حبيب صادق: مجاهد من «جبل عامل»


كان قدَر الشاعر والأديب الجنوبي حبيب صادق (1931-2023) أشبه بتلك الورود الرقيقة التي تنبت في الجبال الصعبة وتحمل قلق المنبت والمصير، بين سلطة رجال الدين وسلطة رجال الإقطاع، والسهول التي ينام رأسها عند سهل الخيام بين أحضان الأرض الفلسطينية المغتصبة، وأحزان العامليين بفلاحيهم وكادحيهم وشهدائهم المنسكبة في مآتم النبطية الموصولة بخيط حزنها إلى كربلاء.

بين المشيخة والشعر، شقّ الفتى العاملي طريقه نحو الأدب، ليرث من سلسلة أهله العلماء سلسبيل اللغة وجزالتها، وإحساساً بضرورة قتل الأب بالمعنى الفرويدي: الولد التاسع عشر للمرجع الديني المشهور فقهاً وشعراً وزعامةً الشيخ عبد الحسين صادق من زوجته الثالثة حمله وعيه الطبقي بداهةً نحو الاشتراكية، حاملاً لواء العمّال و«الشغّيلة» والفلاحين الذين كانت أسنان الإقطاع تنهش لحمهم ورغيفهم، وتدفعهم قسراً إلى الهجرة نحو مدينة الذلّ والقهر والحرمان، أو يسقطون كالعصافير في قراهم بنيران الاحتلال يدفنهم في السهل مع الزيتون والبنادق.

كان حبيب صادق في طليعة المجموعة المتمرّدة من أبناء المراجع ورجال الدين التي انطبعت بهذا الديالكتيك بين وعي أممي وشيوعي، ولا وعي شيعي ينتفض على مشيخة الآباء وينهل من الموروث ما يتقاطع مع الثورة الدائمة على الطغيان والمراثي الضاربة في التاريخ للدم الذي ينتصر على السيف.

خاض حبيب صادق غمار العمل السياسي، وكان لا بد من أن يترشّح عام 1972 بدعم من كمال جنبلاط والحزب الشيوعي اللبناني في مواجهة لائحة الإقطاع وينال نسبة عالية من الأصوات.

وكان قد أسس لهذا العمل السياسي على قاعدة ثقافية صلبة، إذ أسهم عام 1964 في تأسيس «المجلس الثقافي للبنان الجنوبي» الذي صار رئيسه منذ عام 1972.

حوّل حبيب صادق المجلس إلى منبر ثلاثي الأبعاد ينحاز أولاً إلى قضية الإنسان الجنوبي وثباته في أرضه في مواجهة آلة القتل الصهيونية منذ تفتّح وعيه على نكبة فلسطين وصولاً إلى تحويل بلدته الخيام أرضاً محروقة في الحرب الأخيرة التي عايش منها فصولاً قبل وفاته.

كما حمل المجلس همّ الوطن الباحث عن الدولة العادلة والقوية في مواجهة الفساد والتبعية والطائفية، وهمّ شباب الوطن المبدعين بتشجيعهم على النشر والمحافظة على التراث الفكري وبالأخصّ الجنوبي، فاحتضن في بداياته تلك العصبة التي حملت أدب الإنسان والمقاومة، وأطلقَ عليهم تسمية «شعراء الجنوب» لأن المجلس احتضن أولى أمسياتهم الشعرية قبل أن يتفرقوا طرائق شتّى.

أما البُعد الثالث وهو الأهم فيتمثل في مقارعة الصهيونية بالعمل الثقافي جزءاً لا يتجزّأ من «المعركة الضارية التي يخوض غمارها أهلنا في الجنوب ولا يقتصر القتال فيها على جبهة واحدة، بل يتجاوزها إلى جبهات عدّة قد تكون الجبهة الثقافية والأيديولوجية واحدةً من أهمّ تلك الجبهات وأخطرها».

اهتم «المجلس الثقافي للبنان الجنوبي» بحفظ التراث العاملي وحمايته من الاندثار، فأشرف صادق شخصياً على طباعة آثار الكثير من الآثار العاملية للأديبة زينب فواز، ومحمد علي الحوماني، وعارف الحرّ، وأحمد رضا، ومحمد جابر آل صفا، وعبد المطّلب الأمين وفؤاد جرداق والمؤرخ حسن الأمين...

بعد حياة حافلة بالنضال والثقافة، ترك حبيب صادق لنا روحه الحساسة والمقاومة في مؤلفاته التي تناوبت على الشعر والفكر والسياسة مثل «وحدة القلوب» و«حوار الأيام» و«في وادي الوطن» و«فصول لم تتمّ» وغيرها.

في الذكرى الثانية لرحيله، يرد «المجلس الثقافي للبنان الجنوبي» الدَين لمؤسسه عبر كتاب «حبيب صادق: شهادات ومرثيات» (إعداد زهير الدبس وكامل جابر) يجمع ما كتبته كوكبة من الأدباء اللبنانيين في الشاعر الذي ترك الأرض العاملية «في الفجر أتاها الموت اشتعلت مسكبة التبغِ/ تهاوت حنجرة العصفور»، لكنها وهي تدفن طيرها المذبوح، تشدّ على الجرح وتنتصب.

* في مناسبة الذكرى الثانية لغيابه، ينظم «المجلس الثقافي للبنان الجنوبي» مهرجاناً تكريمياً للأديب الراحل حبيب صادق في «قاعة بيار أبو خاطر» (الجامعة اليسوعية، طريق الشام ـ بيروت) يوم الثلاثاء 6 تموز (الساعة السادسة عصراً).


تعليقات: