ليس من عادتي الكتابة عن المعارض الفنية التي تُقام في بلدنا، لسبب بسيط: أنني لا أمارس “لعبة” النقد كعمل صحفيّ يتناول نقاط الضعف في الأعمال الفنية، كما يعمد النقاد في هذا الوطن. بل إن معظم كتاباتي تدور حول التجارب الفنية الغربية، من مدارسها إلى أبرز ممثّليها من الفنانين، تجارب تستحق الإضاءة والبحث في متونها وساحاتها وفضاءاتها.
إلا أن الكتابة عن الزميل الدكتور عادل قديح، ابن مدينة النبطية، يفرض نفسه لأسباب كثيرة، أختصرها في هذه المقالة.
قديح صاحب تجربة فنية غنية ومتنوعة، تنبض بإيقاع يحرك تلك العملية الخلّاقة والسحرية التي طالما بحث فيها المفكرون عبر التاريخ لفهم أبعادها وأسرارها؛ نعني بذلك عملية الإبداع الفني.
في زخم المعارض الفنية التي تشهدها بيروت، يقيم الفنان التشكيلي الدكتور عادل قديح معرضًا جديدًا لأعماله في غاليري Escape في الأشرفية.
قديح فنان مخضرم، درس الفن التشكيلي في بيروت وباريس، وأستاذ جامعي سابق، وباحث في الفنون التشكيلية، وله مؤلفات ومقالات كثيرة حول الفن العربي والفنون الإسلامية. هو عضو في جمعية الفنانين اللبنانيين للرسم والنحت، وقد ترأسها سابقًا، وعضو في جماعة “تجارب حديثة” التي كان لها حضورها البارز على الساحة الفنية اللبنانية في تسعينيات القرن الماضي.
نذكر من أعمال هذه الجماعة الجدارية الشهيرة “الذاكرة المفتوحة” بمساحة عشرين مترًا مربعًا، إضافة إلى معارض وندوات فنية مشتركة. (أعضاؤها: عادل قديح، فوزي بعلبكي، صونيا الرضي، محمد عوالي، إلياس ديب، وكاتب هذه السطور).
أقام قديح نحو عشرين معرضًا فرديًّا، وشارك في معارض ونشاطات فنية متعددة داخل لبنان وخارجه.
هو فنان وباحث في المجالين العلمي والنظري، يحاول دائمًا أن يطرح الجديد والمثير. بخلاف كثير من الفنانين الذين يكتفون بمحطة فنية واحدة أو أسلوب متكرر بدافع الربح والكسب المادي، فإن قديح يغوص دائمًا في هذا اليمّ لاستخراج الكنوز المخبّأة في أعماقه.
أليس هذا هو دأب الكبار من الفنانين الجادّين: أمثال فاسيلي كاندنسكي، إيف كلاين، دايفد هوكني، بيات موندريان، بابلو بيكاسو، هنري ماتيس، وفرنان ليجيه، وغيرهم الكثير ممن سعوا للوصول إلى الأسمى في الفن؟
عندما تدخل إلى معرض قديح المعلّقة أعماله على جدران غاليري Escape، تجد نفسك مشدودًا بقوة نحو اللوحات. تحتار أيّها تحاكي، وأيّها تناغي، وتكحّل عينيك وفكرك بما تحمله من شحنة جمالية ودلالية.
تحسّ الجنّة تحيط بك بسحر الألوان وعطر الرؤية وهيام التفاصيل.
أعماله تُزاوج بين الشرق والغرب، فتُنتج مولودًا عابقًا بالحركة، والطرب، والهدوء، والاطمئنان، والانتماء، والحب. نرى في أعماله سحر الشرق وزخرفته وعظمة الفن الإسلامي وأناقته وروعته، تتصاهر مع حرية مارك شاغال بحرّيّتها وانتمائها الديني الإنساني، وتتراقص عناصر اللوحة في فضائها كأنها موسيقى مرئية.
نرى نساء مودلياني الإيطالي المستطيلة، وسحر ماتيس الفرنسي يعانق منمنمات الواسطيّ، فتُمحى الأزمنة والقرون والمحطات، وتغيب ساعة الزمن، بل يتوقف العدّ التاريخيّ.
نرى الفصول متعانقة، ونرى ألوان الشرق ودفأها التي تشبه الشمس حضورًا مطعمة ببرودة الغرب، فتنتج حركة لولبية تمتد في جميع الاتجاهات، يحدّ منها سكون وهدوء بعض الأمكنة.
التأليف حلزوني، والطائر يراقب صخب العالم الذي نعيشه عن بُعد: مجون، عبث، فرح، وضياع.
نرى تفاحة حواء، مركز الشهوة والخطيئة، تجذب الأرواح كما تجذب الفراشة إلى الضوء.
النساء يتراقصن حول الوردة كعقارب ساعة لا تكفّ عن الدوران، معلنة نشوة الحياة.
نرى العين الساهرة التي لا يهتز لها جفن، تراقب طفح الخلق وحراكه كأمٍّ تسهر على فلذات كبدها حتى ينضجوا.
السمكة، القطة، حمامة السلام… جميعها رموز تختزن الحب، والحنين، والسياسة، والحرب، والوجود، والعائلة التي تنتظر الغائب.
في اللوحات، يعيش الإنسان والحيوان مصيرًا واحدًا مشتركًا في تناغم حنون.
أما التفاصيل، فهي مرسومة بدقة متناهية، تتطلب صبرًا وتأنيًا وبرودة أعصاب.
قدّم لنا عادل قديح منمنمات حديثة تُحاكي العصر الذي نحياه فنيًّا وفكريًّا، وهذا إنجاز يُسجَّل له.
لكن، هل أراد قديح من خلال أعماله أن يُشير إلى ما يُسمّى “الهويّة الفنيّة” عبر لجوئه إلى المنمنمات والزخرفة، كأنّه يعزف سلّمًا موسيقيًّا في زمن تلاشت فيه الهويّات القوميّة تحت تأثير العولمة والقرية الكونية؟
لا أعتقد ذلك، لأن الفنان يعي هذا الواقع جيدًا. لكن المؤكد أن هويته الفرديّة تطرح نفسها بقوّة في أعماله، حيث منح الأرابيسك روحًا معاصرة وهوية جديدة تُعلِن وجودنا الفني.
استخدم قديح التعبيريّة التجريديّة المُحدَثة، كما يصرّح في كاتالوغ المعرض، حيث تحضر الأجساد المقلوبة لشخصيات بازيليتز الألماني، حتى ليُخيَّل إلينا أحيانًا أنها تشبه أوراق “الكوتشينا” للتسلية حيث الرأس والجسد منقلبان. أليس الفن، كما قال هنري ماتيس، راحة للإنسان المُتعب؟
اختار الفنان تقنيات بسيطة كالأقلام والأحبار التي رافقته في حلّه وترحاله، فغدا كابن بطوطة “الفنيّ”، وأدخل تقنيّة الأكريليك الطاغية في حاضرنا.
وكان للعُري حضورٌ محبّب في بعض الأعمال، كأنها تقول: “إنّ المكان الذي لا يُؤنّث، لا يُعوَّل عليه”.
المرأة حاضرة بقوّة في أعمال قديح، بل طاغية، ما منح اللوحات نكهة خاصة، وأنوثة نحتاجها في حياتنا، أيًّا كان اتجاهنا.
وبلغة السيميولوجيا، نرى كمًّا هائلًا من العلامات والرموز، وما ينتج عن هذه العلامات من دوال ومدلولات (وجهي العلامة)، اللذين، بدورهما، يلدان شحنًا من الدلالات الناتجة عن اتحادهما.
غياب الملامح عن بعض الوجوه ألغى بُعدها النفسي بسبب غياب التغييرات، لا سيما العيون، فبدت تلك الوجوه كأنها تشبهنا في بعض لحظات حياتنا المتعبة.
يحلم الفنان كثيرًا عبر أعماله وعناوينها. أليس هنا تكمن روح الفنانين؟ في أن نحوّل الحلم إلى حقيقة في أعمالنا. كما قال فان غوغ: “الفن أن تعيد خلق الواقع بأحلامك”.
لا مكان للفراغ في لوحات قديح، على غرار الفن الإسلامي الذي يخشاه المسلم. لكنه هنا لا يُقصيه خشيةً، بل رفضًا لوجوده، مستعيضًا عنه بمساحات ملوّنة تدعونا إلى المكوث في ربوعها والتأمل والراحة.
في هذا المعرض، ثنائيات واضحة تمنح اللوحات توازنًا مدهشًا:
الفاتح والغامق، الحار والبارد، الجمالي والدلالي، الرجل والمرأة، الإنسان والحيوان، الأعلى والأسفل، اليمين واليسار، الطفل والبالغ، الفن الشرقي والفن الغربي، الطبيعة والأبنية…
حتى أوراق الأشجار حضرت كعنصر زخرفي يشير إلى جمال الطبيعة وهوائها ورونقها وألوانها المختلفة.
وباختصار، نقول إن لعبة الدلاليّ والجماليّ حاضرة بامتياز في أعمال قديح:
الجمالي يتجلّى في تنوّع الألوان وتدرجاتها وغامقها وفاتحها، التي توازي في حضورها لعبة الخط، من دون طغيان لأحدهما على الآخر، بالإضافة إلى الغنى الشكليّ المنوّع.
أما الدلالي، فيظهر في الموضوعات والعناوين والعناصر والقصص، خصوصًا في اللوحات الصغيرة.
هذا التوازن هو ما يُغني العمل الفني، وهو ليس أمرًا شائعًا لدى كل الفنانين.
شكرًا، عادل قديح، على هذه المُرسلة التشكيلية اللافتة والجميلة، في حضن عاصمتنا، بيروت.
نختم بقول فان غوغ:
“وطنك تصنعه بنفسك. كلّما رسمتَ جيدًا، حصلتَ على وطن جديد.”
ويضيف:
“لقد سحقتنا الحروب، وأسعفتنا الفنون”.
(معرض عادل قديح- غاليري Escape بيروت- الأشرفيّة- 15 أيار- 13 حزيران 2025)
* المصدر: مجلة البعد الخامس
تعليقات: