البقاع ــ
مع إشراقة شمس كل صباح تشرينيّ، يشمّر أهالي بلدة قصرنبا البقاعية عن زنودهم، ينسّقون في ما بينهم ويتعاونون لـ«نصب» المواقد التي ستحتضن «عرقيات»، وهو الاسم الذي يطلقونه على «دسوت» العنب الضخمة، والخاصة بإعداد وتحضير «الدبس». دبس العنب، الذي تشتهر به تلك البلدة البقاعية، يعدّ بالنسبة إلى بعض أهاليها بمثابة مؤونة شتائية لا يستغنى عنها، بينما تشكل بالنسبة إلى بعضهم الآخر مورد رزق، يرفع بعضاً من الأعباء المعيشية المتراكمة على كاهلهم.
فقصرنبا البقاعية هي البلدة الزراعية ـــ الصناعية التي ينفرد أهلها حالياً بصناعة «دبس العنب» وفقاً للطريقة التقليدية. لا يحتكر هؤلاء الأهالي صناعة دبس العنب الرائجة في تراث لبنان الغذائي، إلا أن ميزتهم تكمن في اتّباعهم أصول الصناعة الغذائية التي وضعها الأجداد منذ أكثر من قرن. فعلى الرغم من مشقة التحضير المتوارثة التي تتعارض مع حداثة العيش ومع وجود مصنع حديث وكبير في البلدة، متوفّر بكامل جهوزيته لتصنيع الدبس وسائر المنتجات الزراعية، إلا أن أهالي قصرنبا آثروا البقاء «أوفياء للتراث الذي تركه لهم أجدادهم»، وفضّلوا الطريقة التقليدية «وعذابها»، لأنها تتميز «بنكهة تراثية ريفية فيها رائحة الأجداد». بهذه الجمل البسيطة عبرت الحاجة فاطمة الديراني، وهي في الثالثة والثمانين من عمرها، عن تمسك 60% من أهالي قصرنبا بتحضير الدبس، فيما تخلى سكان العديد من القرى البقاعية عن ذلك، ما خلا عدداً قليلاً جداً منهم في تمنين، معتبرة أن الفرق الوحيد في التحضير بين الأيام الخوالي وأيامنا الحالية، هو «خلوّ البلدة من معصرة للعنب، حيث يلجأ الأهالي حالياً إلى عصره بمغاطس كبيرة أو في صناديق الجرارات الزراعية».
يتطلب تحضير الدبس في مرحلتيه «التسليقة» في اليوم الأول و«التدبيس» في اليوم الثاني ورشة عمل حقيقية، تشرحها الديراني، وهي صاحبة الباع الطويل في تحضير الدبس والخل وماء الورد والزهر والجلاب، فتقول: «إن عنب «العبيدي» هو الأشهر للدبس، تعمل العائلات على قطافه ووضعه في أكياس من الخيش، يضاف إليها تراب أبيض من نوع «الحوّار» (لمنعه من التعكير وليبقى عصيره صافياً)، ومن ثم يوضع في مغطس كبير أو في صندوق الجرار الزراعي، لتبدأ من بعدها عملية «دعسه» بالأرجل بغية عصره. يوضع العصير الذي ينتج من هذه العملية في دلاء ومن ثم في عرقية كبيرة على النار، يسخّن لمدة تتراوح بين ساعتين إلى ثلاث ساعات فقط، يوضع أخيراً، بعدها، في براميل بلاستيكية. وبذلك تنتهي مرحلة التسليقة في اليوم الأول.
وتلفت الديراني إلى أن الدبس في هذه المرحلة «لا يجوز تناوله لأنه حرام شرعاً لكونه أصبح في هذه الحالة من نوع النبيذ».
أما المرحلة الثانية، أي «التدبيس»، فهي تبدأ في اليوم التالي، حيث يرفع عصير العنب فقط من دون التراب والبذور التي تكون راكدة في الأسفل، يعاد إلى العرقية الضخمة، ويوضع على النار لمدة تزيد على سبع ساعات، تنتهي على إثرها رحلة الدبس في الخوابي حيث يخزّن تمهيداً لفصل الشتاء البارد. وتشير الديراني إلى أن «حوالى 300 كيلو من العنب تنتج ما يقارب الـ50 كيلو من الدبس، فيها الغذاء الصحي والطبيعي».
ولعل أطيب طبق شتائي يبعث الدفء في قصرنبا، هو «تغميس» خبز التنور بطبق «البأسمة»، الذي يتكون من الدبس مضافاً إليه الثلج من جرود البلدة، إلا أن «الأطيب» من ذلك كله، هو رائحة الدبس نفسه. فهي ليست رائحة عنب فحسب، بل هي رائحة إرث حضاري يستعيد أجواء الألفة والتعاون الريفية الثمينة.
بكرا التدبيس، شرّفونا...
«بكرا بدنا ندبّس شرّفونا»، يقول المزارع من قصرنبا، قاسم السيد أحمد لأبناء عمه وعدد من أقاربه. فجلسة تحضير الدبس «طويلة وتتطلب مشقة وجهداً لأكثر من 7 ساعات غلي على النار»، لذلك لا ينبغي أن تخلو «القعدة» من حفلة شواء للبطاطا واللحم ولمساحة من الأحاديث والنكات». تشكّل هذه السهرات عزاء المزارعين، الذين يرون أن دبس العنب «تعبو أكتر من سعرو»، كما يقول السيد أحمد، إذ يتراوح ثمنه بين خمسة آلاف وعشرة آلاف ليرة للكيلو، ما يضرّ بالكثير من العائلات التي تعتبره «مورد رزق لها من خلال بيعه للبيروتيين وللمغتربين»، وخصوصاً أن أسعار العنب الزهيدة لهذا العام، التي تدنّت إلى حدّ 300 ليرة للكيلو دفعت أصحاب بعض الكروم إلى تخصيص جزء كبير من الدوالي للدبس».
تعليقات: