سلامٌ إليك يا خيام

تتعاقب الفصول على الخيام.. على بيوتها، أرضها، حقولها، تلالها، سهولها، مرجها
تتعاقب الفصول على الخيام.. على بيوتها، أرضها، حقولها، تلالها، سهولها، مرجها


بلدتي الجميلة الكبيرة، يا جارة جبل الشيخ وقمره وثلوجه، تلامسك الغيوم ويلفّك الضباب و تتكسّر الأمطار على سطوح منازلك لتسيل في المزاريب المعلّقة.

تمرّ الأيام والليالي والسنوات، يمرّ الدهر كلّه وتتعاقب الأجيال فتتشرنقين في الذاكرة. بلدتي الجميلة بشوارعها الضيّقة وبيوتها المتقابلة، بلدة الورد والبيلسان والقرنفل البلدي، بلدة الربيع العابق بكلّ شذى ولون، بلدة الجامع والمئذنة والكنائس العتيقة.

يتهادى صوت المؤذّن عند الفجر ليتناغم مع السكون، صوت الأجراس تقرع في صباح يوم الأحد وفي المناسبات. بلدة الحارتين... والأخوة من كلّ الأديان، أيّتها الحبيبة المظلومة المكلومة، الصامدة، الصابرة والخارجة دائماً مثل فينيق لبنان!

سلام مني إليك، من البعد القابع على شواطئ المتوسّط في مدينة صور إلى تلالك وهضابك الشامخة شموخ ماضيك ومستقبلك...

هنا (في مدينة صور) يغزل البحر غيوماً يرسلها هدايا لسماء الخيام العاشقة. ومع كلّ نقطة مطر تتفتّح في قلبي ذكريات عبرت، تحملني إليك فأراك مثلما كنتِ من زمن غابر، أيّام لن تعود!

لا المدرسة، لا طريق البركة، لا الداردارة ولا حتّى الحاصباني... كانت مدرستي بعيدة نسبيّاً عن البيت، أو هكذا كنا نراها ونحن صغار، والذهاب إليها هو بمثابة نزهة صباحيّة مملؤة بعبق الزهور ولسعات البرد تهبّ على الوجه واليدين فيتجمّد الدم في الشرايين وتدمع العيون...

نذهب لنعود ظهراً راكضين لنرى ماذا حضّرت الأمّ للغداء!!

كانت جدّتي تقطف من أمام المنزل زهورها الحمراء وعيدان الياسمين الأصقر، تضع بينها وحولها زهور البيلسان، تعطني الباقة وأنا ذاهبة صباحاً "خذيها للمعلّمة"!

كان الطريق يفوح بأريج الباقة الجميلة النضرة التي بقيت في ذاكرتي العمر كلّه.

تتعاقب الفصول على الخيام، على بيوتها، أرضها، حقولها، تلالها، سهولها، مرجها... فتتغيّر الأحوال والبيوت والسهول ونبع الداردارة!

كم كنت أحبّ هذا النبع وما يحيط به؟

إنّه حنين موجع إليه وإلى دكّان عمّي "أبو علي" ووجهه المبتسم لي! إلى القنا والغدير حيث يحتشد الأولاد على ضفّته الجنوبيّة، يرمون بأنفسهم لأحضان المياه ويتعالى الصراخ ممزوجاُ بالضحكات، يسبحون قليلاً ثم يطلعون من الماء ليعودوا إليها! كان الغدير صغيراً لا يتّسع للجميع. كنت أراقب وأفرح بخرير المياه وحفيف أوراق "الكناية" أو شجرة الكينا الضخمة العتيقة التي لم يبقَ أحد إلا وحفر إسمه على جذعها.

لقد تغيّرت الخيام، تغيّر نبع الداردارة، تغيّر الأشخاص، ونحن كبرنا، إنّه العمر الجميل المتلاشي تحت وطأة السنين والأحداث... أين أصبحنا وكيف ؟

أعطي عمري "أو ما تبقّى" لأعود تلميذة في مدرسة" الأستاذ علي"، أحمل كتبي، أذهب كلّ صباح، في أيّام الخريف الجميلة، في أيّام الشتاء القاسية، فوق الثلوج...

آه ما أجملها رغم كل البرد والصقيع!

أعطي عمري لأعود طفلة تقف خلف النافذة في الغرفة الشرقيّة من بيتنا العتيق، تراقب القمر ينبجس من وراء جبل الشيخ! دائرة ضوءٍ واسعة باهرة في الليل الخيامي الساكن، يلقي بنوره على رؤوس أشجار اللوز والجرنك والرمّان ويتخلّلها ليصل إلى نباتات الأرض الصغيرة، وفي سكون الليل تسمع حركة خفيفة في الخارج فتعرف أنّ "الصبيان" يسرقون اللوز أو الجرنك فلا تخاف ولا تخرج اليهم بل تبتسم وتغفو وأنت تهمس "صحّتين على قلوبهم".

لقد مرّت أوقات البعد والتهجير القسري، كنّا شباباً ولم نكن نبالي، إندمجنا في الحياة وسارت بنا الأيّام إلى محطّات كثيرة، منها الجيّد ومنها السيّئ، غير أنّ العمر الزاحف يجبرك على العودة في إتّجاه الحلم، فتتمسّك بذكرياتك وتستعيدها... تشمّ عبق الأرض أينما كنت.

الخيام... الخيام. .

أنّى بعدنا إنك في البال، في القلب، لؤلؤة بيضاء، صفحة حبٍّ تدفئ الأيّام والليالي مع شريط العمر.

* خيامية تُقيم مع عائلتها في مدينة صور

ألبوم لوحات ورسومات الكاتبة

تعليقات: