الدكتورة مي عبدالله: كلامي نابع من خوف حقيقي على مستقبل بلدي وأبنائه
في لحظة لبنانية شديدة التعقيد، وبين هدير النار في الجنوب وحراك العواصم الإقليمية والدولية، ظهر الموفد الأميركي توماس براك حاملاً ما سماه «فرصة تاريخية» لتسوية النزاع، متحدثًا بنبرة ودية عن إعادة الإعمار والاستقرار و«الهندسة الجديدة» للعلاقات اللبنانية. بدا خطابه في العلن كأنه مفتاح سلام طال انتظاره، غير أنني — وبكل صراحة — أرى فيه فخًا سياسياً تقليديًا، تعوّدت واشنطن نصبه للبنان وأهله منذ عقود.
باراك، الذي أثنى على «عقلانية» الرد اللبناني لكنه تحفظ قبل الاطلاع على الصفحات السبع المفصلة، بدا كمن يزرع طمأنة مخدّرة. يقول إنه لن يتدخل في سلاح المقاومة، ولن يفرض حلولًا على اللبنانيين، بل سيدعم خيارهم. صدقوني، هذه اللغة الناعمة نعرفها جيدًا وخبرناها، حيث تُقال كلمات السلام في العلن، ويُحضّر العنف في الخفاء.
إنني أتحدث هنا عن تجربة مراقبة طويلة لهذا الملف. كم مرة سمعنا: «الفرصة التاريخية»، ثم اكتشفنا أن الثمن الحقيقي هو نزع قوتنا وسلاحنا وكرامتنا؟
هذا النمط من التفاوض هو تمامًا ما درج عليه الرئيس ترامب وفريقه:
* عرض مغرٍ ظاهريًا
* ثم حصار خبيث بالتفاصيل
* ثم في اللحظة التي يطمئن فيها الطرف المقابل، يطالبونه بالمزيد — ويطالبونه بنزع أسلحته تحت عنوان السلم الأهلي والدولة الواحدة.
لا تنسوا أن تصريحات باراك التي وصفت «إسرائيل» بأنها شريك سلام محترم، تتجاهل كيف تستيقظ أطفالنا على أصوات الغارات والقذائف. وكيف تستهدف شبابنا وقرانا كل يوم من قبل هذا "الشريك المحترم" المزعوم. فهل نُسقط كل هذا من ذاكرتنا بمجرد ابتسامة دبلوماسية عابرة.
باختصار؟ إنها خدعة.
لماذا لا نصدق وداعة واشنطن؟ شواهد من الذاكرة السياسية:
يؤلمني شخصيًا أن البعض ما زال يعتقد أن الأميركي قد تغيّر. التاريخ أمامنا، لا يحتاج إلى بحث طويل. في فلسطين، هل من يجهل كيف تحوّلت أوسلو إلى قيد طويل الأمد؟ في إيران، حين عرضوا تخفيف العقوبات مقابل «اتفاق أفضل»، سرعان ما شدّدوا الخناق حين لم تنصع طهران بالكامل. في كوريا الشمالية، كم كان مشهد المصافحات مثيرًا، ثم تبعته مناورات عسكرية على أعتاب حدودها (BBC, 2019).
لبنان ليس معزولًا عن هذه النماذج، بل هو بالضبط ساحة اختبار لهذه المدرسة السياسية الأميركية التي تبيعك الأمل، وتخفي لك الغدر.
إن ما يطرحه براك هو نسخة منقحة لهذا السيناريو:
* يعطيك طمأنة مبدئية
* يطلب انخراطك في التفاصيل
* ثم يقايضك على قوتك شيئًا فشيئًا
* وإن رفضت، يصبح لك تهمة: معطل للسلام
هذه لعبة مفضوحة، والله يشهد أننا رأيناها تتكرر أكثر من مرة.
الخاتمة
ربما يبدو كلامي قاسيًا، لكنه نابع من خوف حقيقي على مستقبل بلدي وأبنائه. لا شيء أخطر على لبنان من وداعة باراك، ولا شيء أخطر على المقاومة من تسويق طُعم سلام بلا عدالة ولا ضمانات.
أكتفي بهذا القدر، وأترك الباقي للعقول الحرة، التي تعرف أن الأميركي حين يتحدث عن التهدئة، غالبًا يكون يُحضر لحرب.
د مي حسين عبدالله
تعليقات: