كامل جابر: حرج بيروت.. ذاكرة العاصمة ورئتها العليلة

يعتبر حرج بيروت أكبر مساحة شجرية خضراء قديمة في عاصمة لبنان، إذ تتحدث بعض الأساطير عن أنه يعود إلى أيام الفينيقيين (مواقع التواصل)
يعتبر حرج بيروت أكبر مساحة شجرية خضراء قديمة في عاصمة لبنان، إذ تتحدث بعض الأساطير عن أنه يعود إلى أيام الفينيقيين (مواقع التواصل)


أكبر مساحة شجرية خضراء قديمة ولم تستطع القوانين ولا القرارات الحكومية اللبنانية أو البلدية المعنية حمايته

ملخص

الثابت في التاريخ القريب من عمر حرج بيروت، أي في العقود الخمسة الماضية، وقبلها في خمسينيات القرن الـ20، أن مساحة الحرج التي كانت تمتد من البحر إلى الجبل في حال انتقاص دائمة، بعدما امتدت إليه المشاريع العمرانية والطرقات التي جزأته إلى أقسام عدة قبل أن تأكله الأبنية والمقابر.

لم تستطع القوانين المرعية الإجراء ولا القرارات الحكومية اللبنانية أو البلدية المعنية حماية حرج بيروت المعروف باللفظة العامية بـ"حرش بيروت"، أو "صنوبر بيروت" (بلفظة صاد مائلة نحو السين) أوBois de Pins باللغة الفرنسية، إذ كانت المؤسسات والجمعيات الدينية والمشاريع الاقتصادية والتجارية والعمرانية أقوى من القوانين ومن حرج بيروت، فجزأته واقتطعت مساحات كبيرة منه لمصالحها ومشاريعها، ناهيك بما أصابه من اعتداءات إسرائيلية إبان اجتياح العاصمة بيروت عام 1982 أحرقت حيزاً كبيراً من أشجاره الصنوبرية العتيقة التي يرجح أن يكون عمرها أكثر من 400 سنة، وربما أكثر بكثير، إلى قرارات بلدية أو رسمية متضاربة تفتحه أحياناً أمام عامة الناس، أو تبقيه مغلقاً في أحيان كثيرة بعد تسييج المساحة الباقية منه بسور حديدي.

تاريخ لا يحمي

يعتبر حرج بيروت أكبر مساحة شجرية خضراء قديمة في عاصمة لبنان، إذ تتحدث بعض الأساطير عن أنه يعود إلى أيام الفينيقيين، أي إلى نحو 3 آلاف عام قبل الميلاد، ويروى أنه كان وقفاً على الإلهة "عشتروت". ويرى بعض اللبنانيين أن الحرج كان موجوداً قبل دخول الصليبيين إلى بيروت، في القرن الـ10 لأن الجنود الصليبيين قطعوا أخشاب الأشجار من حرج بيروت الممتد على مساحة واسعة توصل بين الساحل والجبل، وصنعوا منها مراكب لهم، وكذلك فعل المماليك بعد دخولهم إلى بيروت وإقامتهم فيها بين عامي 1282 و1516 والعثمانيون كذلك، إلا أن هناك من يرجعه إلى أواسط القرن الـ17 الميلادي، وينسب غرس أشجار الصنوبر فيه إلى الأمير فخر الدين المعني الثاني (الكبير) الذي قتل على يد العثمانيين، وترجح مصادر تاريخية عودة هذا الحرج إلى عصور قديمة جداً.

لكن الثابت في التاريخ القريب من عمر حرج بيروت، أي في العقود الخمسة الماضية، وقبلها في خمسينيات القرن الـ20، أن مساحة الحرج التي كانت تمتد من البحر إلى الجبل في حال انتقاص دائمة، بعدما امتدت إليه المشاريع العمرانية والطرقات التي جزأته إلى أقسام عدة قبل أن تأكله الأبنية والمقابر. وفي عهد الحكومات التي كان يتزعمها رئيس الحكومة اللبنانية السابق سامي بك الصلح بين عامي 1952 و1958 كان قد أصدر قراراً "بإقامة سور من الحديد حول غابة الصنوبر لأجل صيانتها من العابثين بأرضها، وحمايتها من الأشخاص الذين يستغلونها لاستخدامها في أغراضهم الخاصة"، لكن هذا السور على رغم كلفه الباهظة لم يحقق الغاية المرجوة، إذ إنه لم يمنع الاعتداء على أشجارها لأغراض تجارية.

الشجر تحت رحمة البشر

أدت الحروب الأهلية اللبنانية التي تعاقبت على البلاد منذ عام 1957 إلى اقتطاع بعض أقسام غابة الصنوبر بغية جعلها مقبرة لموتاهم أو قتلاهم. هكذا أنشأ المسلمون السنة عام 1958 مقبرة لهم في الغابة باسم "مقبرة الشهداء"، وفي بداية أحداث عام 1975 أنشأ السكان الشيعة مقبرة لهم في الحرج باسم "روضة الشهيدين".

سبق للولاة العثمانيين ممن تعاقبوا على حكم لبنان أن اقتطعوا أجزاء كبيرة من غابة الصنوبر وحولوها إلى متنزه "كازينو" عثماني عام 1917، غدا مع الانتداب الفرنسي على لبنان، عام 1921، مقراً للفرنسيين (ولم يزل) تحت اسم "قصر الصنوبر"، يضاف إليه ميدان سباق الخيل. فضلاً عن ذلك فإن شوارع جديدة عبدت خلال الخمسينيات من القرن الماضي أدت إلى تخطيط وتقسيم بقايا الغابات التي أصبحت خاضعة للصراعات والاستيلاء.

تحول الحرج من غابة صنوبر تزيد مساحتها على مليون و250 ألف متر مربع عام 1696، إلى حديقة تزيد مساحتها على 800 ألف متر مربع عام 1967، أي بنسبة خمسة في المئة من مساحة بلدية بيروت. أما اليوم فأصبح حرج الصنوبر حديقة مساحتها لا تتجاوز 300 ألف متر مربع تمتد عند الحدود الجنوبية لبيروت، وتحدها شوارع: عمر بيهم و22 نوفمبر وجمال عبدالناصر. وتقع المساحة المتبقية على امتداد طريق المطار القديمة وسط مناطق المزرعة وطريق الجديدة وقصقص وصبرا والغبيري والشياح وفرن الشباك وبدارو، ويفصلها من رأس النبع في بيروت ميدان سباق الخيل.

كما أسلفنا تعرض الحرج إلى قصف إسرائيلي إبان الحرب الإسرائيلية على لبنان عام 1982، وحُول جزء كبير منه إلى مخيمات للاجئين الفلسطينيين. وبعد انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية أعيد تأهيل الحرج، فأغلقت أبوابه نحو 25 عاماً تقريباً، وكان ممنوع على المواطنين اللبنانيين الدخول إليه من دون تقديم طلب للحصول على تصريح يسمح لهم بزيارته، وكانت طلبات التصريح محصورة بمن هم فوق الـ35 عاماً. هذا الأمر دعا سكان بيروت إلى الاحتجاج مراراً وتكراراً على سياسات الدخول غير المتكافئة لزوار الحديقة من أجانب كانت لهم أفضلية. لاحقاً، انتهى الأمر بإعادة فتح حرج بيروت أمام العامة من قبل محافظ بيروت في الثالث من سبتمبر (أيلول) 2015، مما عد انتصاراً للمجتمع المدني الذي دأب على المطالبة المستمرة بإعادة فتحه أمام جميع المواطنين اللبنانيين.

محاولات ربط لم تنجح

يشير رئيس جمعية "نحن" التي تدافع عن حرج بيروت الناشط محمد أيوب إلى أننا "كجمعية أجرينا مسابقة تصميم حول مستقبل حرج بيروت لربطه بالمدينة والأحياء المتفرقة والأجزاء المتقطعة منه، وقدمنا التصاميم إلى بلدية بيروت ولم تفعل شيئاً، كي يكون الحرج لجميع الناس ليس في الشعارات وحسب، بل يعبر عنه من خلال تصميم وتنفيذ هذا التصميم لربط الناس به والأشياء بعضها ببعض، فضلاً عن أنه يحتاج إلى إدارة تتمتع بإمكانات قادرة على التخطيط لبرامج متزامنة تجذب الناس وتشجعهم على الحضور إلى حرج بيروت، فلا التصاميم تبنتها بلدية بيروت ولا التخطيط متوافر، ودائماً تتذرع البلدية بالأزمة المالية التي عانتها".

وحول الحل بالخصخصة يقول أيوب "المشكلة في أن الحدائق العامة التي جرى تلزيمها سابقاً إلى القطاع الخاص فشلت إدارتها، ولو شجعنا على خصخصتها فمن يراقب هذه الشركات والدولة أثبتت فشلها في ذلك؟ رأينا كيف أن الفساد يضرب كثيراً من الشركات الخاصة التي تولت عملية جمع النفايات مثلاً وغيرها، كل ما خصخص في لبنان كان الفساد فيه واضحاً، لن تكون الشركات الخاصة بديلة عن الدولة، الخصخصة تفيد بوجود الدولة القوية والقادرة على المراقبة والمحاسبة. لكن، يمكن لبلدية بيروت عقد شراكة مع جمعيات وشركات لا تسمح بالفساد واستخدام الأرض في غير وجهتها وأهدافها"، ويضيف رئيس جمعية "نحن" حول الاعتداءات التي جرت على حرج بيروت "صحيح أن الإسرائيليين أحرقوا ودمروا أشجار حرج بيروت إبان اجتياحهم العاصمة عام 1982 لكن اللبنانيين فتكوا به أكثر، بخاصة المؤسسات الدينية على نحو المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الذي قضم قرابة 250 ألف متر مربع من الحرج وبنى مسجداً ومدرسة خاصة وأخرى مهنية ومقبرة ومقراً له، وكذلك فعلت جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية السنية التي قضمت جزءاً من الحرج وبنت مساجد وأقامت مقابر ومدافن، فضلاً عن الطرقات التي شقت فيه، وحولته إلى أجزاء متقطعة ثم هجمت المقابر والمقاهي، ثم مخفر الدرك فالأمن العام".

أساء اللبنانيون لحرجهم

ويلفت أيوب إلى أن "مساحة الحرج كانت مليوناً و200 ألف متر مربع، بقي منها 300 ألف متر مربع. نعم لقد أساء اللبنانيون إلى الحرج باستهتارهم وقضم مساحات منه لمصالحهم الذاتية، وإهماله، وعدم احترامهم الأرض والحق العام وذاكرتهم التي يلعب حرج بيروت دوراً كبيراً في عزها ومجدها. والمؤسف أن ثمة قرارات في بلدية بيروت تتذرع بعدم قدرتها على إزالة المخالفات لإبقاء الوضع على ما هو عليه، مما يعني رضوخها إلى الأمر الواقع"، وينفي أيوب "توقف عملية الاعتداءات على أرض الحرج ومساحته حتى اليوم، فالمستشفى الميداني المصري مثلاً، اقتطعت له مساحة من الحرج للبناء عليه عام 2017، ومبنى الأمن العام لم يمر عليه وقت طويل، حتى المقاهي والجمعيات التي تُؤجر الملك العام، وهذا يجعلنا نجزم بأن الحرج ليس محمياً بل هو عرضة إلى مزيد من الاعتداءات والقضم، ولا يمكن حماية الحق العام والملك العام إذا لم تتوافر الإرادة السياسية أولاً وكذلك القضاء المستقل".

حماية الذاكرة

ويؤكد الناشط أيوب أن "الحرج لم يزل يلعب دوره في ربط بيروت بذاكرتها وحماية مناخها وهوائها وأنفاسها، ولو أن الناس لا تقصده بسبب إقفاله حيناً وتشريعه في أحيان أخرى، لكنها عندما تسمع بأن جزءاً جديداً منه سيقتطع لا تسكت، بل تتحرك وتنتفض حفاظاً على العلاقة المتينة به، وبقاء حرج بيروت رمزاً لذاكرتها وطبيعتها وإنسانيتها. نعم إذا تحدثنا عن بيروت فثمة ضعف في الهوية برمتها، لكن عندما تتوافر الإرادة لإحيائها وإنعاشها لا يمكن فصل ذلك عن حرج بيروت لارتباطه الوثيق بها، لكن الأزمة ليست أزمة ارتباط بقدر ما هي أزمة وعي، وأزمة بلد برمته، واضطراب دوره السياسي والثقافي والمحوري، مما يجعله في دائرة الخطر".

#حرج_بيروت

#كامل_جابر

#جمعية_نحن

#independentarabia

أشجاره الصنوبرية العتيقة يرجح أن يكون عمرها أكثر من 400 سنة (مواقع التواصل)
أشجاره الصنوبرية العتيقة يرجح أن يكون عمرها أكثر من 400 سنة (مواقع التواصل)


يعتبر حرج بيروت أكبر مساحة شجرية خضراء قديمة في عاصمة لبنان (مواقع التواصل)
يعتبر حرج بيروت أكبر مساحة شجرية خضراء قديمة في عاصمة لبنان (مواقع التواصل)


أصبح حرج الصنوبر حديقة مساحتها لا تتجاوز 300 ألف متر مربع (أ ف ب)
أصبح حرج الصنوبر حديقة مساحتها لا تتجاوز 300 ألف متر مربع (أ ف ب)


تعليقات: