ليست الضاحية المرة الأولى، ولن تكون الأخيرة، ما دامت المعادلة بلا ضوابط، والعدوان بلا أثمان.
غارات إسرائيل ليلة العيد على بيروت والجنوب أعادت طرح السؤال الكبير: ما الذي يجري؟ ولماذا يتجرّأ العدو إلى هذا الحد؟ وهل تغيّرت قواعد الاشتباك؟ أم أنها فُكّكت دون إعلان؟ لفهم الصورة، لا بد من قراءة المشهد الأوسع — إسرائيليًا، إقليميًا، ولبنانيًا.
أولًا: في الداخل الإسرائيلي — شعب متألم وحكومة باقية
رغم عمق الهزيمة المعنوية والعسكرية في غزة، لم تسقط الحكومة الإسرائيلية، ولا تزال قبضة نتنياهو قائمة. الجيش الإسرائيلي استعاد جزئيًا ثقة جمهوره عبر الضربات الجوية في لبنان وسوريا، باعتبارها "المعركة المسموح بها".
يستعرض العدو اليوم قوّته الجوية لتعويض فشله البريّ في غزة، ويختبر كل جبهة على حدة، بلا رادع فعلي. ومما لا شك فيه أن لبنان أصبح الساحة المتاحة التي لا تجرّه لحرب كبرى، لكنها تمنحه مشهدًا انتصاريًا في الإعلام.
في الحقيقة، إسرائيل لا تريد حربًا شاملة مع حزب الله الآن. تعرف أن الحرب ستكون مدمّرة. وهذا لا يعني أنها لا تسعى إلى تفكيك الجبهة الشمالية تدريجيًا وتحجيم حزب الله من دون كلفة عالية، عبر التصفيات، والضربات المتفرقة، وإرباك بيئته.
ثانيًا: حزب الله... بين الصبر والتأني
الضاحية ضُربت مجددًا، وقصفها في ليلة العيد لم يكن مجرد ضربة عسكرية: إنه إعلان سيطرة.
ليلة العيد، اختلط صوت المفرقعات بصوت الغارات، وتاهت الحدود بين الفرح والخوف.
وعلى الطرقات، كان مشهد العائلات النازحة في سياراتها موجعًا، كأن الوطن كلّه يحاول الهرب… ولا مكان للهروب. وسط هذا المشهد، جاءت الضربة لتقول: لا أمان لكم، لا في بيوتكم ولا في أعيادكم.
وهنا تتشكل أسئلة شعبية كثيرة:
- هل فقد الحزب زمام الردع؟
- هل يُجرّ إلى معركة لا يريدها؟
- وهل ما زال يملك حرية القرار، أم أنه بات محسوبًا على توقيت تفاوضي أوسع؟
الحزب لا يريد التورّط في حرب مفتوحة الآن، ولكن كلما تأخر الردّ، يتعزز انطباع التآكل في الردع، ولو لم يكن حقيقيًا ميدانيًا بالكامل.
ثالثًا: مفاوضات إيران – أميركا… وظلالها على لبنان
في الخلفية، هناك مفاوضات غير مباشرة بين واشنطن وطهران، عبر وسطاء (مثل عُمان وقطر)، حول مستقبل الملف النووي وتثبيت معادلات التهدئة الإقليمية.. وحتى لحظة كتابة هذا النص، لا اتفاق رسمي، ولا قطيعة نهائية.
الغارات ليلة العيد لم تكن مجرد ردّ عسكري. هي رسالة من إسرائيل للوسيط الأميركي تبدي فيها عدم رضاها، وكأنها تقول: " نحن لن نسكت، حتى لو تفاوضتم مع إيران، ولبنان لن يكون محصنًا."
وهي أيضًا رسالة ضمنية لطهران بأن نفوذهم مكشوف ونضرب متى نشاء.
في المقابل، إيران لن تدخل في صدام واسع الآن. وحزب الله يدفع ثمن التموضع في هذا الحيز الرمادي: مستهدف… لكنه غير مفوّض بالحسم.
والجدير بالذكر أن المواطن اللبناني، خصوصًا في الجنوب والضاحية، يعيش اليوم بين نارين: عدوان بلا نهاية من جهة، وخطابات صمود وإطلالات إعلامية لا توقف الضربات من جهة أخرى. أما الدولة، فخارج اللعبة تمامًا.
فهل نحن أمام مرحلة "استنزاف مزمن"؟ هل المطلوب إنهاك حزب الله دون حرب؟ أم أن المسرح يُهيّأ لانفجار أكبر، على توقيت غير لبناني؟ لا أحد يملك الجواب الكامل، لكن المؤكد أن:
- الغارات لن تتوقف.
- والحزب لن يتنازل عن سلاحه.
- والمواطن بينهما يُسحق، ويبحث بين الأصوات المرتفعة والكلمات المكثفة عن معنى للأمان.
وفي هذا الإطار، وفي ظل التصعيد العسكري والتعقيد السياسي، تكثر الإطلالات الإعلامية التي تتحدث بنبرة تحذيرية عالية، وتُطلق تحليلات دراماتيكية عن اغتيالات وخرائط نفوذ خارجي، دون أن تقدّم للرأي العام أي مادة موثوقة أو تحليل متماسك.
هي إطلالات تملأ الشاشات، لكنها أقرب إلى استعراض شخصي منها إلى قراءة فعلية للواقع، وتُضاعف من حالة القلق الشعبي بدل أن تضيء على الخيارات الممكنة.
في لحظات الخوف، ليس الصوت الأعلى هو الأصدق، بل الأكثر عمقًا وتماسكًا.
أخيرا هذا النص لا يوزّع التّهم، ولا يصنع الأعداء. بل يُكتب كما تعيش كاتبته: في قلب الضربة، ومن بين الناس، باحثًة عن وضوحٍ في زمن تزدحم فيه الأصوات… وتغيب الإجابات."
مي حسين عبدالله
تعليقات: