يوم لجأ الرئيس السابق أمين الحافظ ووزير دفاعه محمد عمران إلى طرابلس

الرئيس السوري السابق أمين الحافظ
الرئيس السوري السابق أمين الحافظ


في 23 شباط 1966 قام اللواء صلاح جديد ومجموعة من الضباط السوريين من بينهم حافظ الأسد بانقلاب عسكري ضد الرئيس السوري أمين الحافظ الذي تسلّم الرئاسة منذ انقلاب حزب "البعث العربي الاشتراكي" في 8 آذار 1963 وأودع مع وزير دفاعه اللواء محمد عمران سجن المزة.

بعد هزيمة حزيران 1967 أطلق سراحهما فغادرا سوريا إلى طرابلس، حيث فيها وجود بعثي قديم وناشط، والبعثيون في طرابلس بمعظمهم من مؤيدي خط الرئيس أمين الحافظ.

عند وصولهما إلى عاصمة الشمال ليلًا توجه أمين الحافظ إلى منزل الشيخ يوسف الضاهر قرب مدرسة الطليان وبات ليلته عنده: يتذكر بيار الضاهر أن والدته أقامته من النوم لإخلاء الغرفة للضيف.

لماذا إلى بيت يوسف الضاهر؟

كانت تربط الشيخ يوسف الضاهر صداقات مع معظم التجار والصناعيين والرأسماليين السوريين، لا سيما من يقصدون طرابلس ولبنان الشمالي لإنجاز أعمالهم ومن بينهم الرئيس الحافظ ومن لاقاه إلى طرابلس فاعتبروا بيت الشيخ الضاهر الأكثر أمانًا.

مبيت أمين الحافظ في منزل يوسف الضاهر ولاحقًا في بيت "الكتائب" منعه من زيارة سوريا حتى سنة 1972 حين زاره رفعت الأسد في شكا ودعاه إلى زيارة سوريا وفتح صفحة جديدة. أما اللواء محمد عمران فبات ليلته في منزل عبدو حبوس والد النائب العلوي لاحقاً أحمد حبوس ووالد أنوش زوجة ابن عمه.

في اليوم التالي انتقلا إلى فندق صغير يدعى "قصر المنتزه" أفخم فنادق طرابلس يومها، وكان يقع في نهاية شارع "عزمي" وهدم نهاية السبعينات. كان يملكه الدكتور يوسف فضول نقيب الأطباء في طرابلس ونائب منطقة بشري، ويستثمره الأمير داوود شهاب. الفندق كان عبارة عن بناء تراثي، شُيّد زمن الحكم التركي أواسط القرن التاسع عشر، وكان في الأساس مقرًا للولاة وكبار الضباط الأتراك وضيوفهم، وقناصل الدول الأجنبية، وزمن الانتداب الفرنسي تم تحويله إلى فندق لا يزيد عدد غرفه عن 40 غرفة خصص بصورة رئيسية للمتزوجين حديثًا من العائلات الميسورة لقضاء شهر العسل.

عند وصول الرئيس أمين الحافظ واللواء محمد عمران، كان يستثمر الفندق الأمير داوود شهاب من بعبدا، ومديره شاب من حصرون يدعى جورج حكيم وهو كتائبي الانتماء. ولدى وصولهما إلى طرابلس، فصل لهما الأمن العام اللبناني 3 عناصر بإمرة مفتش طرابلسي يدعى سليم ريفي مهمتهم حمايتهما ويقول البعض مراقبتهما.

سرعان ما تحول الفندق إلى خلية نحل، وأصبح يغص بالزوار الطرابلسيين ومعظمهم من مسؤولي ومؤيدي "البعث" ومن السوريين، لا سيما المنفيين منهم.

في هذا الفندق قضى الرئيس السوري ووزير دفاعه أقل من 15 يوماً، فماذا جرى خلال تلك الأيام ولماذا غادراه؟

طوال إقامته في الفندق لم يغادره الحافظ إلا في ما ندر وفي زيارات خاطفة، لكنه استقبل العشرات على عكس عمران الذي نادراً ما أقام فيه إلا للنوم، وكان دائم التجول وزيارة العديد من الرفاق والأصدقاء.

وعمران من الطائفة العلوية ومن عشيرة الخياطين ومنها الكثير من العلويين المقيمين في طرابلس، خاصة في محلة جبل محسن.

بعد نحو 10 أيام على إقامتهما في الفندق، قصدهما المفتش سليم ريفي، وأبلغهما أن هناك عيونًا أرسلها الحكم في سوريا بدأت تظهر حول الفندق، وهو متخوف من شيء أمني يحضّر لهما، فنصحهما بالتحفيف من تنقلاتهما واستقبالاتهما وحتى مغادرة طرابلس إلى مكان آخر قد يكون أكثر أمانًا، إلى أن كان ذاك النهار.

ماذا جرى يومها؟

كعادته غادر اللواء محمد عمران الفندق صباحًا للقيام برياضة المشي برفقة بعض الأصدقاء، ومن ثم توجه إلى منزل عبدو حبوس لتناول الفطور مع بعض المدعوين. لدى خروجه من المنزل مع بعض الأشخاص عائداً إلى الفندق شاهد صدفة قرب المنزل ضابط مخابرات سورياً علوياً يعرفه جيداً يدعى يوسف الخطيب كان وقتها برتبة ملازم أو ملازم أول: لعب لاحقًا هذا الضابط دورًا أمنيًا في لبنان بعد دخول الجيش السوري سنة 1976.

ماذا حصل مع الضابط السوري يوسف الخطيب؟

هناك روايتان: الأولى تقول إن اللواء عمران تعرف عليه وأدرك أنه بمهمة فتقدم منه والبعض يقول صفعه وسأله: ماذا يفعل في طرابلس؟ أدى له الضابط الخطيب التحية وقال له: "سيدنا في قرار باغتيالك والرئيس الحافظ وجايي فرقة تنفذ العملية وأنا بمهمة استكشافية".

الرواية الثانية تقول إن الملازم الخطيب وما إن شاهد اللواء عمران تقدم منه وأدى له التحية وأخبره بمخطط الاغتيال طالبًا منه مغادرة طرابلس.

ربط اللواء عمران كلام الضابط السوري بمعلومات المفتش ريفي وتأكد له أن هناك مخطط اغتيال وعلى الفور غادر إلى دوما في جرد بلاد البترون.

إلى دوما البترونية

من بين الذين استقبلوا الرئيس الحافظ واللواء عمران في طرابلس شاب علوي سوري كان صديقاً للواء عمران من زمن الدراسة، وعائلته من أثرياء الطائفة العلوية كانت غادرت سوريا إلى لبنان زمن الوحدة مع مصر، ويقال إن هذا الشاب هو من تكفل بمصاريف الرئيس الحافظ واللواء عمران في لبنان.

كان هذا الشاب العلوي مع اللواء عمران عندما التقى الملازم الخطيب وهو من ألحَّ على المغادرة فوراً للإقامة في منزل تملكه عائلته في دوما في جرد بلاد البترون البعيدة عن عيون الحكم الجديد في سوريا.

الحافظ في بيت الكتائب

مطلع أربعينات القرن المنصرم ولم يكن مرت سنواتٍ قليلة على تأسيسه، وصل حزب "الكتائب" إلى طرابلس؛ حمله إلى عاصمة الشمال مجموعة من الشبان المسيحيين من طرابلس وقرى الشمال كانوا يدرسون أو يعملون في بيروت.

عند بدء نشاط الكتائبين افتتحوا مقراً لهم في شقة قدمها الشيخ بطرس الخوري في البناية التي يملكها في شارع الجميزات (حالياً حيث حلويات الحلاب).

أواخر خمسينات القرن العشرين ازداد عدد الكتائبيين وتوسع نشاطهم، فتم شراء منزل أكبر قرب كاتدرائية مار مارون دُفع ثمنه من تبرعات المحازبين والمناصرين.

شهد بيت الكتائب حتى ربيع 1975 تاريخ مغادرة الكتائبيين طرابلس أحداثًا هامة، قد يكون من أبرزها لجوء الرئيس السوري أمين الحافظ إليه. يوم مغادرة اللواء محمد عمران طرابلس إلى برمانا، انتقل الحافظ إلى بيت الكتائب في طرابلس: لماذا تم هذا الانتقال وكيف؟

كان الحافظ قد قرر التوجه إلى بغداد ولم يشأ الانتظار في بيروت حتى سفره، فقرر البقاء في طرابلس، معتبراً أنه سيكون محمياً أكثر بين محازبي البعث، وراح يدرس إمكانية اختبائه فيها.

ظهر ذلك النهار، ومن بين الواصلين إلى الفندق، المسؤول البعثي فؤاد الأدهمي، وكانت تربطه صداقة بمدير الفندق جورج حكيم، وخلال الجلسة مع الحافظ وحلقته الضيقة التي كانت تبحث عن مكان آمن ينتقل إليه الرئيس السوري، طلب جورج حكيم الكلام واقترح بيت الكتائب.

حل الصمت فالجميع تفاجأ، وأكمل جورج حكيم: "آخر مكان يمكن التفكير أن الرئيس أمين الحافظ متواجد فيه هو "بيت الكتائب".

بعد نقاش سريع وافق الرئيس الحافظ على الانتقال إلى "بيت الكتائب"، ولكن يجب أخذ موافقة مسؤولي الكتائب.

على الفور توجه جورج حكيم وفؤاد الأدهمي والتقيا اسطفان حكيم من حصرون مسؤول حزب "الكتائب" في طرابلس وانتقلوا للقاء الشيخ يوسف الضاهر رئيس إقليم الشمال الكتائبي.

وافق الشيخ يوسف الضاهر، ولكن قرار بهذه الأهمية يستوجب موافقة الشيخ بيار الجميل، فغادر فؤاد الأدهمي وأنطوان الحكيم إلى بيروت ومعهما جميل الصراف مفوض قسم طرابلس الكتائبي حاملين رسالة من الشيخ يوسف الضاهر، تشرح الوضع واقتراح انتقال الرئيس السوري إلى "بيت الكتائب" حفاظاً على حياته.

ما إن أنهى الشيخ بيار الجميل قراءة الرسالة، وقبل أن يستمع إلى شروحات حامليها، أعطى موافقته طالبًا الإسراع بتنفيذ عملية الانتقال حفاظًا على حياة الرئيس الحافظ الذي التجأ إلى بلادنا وواجب علينا حمايته.

مع أول خيوط مغيب ذلك النهار ومتخفياً بزي فلاح عربي، غادر الرئيس الحافظ الفندق، وجال في بعض شوارع طرابلس ليدخل "بيت الكتائب" خلسة، وكان في استقباله الشيخ يوسف الضاهر وبعض مسؤولي "الكتائب" في طرابلس ولاقاه عدد من مسؤولي حزب "البعث".

...

بعد وصول الرئيس السوري أمين الحافظ إلى بيت "الكتائب" في طرابلس، وُضعت خطّة سريعة لحمايته، أعدّها كلود قنطرا وجميل الصراف مع مسؤول عسكري بعثي من آل الزعبي، وتقرر أن يبيت الرئيس الحافظ في إحدى الغرف بعد أن يتمّ تجهيزها مع فؤاد الأدهمي، فيما يبقى 3 أو 4 شبان كتائبيين ممن عرفوا بالقوة والبأس في بهو البيت، ويرابط حول المنزل عدد من شباب "البعث" الجاهزين للتدخل عند حدوث أي أمر طارئ.

حلّ الليل على طرابلس وبدأ تنفيذ الخطة، وبحسب ما أخبر لاحقًا فؤاد الأدهمي أن أحدًا لم ينم تلك الليلة، فهو شخصيًّا كان خائفًا من أن يصل رجال المخابرات السورية إليهم.

صباحًا قد يكون بعض سكان الحيّ حيث بيت "الكتائب"، لاحظوا أن بائعي الخضار عبر "عرباتهم" ازداد عددهم وبدل أن يجولوا الشوارع منادين "على بضاعتهم" كانوا يجلسون إلى جانبها يتحدثون مع بعض ضيوفهم، وتبيّن أنهم (الباعة وزبائنهم أو ضيوفهم) كانوا الحراس الذين أرسلهم حزب "البعث" لحماية الرئيس الحافظ وكانت أسلحتهم مخبأة داخل عربات الخضار.

وعلى بعد أقل من 100 متر من بيت "الكتائب" كان هناك محل يبيع القماش صاحبه بعثي، أبقى أبواب محله مفتوحة تلك الأيام طوال الليل منتظرًا قدوم سلع جديدة تأخّر وصولها، وكان البعثيون يراقبون مدخل بيت "الكتائب" من أمام وداخل ذاك المحل.

أما داخل بيت "الكتائب" فلم تتبدل الأوضاع كثيرًا، فالحركة داخله لا تتوقف ليل نهار. وفي اليوم التالي انضمّ إلى الرئيس الحافظ، المفكر البعثي هشام ازمرلي وكان يومها مدير مكتب ميشال عفلق مؤسس "البعث".

أخبر لاحقًا فؤاد الأدهمي أن الرئيس الحافظ أبدى حينها إعجابه بهذا النشاط في بيت "الكتائب".

ماذا جرى في قصر المنتزه بعد مغادرة الحافظ؟

صباح اليوم التالي للمغادرة، وصل إلى فندق قصر المنتزه 4 شبان سوريين وحجزوا غرفتين لمدة أسبوع، دفعوا أيجارهما مسبقًا: أدرك مسؤولو الفندق أنهم فرقة الاغتيال المكلّفة بقتل الرئيس الحافظ واللواء عمران.

مكث الشبان الأربعة طوال النهار في بهو الفندق وجواره، ولكن يبدو أنهم أدركوا أن من يقصدونهما غادرا الفندق، فرحلوا بدورهم عند المغيب ولم يعودوا مرّة أخرى.

مكث الرئيس الحافظ في بيت "الكتائب" ليلتين أو ثلاث، ومع تأخّر أوراق سفره بات منزعجًا من إقامته كالسجين، وكان يتخوف من حصول أي إشكال مسلّح يعرّض المدنيين للأذية.

ومن زوّاره في بيت "الكتائب"، كان الشيخ سليم الخوري، فدعاه لمرافقته إلى شركة قاديشا التي كان مديرها العام، فرافقه خفية، ومن قاديشا صعدا إلى منزل الشيخ سليم في بشري البعيدة عن أعين المخابرات السورية.

لم يمكث الرئيس الحافظ في بشرّي سوى ليلة أو ليلتين حيث وصله خبر بضرورة الانتقال إلى بيروت، فغادر على الفور ومن بيروت توجه إلى بغداد.

وتجدر الإشارة، إلى أنّ استقبال الرئيس أمين الحافظ للشيخ سليم الخوري، منع الأخير أيضًا من زيارة سوريا، حتى لقاء رفعت الأسد بالشيخ يوسف الضاهر سنة 1972. خلال وجودهما في بغداد وعند لقائهما بمسؤولين كتائبيين وقواتيين كان الدكتور عبد المجيد الرافعي والرئيس أمين الحافظ يستذكران هذه الحادثة ويرويان تفاصيلها، وأكثر من لبناني سمعها منهما، مستذكرين بخاصة الشيخ يوسف الضاهر وكرمه مع ضيوفه. وفي أحد لقاءاتي مع الدكتور عبد المجيد الرافعي بعد عودته إلى طرابلس، ذكّرته بما جرى يومها فأعاد سرد ما زال عالقاً في ذهنه. وردًّا على استفسارٍ، أبدى تعجبه كيف أن الرئيس أمين الحافظ لم يذكرها خلال حديثه إلى قناة الجزيرة الفضائية: قد يكون نسيها بعد كل تلك السنوات.

هذه كانت قصة لجوء الرئيس السوري أمين الحافظ إلى بيت "الكتائب" في طرابلس، رويتها كما أخبرني إياها من عايش تلك الأيام. وتجدر الإشارة إلى أنه رغم الاختلاف السياسي، بقيت العلاقة جيدة جدًّا بين بعثيي (جناح العراق) وكتائبيي طرابلس، وكان رُكنا هذا التقارب الدكتور عبد المجيد الرافعي والشيخ يوسف الضاهر، وفي انتخابات 1972 صبّت أصوات المسيحيين في طرابلس لصالح الدكتور الرافعي بنسبة تجاوزت في بعض الأقلام المسيحية الـ 80 %. وبعد خروج "الكتائب" من طرابلس مع اندلاع الحرب سنة 1975 بقي فيها بعض الكتائبيين وعائلاتهم، فأمّن حزب "البعث" حمايتهم حتى سيطرة مجموعات حركة "التوحيد الاسلامي" سنة 1983، الذين قاموا بقتل الشاب الكتائبي ميشال حديد، وكان رفض مغادرة طرابلس رغم كل التحذيرات التي وصلته، ونتج عن مقتله توسيع الخلاف مع البعثيين الطرابلسيين بشكل كبير، ومن يومها انتهى الوجود المسيحي في طرابلس تقريبًا.

...

تأكّد اللواء محمد عمران (وزير الدفاع السوري في عهد أمين الحافظ) من صدق كلام الملازم السوري العلوي يوسف الخطيب وربطه بمعلومات الأمن العام اللبناني، فغادر طرابلس على الفور وعاد إلى مقرّ إقامته وجمع أغراضه ورحل برفقة صديقه العلوي السوري وأحد مرافقيه ووجهتهم بلدة دوما في جرد البترون.

لماذا إلى دوما؟

كانت دوما البترونية ومنذ مطلع القرن العشرين مصيفًا مهمًّا لعائلات ميسورة من الساحل السوري، ومن بينها عائلة رفيق اللواء عمران، التي ارتبطت بصداقات مع عائلات من دوما، فصعد مع اللواء عمران إلى منزل يملكه سليم مسلّم المعروف بسليم الصايغ كانت تستأجره عائلة الشاب العلوي سنويًّا والبعض يقول إنها كانت تتملّكه.

مطلع ثلاثينات القرن العشرين ومن خلال عائلة الشابّ العلوي، توجّه سليم مسلّم إلى دمشق وعمل في مهنة صياغة الذهب فحمل اسم الصايغ، وراح يتردّد إلى الساحل السوري حيث فتح محلًّا في طرطوس لبيع وصياغة الذهب حمل أيضًا الهوية السورية.

في دوما، استقبل راجي ابن سليم الصايغ اللواء عمران ورفيقه ومرافق اللواء عمران واهتمّ بهم، لكن رفيق اللواء عمران غادر إلى بيروت وبقي عمران ومرافقه في دوما.

وصل عمران إلى جرد بلاد البترون ما بين النصف الثاني من شهر آب وبداية شهر أيلول، فشعر بارتياح بعد ضغط أيام السجن وطرابلس.

نسج عمران في دوما صداقات مهمّة مع العديد من وجهائها وجوارها وكان يتردّد على منازل عدّة ويستقبل الزوّار.

من أبرز الأماكن التي كان يقصدها، دار عائلة الدكتور وائل خير التي شهدت حلقات نقاش سياسي حول العروبة والشيوعية والاشتراكية والرأسمالية وضمّت مفكّرين يمينيين ويساريين وعروبيين من أبناء المنطقة وزوّار اللواء عمران.

كما تردّد اللواء عمران إلى فندق يوسف رزق من بشعله، وكان فندقًا صغيرًا يضمّ أقلّ من 10 غرف، كان قائمًا بين دوما وبشعله في محلّة صليب بشعله، حيث كان يختلي للكتابة ولقاء بعض أنصاره وضيوفه، الذين كانوا يقيمون فيه عند زيارتهم اللواء عمران. مكث اللواء عمران في دوما حتى مطلع شهر كانون الأول وغادر إلى بيت مري.

لهذا السبب غادر دوما

بحسب ما أخبر لاحقًا أن الشتاء هبط تلك السنة باكرًا ووصل الثلج وما كان معتادًا على طقس كهذا، كما أنّ دوما بعيدة من طرابلس وبيروت والمواصلات إليها صعبة خاصة في الشتاء، فوجد صعوبة في التواصل مع رفاقه وأنصاره واشتكى له زوّاره من مشقّة الطريق فقرّر المغادرة.

ترك اللواء عمران دوما إلى بيت مري وأقام في منزل يملكه رفيقه العلوي السوري. وبقي فيها إلى أواخر شهر آذار من العام 1968، حيث عاد إلى طرابلس وسكن في محلة القبة – ساحة الأميركان بين أفراد عشيرته العلوية، عشيرة الخياطين.

لماذا عاد إلى طرابلس؟

أراد أن يكون إلى جانب الدكتور عبد المجيد الرافعي في معركته الانتخابية النيابية. أيضًا، يبدو أن المخابرات السورية اكتشفت محل إقامته الجديد، وهناك رواية يتذكّرها البعض أنه وصل إلى منزل اللواء عمران في بيت مري ضابط سوري علوي قد يكون الملازم يوسف الخطيب أو ضابط من قبله وأبلغ اللواء عمران أنّ مكانه كُشفَ وعليه السفر أو الاختباء والابتعاد عن الأضواء، فقرّر العودة والإقامة بين عشيرته.

تجدر الإشارة، إلى أنه نهار الجمعة 24 تموز 1981 وفي طريقه من بيروت إلى دمشق، اختفى سليم ابن راجي سليم الصايغ الذي استقبل اللواء عمران في دوما، ولم يعثر على أثر له، وكان يقود سيارة مرسيدس 220 موديل 1980 حمراء اللون، وشوهد آخر مرة في برج حمود قبل دقائق من انطلاقه، ولم يثبت دخوله الأراضي السورية عبر معبر المصنع – جديدة يابوس.

اللواء عمران في البترون

على أثر الانقلاب الذي أطاح بالرئيس السوري أمين الحافظ ووزير دفاعه اللواء محمد عمران سنة 1966 غادر سوريا الكاتب المعروف مطاع صفدي، وطلب اللجوء السياسي إلى لبنان وسكن في طرابلس، وانتقل أواخر العام 1968 إلى البترون وسكن في حي مراح الشيخ في المنزل الذي كان يقيم فيه خليل بك عقل والد النائب سايد عقل.

بعد وصوله إلى البترون، نسج علاقات اجتماعية مع أبناء المدينة، وسجّل أولاده في مدرسة راهبات القلبين الأقدسين وثانوية البترون، وربطته صداقات مع العديد من رجالات البترون من أبرزهم جاره الأقرب اسطفان الشدياق ويوسف مارون مختار البترون في ما بعد.

شكّل منزل مطاع صفدي ملتقى سياسيًا ثقافيًا عروبيًا وزاره العديد من الكتّاب والأدباء والقيادات العروبية، أبرزهم ميشال عفلق مؤسس حزب "البعث" والقيادي البعثي أكرم الحوراني والشاعر نزار قباني: لم يكن مطاع صفدي بعثي الانتماء إنّما كان عروبيًّا. كما كان دائم التردّد مع ضيوفه إلى منزل الخوري طانيوس منعم، الذي شهد وقتها حلقات نقاش سياسي وثقافي.

بعد سكنه في طرابلس، تردّد اللواء عمران إلى منزل مطاع صفدي في البترون، وكان يزوره أكثر من مرة أسبوعيًّا وأحيانًا ينام عنده، وغالبًا ما كان يُشاهد مع قيادات حزبية عروبية ومفكرين في مقهى "شه حلمي". والتقى سفراء بينهم السفير العراقي.

ومن خلال مطاع صفدي تعرّف اللواء عمران إلى العديد من رجالات البترون، الذين زار بعضهم في منازلهم وتناول الطعام عندهم، وكان يوسف مارون أبرز الذين تواصلوا معه ودعاه أكثر من مرة لتناول الطعام، وغالبًا ما جلس اللواء عمران في محل يوسف مارون لبيع الأدوات المنزلية في سوق البترون القديمة.

هناك رواية يتذكّرها البعض في البترون تقول إنه في أحد الأيام كان اللواء عمران جالسًا في محل يوسف مارون قرب الباب، وصودف مرور عامل سوري فعرفه وتفاجأ بوجوده وغادر مسرعًا ليخبر رفاقه، وخلال دقائق تجمهر في الشارع قبالة المحل ما لا يقلّ عن 20 عاملًا سوريًّا معظمهم من الطائفة العلوية. لم يتذكر أحد أنه تكلّم معهم، لكن عند خروجه من المحل وقف العمّال باحترام شديد "تأهّب" وهو يمرّ أمامهم متوجّهًا إلى سيارته، كانت لديه سمات الوقار والهيبة.

هل خطّط لاستلام الحكم مجدّدًا في سوريا؟

في البترون رواية أخرى تقول إنه في إحدى الأمسيات، مازح اللواء عمران المختار يوسف مارون قائلًا: "يا أبو غابي بس إستلم الحكم بسوريا رح عيّنك مدير ناحية".

شهدت بلاد البترون اعتبارًا من النصف الثاني من ستينات القرن المنصرم وبداية الحرب سنة 1975 نشاطًا حزبيًّا يمينيًّا ويساريًّا مهمًا جداً، وكانت الحركة الطالبية في أوج ازدهارها وشكّلت ثانويّتا البترون وتنورين الرسميّتان أهمّ ساحات النضال الحزبي والسياسي.

شارك اللواء عمران في عدة نشاطات فكرية حزبية في البترون، وأكثر من مرة كان يأتي برفقته عدد من المفكرين البعثيين وتناقشوا مع مفكرين يمينيين، وفُتحت حلقات البحث الفكري بين القومية العربية والسورية واللبنانية والفينيقية وبين الرأسمالية والاشتراكية والشيوعية.

من أهم اللقاءات كانت تلك التي عقدها اللواء عمران ومن كان يرافقه مع نائب البترون الدكتور جورج سعاده وعدد من المفكرين الكتائبيين واستضاف بيت "الكتائب" في البترون عمران أكثر من مرة.

هل كان يخاف من الاغتيال؟

كان يقود سيارته إلى البترون ومعه مرافق أو اثنان لا أكثر، ولكن قبل اغتياله بشهر أو اثنين، يبدو أنه أصبح مطمئنًّا أكثر، فبات يأتي إلى البترون معظم الأحيان بمفرده أو مع مرافق واحد في بعض الأوقات، ويعود إلى طرابلس في ساعة متأخرة.

في إحدى المرات قبل اغتياله بأسابيع قال له مطاع صفدي: "يا أبو ناجح صرت عم تتجول بمفردك من دون مرافقين أو معك مرافق واحد وهيدا ما بجوز: ركبت ناضور لباب الشقة عندك؟".

- رد عمران: "لا يا أبو أيمن ما في لزوم".

- "عم تغلط يا أبو ناجح عم تتنقل بمفردك وما ركبت ناضور ما بيجوز: أنا ركبت وما بفتح الباب إلا ما إتأكد من الطارق؟".

لماذا اطمأن اللواء عمران وأصبح يخرج بمفرده؟

هناك رواية غير معروفة كثيرًا، ولم يكتب عنها أحد بعد، يردّدها بعض البعثيين الطرابلسيين القدامى ولا أدّعي أنّني استطعت جمع كل تفاصيلها، ممّن رواها لي وأبرزهم الأستاذ هشام أزمرلي مدير مكتب مؤسس "البعث" ميشال عفلق والأستاذ عاصم شلق المفكر البعثي وهو من راس نحاش البترونية.

تقول الرواية: قبل اغتياله بأشهر قليلة والبعض يقول قبل شهر من الاغتيال زار رفعت الأسد اللواء عمران في طرابلس والتقاه لساعات.

هدف اللقاء:

غير واضح إن كان طلب من عمران العودة إلى سوريا، ولكن المؤكّد أنه طلب منه تهدئة الوضع خصوصًا أن نظام الأسد لم يثبت وضعه بعد.

أما اللواء عمران فطلب من رفعت الأسد، إطلاق سراح القياديين البعثيين الذين انقلب عليهم حافظ الأسد، وهم: صلاح جديد ونور الدين الأتاسي ورفاقهما وكانوا حوالى 24 قياديًّا والسماح لهم بمغادرة سوريا. وإطلاق سراح القيادي البعثي اللبناني محمود بيضون الذي خطفته المخابرات السورية من طرابلس في شباط 1971.

كان رأي اللواء عمران أنه لا يجب أن يتسلّم رئاسة الجمهورية السورية علوي "فنحن أقلية ولن يستتب الحكم وسيبقى القمع وسيسقط الحكم العلوي بالدم ولو بعد سنوات وسنوات".

رفعت الأسد: "لا تهتم لقد حكمنا البلد".

عمران: "أي بلد رح تقدروا تحكموه بمصطفى طلاس وعلي دوبا وشفيق حيدر وشفيق فياض وحكمت الشهابي؟ بعرفهم منيح وبعرف تاريخهم وقدراتهم".

يقول بعض البعثيين إنّ "عمران كان يحتقرهم ويشكك في كفاءتهم".

أيضًا، يروي بعض البعثيين في ما خص العودة إلى سوريا، قال اللواء عمران لرفعت الأسد: "ما بدي كون سليم حاطوم آخر". حاطوم كان ضابطًا سوريًّا، وبعد انقلاب صلاح جديد هرب إلى الأردن، لكنه عاد إلى سوريا خلال حرب حزيران 1967 للمشاركة في قتال إسرائيل فاعتقل على الفور وعُذّب وأُعدم.

ردّ رفعت الأسد: "صلاح جديد من قتل سليم حاطوم والرئيس حافظ الأسد أعاد صرف معاشه التقاعدي لأرملته كما أعاد صرف معاشك التقاعدي الذي تقبضه زوجتك أوّل كلّ شهر".

أيضًا يُروى أن رفعت الأسد طلب من اللواء عمران عدم دعم حملة الدكتور عبد المجيد الرافعي النيابية.

يقول بعض البعثيين الطرابلسيين إن سنوات المنفى، غيّرت اللواء عمران وما عاد مؤمنًا بالحكم العسكري وأصبح مقتنعًا بتسلّم مدنيين الحكم في سوريا بعد إجراء انتخابات حرّة.

هل اطمأنّ اللواء عمران بعد لقاء رفعت الأسد؟

يبدو كذلك، بحيث أصبح يصل إلى البترون بمفرده في غالب الأوقات، ولكن لم يمض وقت حتى اغتيل في 5 آذار 1972 عندما قرعت إحدى السيّدات باب منزله في محلّة القبة، وفتح لها ليعالجه فريق الاغتيال بطلقات عدّة من مسدس كاتم للصوت، أردته على الفور.

أحدث اغتيال اللواء عمران صدمة في البترون وحزن الجميع لمقتله حتى الذين كانوا يخالفونه رأيه السياسي.

أما مطاع صفدي فبقي في البترون حتى مطلع صيف 1975، وعقب اندلاع الحرب غادر إلى بيروت ومنها إلى باريس حيث توفي سنة 2016.

...

* المصدر: جريدة نداء الوطن اللبنانية

اللواء محمد عمران
اللواء محمد عمران



الرئيس أمين الحافظ مع ضيوفه خلال إقامته في قصر المنتزه (طرابلس)
الرئيس أمين الحافظ مع ضيوفه خلال إقامته في قصر المنتزه (طرابلس)


الدكتور عبد المجيد الرافعي
الدكتور عبد المجيد الرافعي


الشيخ يوسف الضاهر
الشيخ يوسف الضاهر


 الكاتب السوري الراحل مطاع صفدي
الكاتب السوري الراحل مطاع صفدي


محمد عمران وحافظ الأسد
محمد عمران وحافظ الأسد


تعليقات: