صَبُّ الأموال قبل الإسمنت: إعادة إعمار السلطة أو البيوت؟

غارة إسرائيلية على الضاحية الجنوبية لبيروت - إعادة الإعمار ليست مجرد صب للإسمنت وتشييد للمنازل (getty)
غارة إسرائيلية على الضاحية الجنوبية لبيروت - إعادة الإعمار ليست مجرد صب للإسمنت وتشييد للمنازل (getty)


تمهّد السلطة السياسية لإصلاحاتها المفترض بها إثبات حسن نواياها تجاه المجتمع الدولي واللبنانيين. على أنّ استرضاء الخارج يستحوذ على الأولوية، بسبب الحاجة إلى التمويل من أجل إطلاق عملية إعادة الإعمار. على أنّ استرضاء الخارج يأتي حتّى اللحظة على حساب الداخل، لا سيّما فيما يتعلّق بالرواتب. وفي مؤسسات الدولة وإداراتها، تؤسّس السلطة لفجوة عميقة بين مؤسسة وأخرى، وبين الموظّفين داخل المؤسسة الواحدة. فهل لعملية إعادة الإعمار أن تستقيم وسط الفجوات؟


موظفون محظيون

لم يكد موظّفو المؤسسات والإدارات العامة ينسون الرواتب الخيالية لأعضاء الهيئة الناظمة لقطاع الاتصالات، مقارنة برواتب باقي مدراء وموظّفي القطاع العام (راجع المدن) حتّى قرّر مجلس الوزراء "الموافقة على مشروع مرسوم يرمي إلى تعديل المادة الأولى من المرسوم رقم 10943 تاريخ 13/9/2003 (تحديد مخصصات رئيس وأعضاء مجلس إدارة مجلس الإنماء والإعمار) لجهة تعديل المخصصات الشهرية لرئيس وأعضاء مجلس الإنماء والإعمار".

وبحسب التعديل المُقرّ بتاريخ 16/6/2025 "سيتقاضى رئيس المجلس 805 ملايين و500 ألف ليرة، والعضو المتفرّغ 626 مليوناً و500 ألف ليرة، والعضو غير المتفرّغ 134 مليوناً و250 ألف ليرة. على أن تشمل المخصصات المذكورة آنفاً، الإضافات التي أعطيت لرؤساء ولأعضاء مجالس إدارة المؤسسات العامة بموجب المرسوم رقم 14352 تاريخ 5/12/2024". وبالاستناد إلى سعر الصرف المعتمد رسمياً عند مستوى 89500 ليرة، فإنّ رئيس المجلس سيتقاضى بالليرة ما يساوي 9000 دولار، والعضو المتفرّغ 7000 دولار، والعضو غير المتفرّغ 1500 دولار.

علماً أنّ هذه الزيادة تطبَّق على أعضاء إدارة مجلس الجنوب أيضاً وذلك بموجب قرار مجلس الوزراء في الجلسة المنعقدة بتاريخ 3/6/2004، والتي تقرر فيها أنّه "تطبَّق الأسس المتعلّقة بتحديد تعويضات رئيس وأعضاء مجلس إدارة مجلس الإنماء والإعمار على مجلس إدارة مجلس الجنوب".

الرواتب الخيالية مقارنة بما يُعطى لموظفي الإدارات العامة، تأتي تحت مظلّة الإصلاح. فإذا كانت الهيئة الناظمة للاتصالات خطوة من خطوات إصلاح القطاع، فإنّ البنك الدولي حثّ السلطة على إجراء تعيينات في مجلس الإنماء والإعمار، وذلك خلال اجتماعات الربيع الماضي في واشنطن، والتي شارك فيها لبنان لتأكيد التزامه بالإصلاح.

على أنّ البنك الدولي، قَصَدَ التأكيد على القطيعة مع الماضي، لا إجراء تعديلات سطحية تطال بعض الأسماء، فيما تبقى نظرة السلطة نحو مؤسسات الدولة، على حالها، أي بوصفها آلية للتنفيعات والتحاصص، وهو ما جرى من خلال الرواتب التي تنسحب حكماً على رواتب إدارة مجلس الجنوب الذي يتولّى جانباً من عملية إعادة الإعمار.

وهذا التمييز ليس مستجداً، إذ "دائماً ما كان موظّفو مجلس الإنماء والإعمار، يتميّزون عن باقي موظفي الدولة، انطلاقاً من المهام الموكلة للموظفين وللمجلس تجاه الخدمات العامة والبنية التحتية"، وفق ما تقوله مصادر مواكبة لعمل المجلس، والتي تشير في حديث لـ"المدن" إلى أنّ هذا التمييز نابعٌ من أنّ "المهندسين الذين يؤتى بهم إلى المجلس، هم أشخاص ذوو دراسة وخبرة كبيرتين في الخارج، ومهامهم الموكلة إليهم من قِبَل الدولة كبيرة، وبالتالي، يحتاجون رواتب مرتفعة جداً. لكن مع الوقت، بات أداء هؤلاء كأداء باقي الموظفين في مختلف الإدارات والمؤسسات".


صبّ الإسمنت

لا يشكّ أحد بأنّ إعادة إعمار ما هدمته الهمجية الإسرائيلية في عدوانها الأخير على لبنان، لن يكون سهلاً. فرئيس الحكومة نواف سلام قال "نحن لا ندّعي أنّ الطريق سهل، ولا نزعم أن التحديات أصبحت خلفنا". فعملية إعادة الإعمار "ليست مسألة هندسية أو مالية فحسب، بل هي أيضاً عملية سياسية واقتصادية واجتماعية تهدف إلى تثبيت الناس في أرضهم، واستعادة ما دمّرته الحرب من ثقة، وبُنى، وكرامة"، ولذلك، كان لا بدّ، بالنسبة للمصادر، أن يكون هناك تأنٍّ في التحضير لعملية إعادة الإعمار، ومن ضمنها تجهيز مجلس الإنماء والإعمار ومجلس الجنوب وفق أسس شفّافة. والشفافية إحدى ركائز إصلاح المؤسسات العامة التي اعتبر سلام أنها "ليست مجرّد بند إداري، بل ركيزة أساسية للنهوض الوطني".

وإصلاح المؤسسات تمهيداً للنهوض، لا يكون بتعميق الفجوات داخلها وبينها، لأنّ مهمّة إعادة الإعمار الموكلة للمؤسسات العامة ليست عبارة عن مجرّد صبّ للإسمنت وتشييد للمنازل بل تعني بنظر المصادر "إجراء تنظيم وتخطيط للقرى الحدودية، وإعادة تنظيم المساحات العامة وإنجاز عمليات الضم والفرز وتأهيل شبكات النقل والصرف الصحي وإعادة تأهيل المؤسسات الصحية والتربوية... وغيرها. وكل ذلك يحتاج تخطيطاً وليس على شاكلة ما يُدفَع من مبالغ مالية أشبه بتنفيعات تشي بأنّ المجالس تقوم بعملها، خصوصاً بما يتعلّق بمجلس الجنوب".

إعادة الإعمار بالطريقة التقليدية التي يتمّ التحضير لاستنساخها كالتجارب السابقة، هي انعكاس لما يحصل الآن من صبّ للأموال في الجيوب قبل صبّ الإسمنت في الجنوب وباقي المناطق. والأمر ليس بغريبٍ على سلطة سياسية امتهنت هذا الأسلوب. وبرأي المصادر "هذه السلطة تسارع إلى التفكير بكيفية توزيع التمويل الخارجي لتعيد تعويم نفسها وإنتاج زبائنيّتها. ومبلغ 250 مليون دولار المنتظر من البنك الدولي، سيُوَزَّع وفق هذا المنطق، أي بعض مشاريع البنى التحتية التقليدية، وبعض المبالغ تُعطى للناس، وانتهى الأمر".


ظلم داخل المنزل الواحد

لا تنحصر المشكلة في تمييز إدارة مجلسَي الإنماء والإعمار والجنوب عن باقي إدارات المؤسسات الأخرى، بل تنسحب إلى التمييز داخل البيت الواحد "فكيف سيكون أداء موظفي المجلسَين في ظل التفاوت الهائل في الرواتب؟". كما لفتت المصادر النظر إلى أنّ "التمايُز في دفع المال لكبار الإداريين، كان يجب أن يصحبه تمايُز في تسريع عملية تعيين الموظّفين في مجلس الإنماء والإعمار، فالشغور كبير ويصل إلى حدّ وجود نحو 17 مهندساً في الملاك من أصل 80 مهندساً. فضلاً عن عدم التزام الموظفين بالدوام الرسمي، لا لجهة أيام الحضور ولا ساعات العمل، وهي كلّها معوّقات تؤثّر سلباً على تخطيط وتنفيذ إعادة الإعمار".

رسالة السلطة السياسية للداخل والخارج يجب أن تكون الاستعداد لبناء مؤسسات عامة تواكب تحديات إعادة الإعمار، لا إعادة ترميم منطق الزبائنية الذي سينسحب إلى باقي الإدارات والمؤسسات كلّما توفّر المال الكافي لترميمه عبر التنفيعات "فهذا النظام السياسي لن يسمح لمئات ملايين أو مليارات دولارات إعادة الإعمار بالدخول إلى لبنان، من دون تحاصصها".

تعليقات: