غازي العريضي: لبنان في قلب العاصفة

لعبة الأمم تجرف كل شيئ (مصطفى جمال الدين)
لعبة الأمم تجرف كل شيئ (مصطفى جمال الدين)


أقيلت السيدة مورغان أورتاغوس من منصبها كمندوبة للإدارة الأميركية إلى لبنان. صُدم كثيرون وخاب أملهم بعدما اعتبروا أنها إمرأة حديدية، وراهنوا على قسوتها وتشدّدها، وفرح بعض هؤلاء عندما وجهت كلاماً للزعيم الوطني وليد جنبلاط خرج عن المألوف في التخاطب السياسي، وخصوصاً الدبلوماسي. يومها دقت الباب وسمعت الجواب الذي فاجأ كثيرين، خصوصاً من محبيها في لبنان الذين ما انفكوا في الداخل والخارج، وتحديداً في أميركا، عن التحريض ضد رئيس مجلس النواب نبيه بري في بداية الأمر، ثم ضد رئيس الجمهورية العماد جوزف عون. ضد الأول لأنهم يعتبرونه حجر عثرة في طريق أي حل، لأنه الرمز السياسي الأول في الطائفة الشيعية الكريمة والشريك الرسمي في ما يسمّونه الثنائي الشيعي، صاحب النفوذ في الدولة. ووصلوا إلى حد المطالبة بفرض العقوبات عليه، علّه يرضخ ويقبل بما يريدونه، تحت شعار الإسراع في تنفيذ اتفاق وقف العمليات العدائية، الذي وقّع مع إسرائيل بعد الحرب المدمرة على لبنان، والتي استمرت لشهرين بعد سلسلة من العمليات العدائية قبل ذلك. التحريض على بري من دون أي موقف جدّي يتناول الاعتداءات الاسرائيلية، وتحميل الطرف اللبناني مسؤولية إعطاء ذريعة لإسرائيل بسبب عدم إقدامه وبسرعة على تنفيذ ما هو مطلوب من جانب واحد، مستمر حتى الآن. إسرائيل التي تعتدي على قوات الطوارئ الدولية وتمنع الأهالي الذين عادوا إلى قراهم من البقاء، وتحرم الآخرين من العودة، وتقتل وتقصف وتدمّر، ولا أمل حتى الآن في إطلاق عملية إعادة الإعمار، وتمارس ضغطاً على الجيش اللبناني للإقدام وبسرعة على نزع السلاح في الداخل، مع إصرارها على البقاء في الأراضي المحتلة، والتهديد بالتمدّد أكثر في الجنوب اللبناني، وشنّت طائراتها غارات على أبنية في الضاحية الجنوبية بذريعة وجود صواريخ في الطوابق تحت الأرض. ثم طلبت لجنة المراقبة العسكرية من الجيش الكشف على أرض الواقع. ذهبت فرق الجيش. كشفت. حفرت ولم تجد شيئاً. والنتيجة إسرائيل اعتدت. وضعت مبررات تبيّن أنها وهمية. من يعوّّض الأهالي؟ أين الصدقية؟ ماذا يفعل المواطنون؟ هل المطلوب أن يبقوا ويبقى معهم لبنان تحت رحمة الحقد الاسرائيلي؟ أيوجد سلاح خارج الجنوب؟ نعم؟ مطلوب تنفيذ قرار السلطة اللبنانية بحصر السلاح بيدها؟ نعم. ولكن هل بهذه الطريقة يمكن أن ينفذ الأمر؟ ماذا فعل الرئيس عون سوى الإصرار في كل موقف وتصريح على تحقيق هذا الهدف؟ كل ما طلبه هو الضغط على إسرائيل للانسحاب وإعطاء لبنان الفرصة ليبنى على هذا الشيئ ويعالج المسألة، وينفذ ما ورد في خطاب قسمه وبيان الحكومة الوزاري. فلماذا هذا الهجوم على الرئيس والجيش والحكومة؟

غادرت أورتاغوس. جاء توم باراك موفداً مؤقتاً. التقى المسؤولين ذاتهم وكرّر الموقف الأميركي المصرّ على تنفيذ قرار وقف العمليات العدائية وتسليم السلاح، ولبنان الرسمي مع هذا التوجّه. لكن كان نقاشاً هادئاً، غير استفزازي. استمع إلى الرئيس عون والرئيس بري والرئيس سلام، وكان ثمة تأكيد على الالتزام بكل ما تمّ الاتفاق عليه، لكن ما يؤخر هذا الأمر هو استمرار الاحتلال الاسرائيلي. فهل في ذلك جريمة أو تقصير أو خيانة حتى تشن الحملات ضد الدولة ورموزها؟ خاب أمل الذين راهنوا على السيدة أورتاغوس وتشدّدها وصدموا باللقاء الذي عقد بين السيد باراك والزعيم الوطني وليد جنبلاط، وكان مميزاً مريحاً ساده نقاش صريح وواضح وواقعي حول كل الأمور.

ومعلوم أن الزيارة تمت في وضع إقليمي حرج في المنطقة التي شهدت بعدها تطوراً استثنائياً كبيراً تمثل بدخول الإدارة الأميركية على خط الحرب الإيرانية الاسرائيلية وشنّت طائراتها B2 هجوماً كبيراً على المنشآت النووية الايرانية والخوف من تداعيات ذلك على كل المنطقة. وهو خوف مشروع لاسيما في لبنان. كل المسؤولين والقوى دعوا إلى عدم إقحام لبنان في هذه الحرب. ونبيه بري أكد بوضوح : "... 200 % لن يدخل لبنان فيها لأن لا مصلحة لنا بذلك". وهذا موقف عاقل وحكيم. وليد جنبلاط اختصر الموقف بالقول: "فلنوحّد الرأي حول احتلال الجنوب، ولنعمل معاً". هذا هو منطق المسؤولية وعين الحكمة وعقل الجمع والسبيل إلى حماية لبنان.

ليس ثمة عاقل يدعوأو يقبل أو يتحمّل تحميل لبنان أي عبء فوق الذي تحمّله. لكن الأمور تعالج بالهدوء والتروي وليس بالعنتريات والبطولات الوهمية وتمنيات البعض فقط. اللعبة كبيرة والمنطقة كلها أمام استحقاقات خطيرة. ويبدو أننا في بداية الطريق في الحرب وتداعياتها. توحيد الموقف السياسي في لبنان ضمانة إنقاذ البلد. مجدداً : لا عواطف في المواقف. تحليلات التمنيات هي أخطر أنواع التحليلات. لعبة الزواريب والمصالح الضيقة والانتصارات الوهمية تافهة في مواجهة لعبة الأمم. والرهان على أن لأحد ما موقعاً في اللعبة الأخيرة وهم كبير. لعبة الأمم تجرف كل شيئ. تفاجئنا بكل شيئ. أكبر منا بكثير. والبعض أسير لعبة الأحجام والأوهام. أما الحقيقة فهي لعبة أحجام وأورام أما الأوزان فعيارها ومعيارها العقل والتبصّر وما أحوجنا إلى ذلك. لبنان في قلب العاصفة، الوحدة أمانة وضمانة حمايته

تعليقات: