لبنان يبدأ بإعادة اللاجئين السّوريّين: اختبار سياديّ وإنسانيّ حاسم

المنظّمات الحقوقيّة لا ترى في شعار الطوعيّة ضمانةً كافية (Getty)
المنظّمات الحقوقيّة لا ترى في شعار الطوعيّة ضمانةً كافية (Getty)


منذ لحظة إعلان الحكومة اللّبنانيّة خطّتها لإعادة ما بين مئتي ألف وثلاثمئة ألف لاجئ سوريّ قبل بداية السنة الدراسيّة المقبلة، بدا أنّ ملفًّا شائكًا رافق البلد أكثر من اثني عشر عامًا ينتقل أخيرًا من خانة المزايدات السّياسيّة إلى خانة القرار التنفيذيّ، الذي ستُقاس عليه مكانة الدولة في ميزان القانون الدوليّ لحقوق الإنسان. إذن، هي المرّة الأولى الّتي يتعاطى فيها لبنان الرسميّ، أو بالأحرى أوّل حكومة لبنانيّة، تقارب ملفّ اللجوء السوريّ من دون العنصريّة الشعبويّة، إنما مقاربة إنسانيّة وسياديّة فعليّة، وإن جاء هذا الطرح متأخّرًا بعد سنواتٍ من مراكمة لبنان النقاط السّوداء في سجّلِه الحقوقيّ.

وإن كانت الحرب الدائرة بين إيران وإسرائيل قد علّقت الملفات السّياسيّة الداخليّة السّاخنة، فإنّ ملفّ اللاجئين، وسائر شجون لبنان الكثيرة، لا يزال يعتمل في الكواليس السّياسيّة، وخصوصًا في ظلّ ترقب زيارة وزير الخارجيّة السوري أسعد الشيباني إلى بيروت، في أواخر الشهر الحالي.

سقوط النظام السوريّ وتبدّل المعادلات الدوليّة

منذ ربيع 2012، لحظة عبور أولى حافلات الناجين من قمع النظام السوريّ إلى عكّار والبقاع، تعامل لبنان الرسميّ مع اللجوء بترحيبٍ اضطراريّ وارتباكٍ استراتيجيّ. ومع ملامسة الأعداد عتبة المليون وسبعمئة ألف، تحوّل الوجود السوريّ إلى مادّة خطابٍ شعبويٍّ رابحةٍ غذّاها الوزير الأسبق جبران باسيل بشعاراتٍ عن "الطاقة الاستيعابيّة" و"أولويّة اليد العاملة اللبنانيّة". لم يبقَ الخطاب في منابر التلفزة؛ إذ صدرت قرارات بلديّة بطرد عمّالٍ ليلًا، وتعليمات شفهيّة للأمن العام بتشديد إجراءات الإقامة، وحملات إلكترونيّة تُجرِّم اللاجئ بوصفه مسؤولًا عن انهيار الليرة، فاستقرّت العنصريّة في صلب السياسة العامّة، إلى أن صارت الدولة نفسها أسيرة سرديّة "التخلّص من اللجوء بأيّ ثمن".

بَيدَ أنّ سقوط النظام المخلوع أواخر 2024 قلب المشهد الإقليميّ، إذ خرج إعلان واشنطن برفع العقوبات الأساسيّة عن دمشق من رحم إعادة هندسةٍ إقليميّةٍ آخذةٍ في التشكّل؛ خطوةٌ واكبها الاتّحاد الأوروبيّ بمسارٍ موازٍ لتليين قبضته الماليّة والتجاريّة، لتبدو سوريا فجأةً على أعتاب "تعويمٍ" دوليّ يفتح لها، ولو جزئيًّا، صنابير التمويل والاستثمار، ويلوّح بعودةٍ تدريجيّةٍ للاجئين المنتشرين في شتات العالم. الأمر الذي أوحى لبيروت بفرصةِ تنفّسٍ مزدوجة: تحرير جزء من كتلة الدعم الدوليّ المحتجَزة في جيوب المنظّمات، وخفض الضغط عن خدماتٍ مترهّلة تعجز عن تلبية الحدّ الأدنى من حقوق المواطنين واللاجئين معًا.

الركائز الثلاث للخطة اللبنانيّة للعودة

هنا وُلدت الخطّة اللّبنانيّة على ركائز ثلاث: الأولى "الطوعيّة" المُعلَنة في كلّ بند، والثانية "التنظيم" عبر تسيير قوافل مُسجَّلة وباصاتٍ مُرقَّمة تخرج من المخيّمات تحت إشراف الأمن العام إلى معابر المصنع، والعريضة، والعبّودية، والثالثة "الحافز الماليّ" المتمثّل في منحة مئة دولار لكلّ مغادر وإعفائه من غرامات الإقامة المنتهية، شرط توقيعه تعهّدًا بعدم العودة إلّا وفق مسارٍ قانونيّ جديد. ويؤكّد متري أنّ المرحلة الأولى ستُنجَز قبل أيلول، على أن يليها مسار "عودة غير منظَّمة" يسمح للفرد بمغادرةٍ ذاتيّة بعد تسجيل اسمه على منصّة إلكترونيّة ومن دون مرافقة أمنيّة مركزيّة.

الأرقام الّتي أوردها تقرير "الاتجاهات العالميّة 2024" للمفوضيّة السامية لشؤون اللاجئين منحت الخطّة غطاءً إحصائيًّا: أربعمئة ألف سوريّ في لبنان يبدون استعدادًا مبدئيًّا للعودة خلال اثني عشر شهرًا، مقابل أربعين ألفًا فقط قبل عام. المفوّض السامي فيليبو غراندي شدّد على أنّ المزاج الجديد نتاج سقوط النظام وتقلّص المساعدات معًا، محذّرًا من أنّ "العودة لن تكون مستدامة بلا دعمٍ حقيقيّ يعيد بناء الحياة". دعا التقرير إلى تمويل مباشر لمشاريع إعادة الإعمار في القلمون وحوران والجزيرة، وشدّد على ضرورة استمرار حماية اللاجئين الذين لم تتسنَّ لهم العودة بعد، ولا سيّما في الأردن وتركيا ولبنان.

الهواجس الحقوقيّة أمام شعار "الطوعيّة"

لكنّ المنظّمات الحقوقيّة لا ترى في شعار "الطوعيّة" ضمانةً كافية. ففي جلسة مغلقة مع لجنة الشؤون الخارجيّة النيابيّة، قدّمت هيومن رايتس ووتش والعفو الدوليّة توثيقًا لحالات استدعاء أمنيّ للاجئين أعلنوا سابقًا عدم رغبتهم في العودة، ليُطلَب إليهم "إعادة النظر" تحت طائلة إلغاء الإقامة. الحكومة نفت أيّ ضغطٍ ممنهج، لكنّ المنظّمات تخشى أن يتحوّل خفض مساعدات الغذاء والتعليم الأمميّة واللبنانيّة من حافزٍ إلى سلاحٍ صامت يدفع الناس نحو خيارٍ واحد لا غير.

وفيما أعلنت "الهيئة العامّة للمنافذ البرّية والبحريّة" في سوريا استقبالها أكثر من 400 ألف عائد منذ كانون الثاني 2025، متعهّدةً بـ"خدمات لوجستيّة وأمنيّة" لاستيعاب القادمين. غير أنّ مسحًا أجراه "مجلس الشرق الأوسط" في أيّار أظهر أنّ 55٪ من اللاجئين ما زالوا يرفضون العودة راهنًا بسبب الخوف من غياب الخدمات الأساسيّة وانعدام الثقة باستقرار المنظومة السياسيّة الجديدة.

اتفاق ثلاثيّ وضمانات مستدامة

في هذا السّياق، تبدو الخطة اللّبنانيّة، على طموحها، أشبه بعربةٍ تسبق حصان الضمانات. فلكي تتحوّل العودة إلى مسارٍ مستدام، تحتاج أوّلًا إلى إطار اتفاقٍ ثلاثيّ واضح: بيروت تلتزم مبادئ عدم الإعادة القسريّة ورقابة القضاء المدنيّ على أي إجراء أمنيّ؛ دمشق تؤمّن عفوًا عامًاوتحقيقًا لمطلب العدالة الانتقاليّة كما وضبط الفصائل المسلّحة المحليّة؛ أمّا الأمم المتحدة وشركاؤها فيربطون تمويل إعادة الإعمار بتقارير مراقبة دوريّة حول سلامة العائدين وتوفّر الخدمات. كذلك، يُفترض أنّ يتزامن فتح صناديق الإعمار مع مشاريع تنمويّة داخل لبنان للبلدات الأكثر تأثّرًا بنزوح اليد العاملة السوريّة، منعًا لفراغ اقتصاديّ يُحوّل العودة إلى أزمة مضاعفة على جانبَي الحدود.

ماليًّا، تبدو الخطة رهينة توازنٍ دقيق بين سخاء دوليّ محدود وتقشّف داخليّ قاسٍ. فالمئة دولار تُغطَّى من رصيد برامج النقد مقابل الغذاء الّتي خُفِّضت أصلًا، فيما يتحمّل الأمن العام كلفة إصدار إخراجات قيد وجوازات مرورٍ مجانيّة. وقد تعهّدت ألمانيا وهولندا بتقديم باصاتٍ مكيَّفة، بينما أبدت قطر استعدادًا لتمويل أربع عياداتٍ متنقّلة ترافق القوافل حتّى الحدود. في المقابل، يلوّح المانحون بربط أي دفعة تمويل إضافيّة بمؤشّرات شفافيّة تُثبت أنّ العودة فعلًا طوعيّة، وأنّ حوادث الاعتقال أو التعذيب (كما تنصّ اتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة) في سوريا لم تتخطَّ "حدودًا مقبولة".

أما اقتصاديًّا، يراوح النقاش بين مخاوف أصحاب العمل من فقدان يدٍ عاملةٍ متدنّية الأجر وبين حجج نقابات العمّال الّتي ترى في العودة فرصةً لضبط سوقٍ تجتاحه المنافسة غير العادلة. وتوثّق تقارير وزارة العمل انخفاضًا حادًّا في الحدّ الأدنى للأجور الفعليّة في قطاعَي البناء والزراعة بسبب العرض السوري الزائد. إلّا أنّ عودةً متسرّعة بلا خطّة تعويضٍ في سوق العمل قد ترفع التكاليف على المقاولين وتُبطئ ورش الإعمار الداخلي، فتزيد البطالة بين اللبنانيّين أنفسهم إذا تعطّلت المشاريع جرّاء ارتفاع كلفة اليد العاملة.

المستوى الإقليميّ

على المستوى الإقليميّ، يعمل الأردنّ وتركيا وفق مقاربةٍ متوازية؛ فقد أعلنت عمّان استعدادها لتسهيل عودة مئتي ألفٍ من أصل 1.3 مليون لاجئٍ يقيمون على أراضيها، في حين حدّدت أنقرة هدفًا بسبعمئة ألف عائدٍ قبل نهاية عام 2026، مع ربط العودة بمشاريع إسكانٍ في تلّ رفعت ومنبج. يعزّز هذا التزامن، نظريًا، فرضيّة عودةٍ جماعيّةٍ آمنةٍ إذا توافرت بنى استقبالٍ سوريّة ملائمة، ويساهم في تخفيف الضغط عن لبنان. غير أنّ السيناريو الأكثر تشاؤمًا، وفق خبراء الاقتصاد، يتوقّع انكماشًا إضافيًّا في تحويلات السوريّين داخل لبنان، ما يهدّد دورة سيولةٍ نقديّةٍ صغيرةٍ اعتمد عليها تجّار الأحياء الشعبيّة منذ بداية الأزمة.

الإطار القانونيّ

من الناحية القانونيّة، قد يُذكَّر بأنّ لبنان ليس دولةً موقِّعة على اتفاقيّة عام 1951، لكنّه ملتزمٌ بمبدأ عدم الإعادة القسريّة بوصفه عرفًا دوليًّا. وقد استند القضاء الإداري اللبناني سابقًا إلى هذا المبدأ لإبطال قرارات ترحيلٍ فرديّة. غير أنّ الثغرة تكمن في غياب إطارٍ تشريعيّ وطنيّ شاملٍ للجوء، ما يتيح للسلطات التحرّك في مساحةٍ رماديّةٍ بين القانون الداخلي والتعهّدات الأخلاقيّة. هنا تتخوّف المنظّمات من تحوّل الرمادي إلى أسود إذا لم تُنشأ آليّة مراقبةٍ مستقلّة تُشرِف على كل خطوةٍ من خطوات الخطة.

سيناريوهات العودة

اليوم، تتراوح السيناريوهات المحتملة بين أفضلها، حيث تنجح العودة بالتزامن مع إطلاق مشاريع إعادة إعمارٍ ضخمة داخل سوريا فتُعيد توزيع اليد العاملة وتخفّف الضغط الماليّ عن بيروت، وأسوأها الذي يرى في فشل التمويل أو تجدُّد التوتّر الأمنيّ على الحدود بذور كارثةٍ إنسانيّةٍ جديدة قد تدفع موجة نزوحٍ معاكسةً هذه المرّة من لبنان نحو سوريا الأكثر هدوءًا. وبين هذين الحدَّين، يقف واقعٌ مكابرٌ مفاده أنّ أيّ خللٍ أمنيّ في جنوب لبنان جرّاء الاشتباك الإيرانيّ–الإسرائيليّ المستمرّ قد ينسف الخطة من أساسها ويعيد المعادلة إلى نقطة الصفر.

على الجهة السوريّة، تحاول الحكومة الانتقاليّة برئاسة أحمد الشرع استباق العودة الجماعيّة بإصدار "قانون استرداد الأملاك" الذي يتيح للعائدين استعادة عقاراتهم خلال ستين يومًا. وتَعِدُ بحوافز ضريبيّة للمشاريع الصغيرة والمتوسّطة في قطاعات الزراعة وورش البناء، كما تعمل مع الوكالة الألمانيّة للتعاون الدولي على إنشاء أربعة مراكز استقبالٍ مؤقّتةٍ مجهّزة بعياداتٍ ومولّدات. ومع ذلك، يُظهر مسح أجرته جمعيّة "سوا للتنمية" في خمسة مخيّماتٍ لبنانيّة أنّ 42 % من اللاجئين لا يملكون مأوى صالحًا في مناطقهم الأصليّة، و37 % يخشون التجنيد أو الثأر العائلي، ما يضع الكرة في ملعب الجهات المانحة لتوفير مساكن جاهزة وحلول حمايةٍ قانونيّةٍ داخل سوريا.

وبذلك، يقف لبنان اليوم بين مسارين: إمّا الاكتفاء بسياسة "تفريغ الضائقة" عبر إجراءاتٍ قصيرة الأجل تعيد إنتاج اللجوء في دورةٍ جديدة، وإمّا الاستثمار في اللحظة الإقليميّة النادرة لتحويل ملف اللجوء إلى منصّة إصلاحٍ حقوقيٍّ واقتصادي تُعيد ترتيب علاقته مع العالم ومع مواطنيه، لبنانيّين كانوا أم سوريّين. الطريق إلى الاختبار قصير؛ وحده التقيُّد الصارم بالمعايير الدوليّة والمساءلة الشفّافة لأي خرقٍ يمكن أن ينقل الخطة من خانة "التخلّص من عبء" إلى مقام "إدارة تنقّلٍ إنسانيٍّ محترم".

تعليقات: