترابط هناك وتلعب بالدف الذي يمتلئ بالنقود حين يجعل أحدهم الحمار ينهق للنغم وترقص نساؤهن حول النار. لم تجد الفرقة الأولى للجحش أثراً عند عين الكبيرة، فسجّلت محضراً بالسرقة في المخفر القائم في بيت السيد عبد الله وعادت إلى سجد بخفّي حنين.
نزلت الفرقة الثانية المكونة من حيدر، أكبرنا، وعلي أحمد، وأنا (حسن يحيى) زحلقة على الصخور والسنديان بأوامر من يوسف حتى سهل الميذنة. كانت المهمة واضحة وضوح الشمس: السؤال عن «نوري» بإصبع مبتور وجحش «على فرد كريمة».
أحالتنا فرقة من «النور» الجالسين في السهل إلى دير عجلون في أطراف كفرّمان. كررنا السؤال ذاته لننتقل من دير عجلون إلى بيادر كفرّمان. حين لم نعثر على ضالتنا، اقترح حيدر أن نتقدم إلى «قطعة النبطية»، حيث يُقام سوق الإثنين اليوم. أحالتنا فرقة أخرى إلى سهل زبدين، وعند البيارات الصغيرة التي تنز في قلب الأقبية الصغيرة حيث يقوم مثلث حاروف اليوم، غنّت النورية: «حومين التحتا وحومين الفوقا/ عرفنا مين بدّك حاجي مجلوقا/ والله لاربطلك درب الزاقوقا/ يحمر والحمرا ودرب أرنونا».
كان حيث توقعته تماماً، مدكيّاً على بارودته، وقد أصابته شظية عند قلبه
أقسمت النورية المكحّلة العينين أنها رأت الجحش الأعور والنوري المبتور الإصبع مع صاحبه يرحلان نحو مزرعة الحمرا قرب أرنون.
من تلة قريبة، كان يمكن رصد الحمرا بكنيستها وبيوتها المعدودة. لم يبد أثر لكائن حي في تلك الساعة من الظهيرة، فاقترح حيدر أن ننزل نحو جسر الخردلي. باغتتنا هناك مجموعة من الجيش الفرنسي تشيد جسراً على تخوم مزرعة تمرا: خشينا أن يظن الفرنسيون أننا من بقايا مجموعة أدهم خنجر وصادق حمزة وأن يرمونا بالرصاص من فرق الجسر: ركضنا بسرعة على طريق القليعة ــ كفركلا لنلتقي ببوكسات (مربعات كبيرة) من الحجارة وضعها الجيش الإنكليزي على بُعد خطوتين من فلسطين لصدّ هجوم محتمل، وعثرنا قربها على بقايا سجائر بأعقاب من قطن: أخرج حيدر قداحة الصوان وصرنا نمجّ بقية من سيجارة ونضع الباقي في جيوب قمصاننا. عثرتُ على جوارب عسكرية لا تزال بالنيلون تحت أحد الأحجار الذي لا يزال قائماً حتى اليوم، دسسته في كلسون العصب حتى لا نختلف عليه أنا ورفيقيّ.
حين وصلنا إلى تل النحاس، كان علينا أن نأخذ قراراً: إما التوجه يميناً إلى المطلة فسهل الحولة في فلسطين، أو يساراً نحو الوزاني. كان حيدر يعرف الخواجة اليهودي (لطيّ)، مختار قرية الرفيد القريبة، إذ إنّ أباه مدفون في مزار النبي سجد في أعلى قريتنا الذي كان يزوره اليهود كل عام للصلاة والبرَكة.
بلغ الجوع منا مبلغه، إذ كنا «على الريق» منذ أعطانا يوسف الأمر الصارم باسترداد فرس أبي زيد الهلالي المسروق. لم نجد الخواجة لطيّ في بيته وخاب أملنا بغداء شهي، لكننا رأينا أمراً حيّر ألبابنا: مجموعة من البنات اليهوديات بالكلاسين (الشورتات) يلعبن بالطابة من حول «شقفة منخل» على تخوم قرية مبنية بشكل نظامي غريب. بان سهل الحولة من تحتنا بمستنقعاته، وقصبه الغزار، والجواميس والخنازير البرية التي تركض أسراباً في السهل.
«سنصل إلى مكة المكرمة يا حيدر قبل أن نعثر على جحش يوسف»، قال علي أحمد الذي تركنا عائداً أدراجه، فما لبثنا أن لحقناه. وعند أول سهل سردا، طالعنا حقل من «المقتى»، وبائع يبسط بضاعته على الكروسة الرملية: أخرج حيدر ربع ليرة سورية من جيب قميصه، فوضع لنا البائع «عكشة» من المقتايات الغلاظ في كوفية حيدر: جلسنا لنأكلها عند سهل مرجعيون، فوجدنا الدود ينغل فيها نغلاً.
صرنا ننفضها ضرباً على الصخور، نخلصّها من دودها ونأكل. عند أول دبين، طالعنا حقل مزروع بالملفوف تبدو الملفوفة فيه أجمل من رمان الجنة: أخرج علي أحمد سكينته «حَمَام» ليسحب ملفوفة من جذورها بالسكينة التي يقول إنّ أباه الذي خدم بالسخرة مع الأتراك قد أحضرها من حضرموت، فصرخ بنا الناطور: «مين في بالرزقات؟».
ردّ علي أحمد «حَمَام» إلى عشها وأخرج حيدر المزمار ونفخ فيه، فمرّت غزوة الملفوفة بسلام. اقترحت على الرفاق أن نبيت عند كامل رمضان في بلاط، اشتقت إلى ابنته «خزنة»، خطيبتي، التي ما كنت أراها إلا حين نعبر النهر نحو بلاط لنعمل شهرين في شك الدخان مقابل مدّ من القمح. كانت الدنيا قد أغربت حين وصلنا إلى سطيحة كامل، و«خزنة» لم تصل بعد.
كانت عادة أهل دبين أن تعمل نساؤهم بالحصاد وينشغل رجالهم بـ«حش البلان» الذي توقد منه الأفران قرب سراي مرجعيون. وصلَت بثوبها الذي يحمل خلاخيل على أطرافه والديمرج (منجل كبير) على ظهرها.
غضّت بصرها حياءً، فقال لها أبوها: «خطيبك هون». خفّت الفتاة إلى الداخل وحضّرت لنا العشاء: لبنية ذرة وبشلة (حبوب تشبه البامية). أحضرت عدّتين من الخبز (40 رغيفاً): بالكاد أنهى حيدر رغيفه، وأما أنا فاستعضت بالحب عن رغبتي بالطعام وأجهز علي أحمد على عشرين رغيفاً بأكملها، وبدأ يتلوى ألماً من معدته عند اللقمة الأخيرة. أمرني كامل رمضان أن أنزل مباشرة إلى «الحقلة» لأحضر «جوزتين فشك» شديدة وجافة، غلتها خزنة في قدر كبير ونام علي أحمد من الشربة من دون أن يحرك ساكناً حتى الفجر.
عزف حيدر بالمجوز على السطيحة وكان القمر يسهر بين «خزنة» وبيني. عند الصباح شددنا رحالنا للعودة، وصلنا إلى الليطاني في أسفل الوادي وكان عرب الحولة قد سبقونا بأبقارهم لتشرب وترعى عند المطاحن. ظهر رجُلٌ مفتول الشاربين عند صخرة الخطوة التي كنّا نعبر فيها من ضفة إلى أخرى، تذكرت محمد يحيى ابن عمي الذي كان يعبر من هنا ليزور «درويشة»، حبيبته في بلاط، فغنينا له على البيدر: «بمحمد يحيى نحنا موصايين/ نعطيه درويشة هالأشبهية».
الرجل الذي ظهر لنا من قصب الغزار عرفته حين أزاح الكوفية عن وجهه: كايد أسعد، الذي يعرف النهر كما يعرف خطوط يده. نزلت معه في الماء لنصطاد السمك، أمر حيدر أن يوقد ناراً لدزينة «الحنكليس» الذي كان يفرفر بين يدي في ذلك الدوار على كعب حرش المحمودية. أكلنا ستّ سمكات ونظرت إلى كايد الذي كان يحبس جملة في فمه.
شكّ لنا السمكات الست الباقية في قصبة غزارة، وأوصانا أن نهديها للحاج نجيب في سجد. «ستعطشون في طريق العودة، لم أحب أن أنغّص عليكم وليمة الحنكليس»، قال كايد وهو يلوّح لنا بيده مودعاً.
صعدنا في الحرش بين المحمودية والدمشقية، فجفّت حلوقنا من العطش. نحينا الماعز عن نقعة اختلط فيها الوحل ببقية من ماء المطر عند أول الزغرين، وأخذتنا القيلولة حتى المساء. وصلنا بعد المغيب إلى بيدر سجد ودبكنا على ضوء القمر.
بعد بضع سنين، دب خلاف بين «النوَر»، فتوجه أحدهم إلى مخفر النبطية ليفشي السر: الجحش المسروق موجود في الغندورية. كنا في سوق الإثنين أنا ويوسف، فعلمنا بالخبر في «سوق الطراشة». أخذنا مباشرة طريق وادي الحجير وعند آخر فرون، صرخ يوسف بملء رئتيه فردّ الجحش بلحنٍ من أعلى التلة.
استردينا الجحش وجلست على ظهره خلف يوسف، دخلنا سجد بالزغاريد ورفعت بيدي شارة النصر. حين أفقت من غفوتي في الحافلة في 25 أيار من عام 2000، كنت قد شارفت على التسعين، وكانت الحياة بأسرها هي ذلك الذهاب والإياب: بين خروجنا من بيوتنا المهدومة حين طردنا اللحديون منها في تموز من عام 1985 وعودتنا يوم عيدنا المؤزّر ننصب الخيَم فوق أطلالها، بين ضياع جحش يوسف وعودته، و«خزنة» التي ماتت منذ زمن بعيد رأيتها عند «مرج الخوخة»، قامت من قبرها ترش الأرزّ على جبل عامل الذي يدبك صفّاً واحداً بشجره وينابيعه وطيوره ويغني للعيد.
2- أتَت به قومها تحملُه
كانت القرية كلما نظرت إليها مريم من بعيد، تبدو أقرب إلى صومعة حجرية معلّقة في الريح. صومعة اسودت جدرانها من الريح النازلة مثل السوط من سماء الله إلى الليطاني الذي يسيل في الأسفل.
ويكفي للمرء أن يصعد قليلاً في «الشير» الصخري عند أطرافها لتختلط عليه حمحمة الخيل وصليل حوافرها القادم من أعماق التاريخ بأغاني الرعيان تردد أشجان الحب: «خمّنتك نجمة بسهلة الله، تارينك غيمة بعتم كانونا».
خلف القلعة بيوت طوبية قليلة تحيط بالمئذنة الخضراء، والساحة التي يدبك الناس في أفراحهم «ديك وفرخة» و«يسهمدونها» بالماء المنساب من أباريق الفخار لئلا يلطّخ الغبار ثيابهم النظيفة وخاصة حين يفلت «دبّيك الحاشي» ويحرث الأرض حرثاً ليحظى بأغنية من حبيبته المخطوبة: «قطَر عالحاشي وقطرني حدّو/ بدي غنيلو متل ما بدّو/ المحبس بأيدي الله لا يردّو/ كله يرخصلك يا نور عيونا».
كان الفضاء مرتباً لمريم كي تولد وتكبر في واحد من بيوت الفقراء تلك، لكنّ شيئاً غريباً كان يطفو في الهواء كلما تناقلت سيرتها الشفاه، مثل صوت قرع ناقوس كنيسة دير ميماس المجاورة، الذي يحمله الندى كأنه دموع العذراء.
كانت فقيرة مثل أترابها، لم تدخل المدرسة أو تفكّ الحَرف، لكن أقاربها الذين سيفكون مناديلها عن حبل الغسيل بعد موتها، يعرفون أن سرّها كان في البياض الناصع في حياتها كلّها: وحدها مناديل مريم حين «تنقعها» في النهر وتحملها في «اللكن» من الوادي في رحلة التعب و«العزارة» كانت تصل القرية نقية من الغبار والتراب، ومن أوراق الشجر والشوك التي كانت تجعل من رحلة الغسيل أشبه بشقاء سيزيف مع صخرته.
كانت مريم تجوب القرية مع قطيع من الماعز الأبيض، وتمسح بمنديلها الأبيض على رؤوس المرضى والمكلومين، فيبرؤون من لمستها كأنها لمسة المسيح لإليعازر: كان على المسيح أن يحب اليعازر كي يحييه، وكان على مريم أن تحبّهم كي تشفيهم.
كان ينظرون إليها بنوع من الرهبة، مثل ثمرة فوق شجرة عالية لا تطالها يد ولا يقربها رجل حتى أتى أمين. أنهى أمين خدمته العسكرية في صيدا وتوجه نحو إسطبل الخيل في سهل المئذنة مصطحباً جوقة من الخيالة نحو بيت مريم في القرية لتقف الفرس البيضاء على حافريها ويختلط صوت جلجلها مع حداء الفرسان: «يا شمس يلي بالسما/ من طلتك تحيي النفوس/لا تشرقي فوق الحما/ عالارض في عنّا عروس».
خرجت مريم من باب الدار ووضعت يدها في يده تحت المنديل الذي حمله إمام القرية السيد جعفر. قرأ السيد جعفر فاتحة العروسين وزفتهما القرية تحت زنار من النرجس والأرزّ والرصاص الذي لعلع من مئات البواريد في سماء القرية المرصّعة بالنجوم.
لن تذكر مريم من ذلك الزواج إلا قطيع الماعز الأبيض الذي نحره أخوها لإكرام الضيوف، ورسالة تركها أمين بعد شهر واحد تحت وسادتها: «أنا ذاهب إلى البرازيل يا مريم، ما بقا قادر عيش بالعزارة. رح يصير معي مصاري وعيشك أحلى عيشة».
صار أهل القرية يمرّون قرب مصطبة مريم، ويعرفون أنّ لا رسالة ستعبر البحار إليها، إذ أخبرهم أحد العائدين أن أمين اختطفه رجال قبيلة في الأمازون وهو يعبر النهر في أحد الأصقاع النائية وشدّوا وثاقه إلى شجرة، لكن أمين البارع الحيلة مع النساء أغوى ابنة زعيم القبيلة التي فكّت قيده وهربت معه على فرس بيضاء إلى أبعد نقطة في نهاية العالم.
انتفخ بطن مريم بعد مدة قصيرة من غيابه، ليبصر إبراهيم النور بعدما رأت مريم مناماً أفزعها: كان غسيلها الأبيض يتلطّخ بالدم كلما وصلت إلى بيتها من النهر، ثم تطفو ندبة سوداء فوق قلبها لا تشفيها تمتمة سورة القدر على المنديل.
اعتزلت مريم الناس الذين حرموا من بركتها لتتفرغ فقط لإبراهيم، تخاف عليه من نسمة الهواء، ومن «صيبة العين»، حتى إنّها نقلت منشر الغسيل إلى غرفة المونة التي تدخلها الشمس من شباكها الشرقي، ومن المدينة، ومن البحر، ومن الحرب: عبرت به الحروب كلّها وكي لا تطول الحكاية، وصلا معاً إلى ذلك اليوم الخريفي من أيام القبضة الحديدية عام 1984: كان إبراهيم كما يقول الشاعر «طويلاً أطول من خط الأحلام. وجميلاً أجمل من نهدين على صدر الإسلام».
وكانت مريم تحلم بحفيدها الذي ستمسح على رأسه قبل أن تموت. سمعت مريم الرصاص يلعلع عند العصر: فتحت المذياع الصغير لتسمع أن المقاومة سترد على القبضة الحديدية بقبضة حسينية.
عند المساء، أذاع تلفزيون الشرق الأوسط التابع لعملاء لحد صوراً للعملية التي أوجعتهم، واحتفظوا بجثة مقاوم ربطوها إلى ملالة وسحبوها ليمثلوا بها ويرهبوا كلّ من تسول له نفسه بالمقاومة.
خرجت تتسقط الأخبار في ساحة القرية، لعل أحدهم يخبرها أن إبراهيم قد أوثقوه إلى شجرة، أو أنّ جنية في الغابة أخذته إلى مركب في البحر ليوافيَ أباه في البرازيل البعيدة.
عاودها منام الغسيل والدم في تلك الليلة، وحين أفاقت وجدت نفسها عند أول الوادي، حيث تبدو القرية من بعيد كالصومعة. حاول الناس المتأهبون للدخول إلى القرى أن يثنوها عن التوغل في ذلك الحرش الذي كانت الطوافات تطوف من فوقه كالدبابير، لكنها كانت قد اتخذت قرارها الذي لا رجوع فيه: إلى تلك «السبلة» في النهر، حيث كانت تفرد مناديلها من أربعين عاماً، وتفوّحها بالماء والصابون ثم تعطرها بإكليل الجبل وتضعها في اللكن النظيف.
كان حيث توقعته تماماً، مدكيّاً على بارودته، وقد أصابته شظية عند قلبه. كانت تشده إليها وهو مشدود إلى بارودته، وحين رفعته أحسّت كأنها اقتلعت جبل الريحان من مكانه، وأنه كأبيه مربوط إلى كل أشجار الجنوب.
يقول الناس هناك إنّهم لمحوا شبحاً في الظلام يحمل ما اشتبه عليهم وصفه في ليل الجنوب العميق: ظنّ بعضهم أنّه الخضر يحمل المركب المثقوب في السورة، وافترض آخرون أنه فارس مغوار يخرج من القلعة المهيبة كل مساء كنوزها المدفونة ليرميها في النهر، وأكد رجلٌ ضليع بالفراسة أنّه بائع السجاد البرجاوي الذي قتله أهل القرية المجاورة حين بسط سجادة أمامهم سحرت ألبابهم، فطاردوه وقتلوه غيلة ليسرقوها، فما كان منه إلا أن وضع لهم سمّاً يفتك باللحم على أطرافها فماتوا في أثره حين مسدوها بأيديهم.
لكنّ الواقفين أعلى التلة كانوا يرونها تقترب وقد لفّته بكفن أبيض يغطيه بالكامل إلا عند موضع الشظية في القلب. صعدت به الجبل كله وأتت به قومها تحمله: أنزلته من على ظهرها كسجادة البرجاوي وماتت. نظروا إلى مناديلها البيض فوق حبل الغسيل الذي عاد إلى مكانه، وكذا الجبل والسهل والغيم هناك: كلّ عاد إلى مكانه.
تعليقات: