موسم الهجرة من الضاحية: البيت هو العالم

مقهى في الضاحية الجنوبية - من غرائب الأمور ورذائلها أن يكون الانتصار واقعة جهنمية (Getty)
مقهى في الضاحية الجنوبية - من غرائب الأمور ورذائلها أن يكون الانتصار واقعة جهنمية (Getty)


لا أظن أن الأمين العام السابق لحزب الله، حسن نصرالله، عندما دعا أهل الضاحية الجنوبية إلى الزرع على "البلاكين" (الشرفات)، كان يتوقع في يوم من الأيام أن تستبدّ بأهل الضاحية، أو بغالبيتهم، أو ببعضهم على الأقل، رغبة عارمة بترك الضاحية والعيش في أماكن أخرى. كان ذلك في أحد مقاهي الضاحية، حيث الحديث بجله يدور حول هذه النقطة بالذات، أثناء مجالستي هناك لبعض الأصدقاء. "ما بقى بينعاش هون"، هي العبارة التي تراها محل تردد فوق الألسنة وداخل القلوب ونظرات العيون وبمفردات شتى... إنه موسم الهجرة من الضاحية الجنوبية لمدينة بيروت.

إن الكثير من الجمل والعبارات، وبصرف النظر عن وجاهة قائلها، لا ترتبط بالواقع العيني للأمور، شأن عبارة نصرالله حول الزراعة على "البلاكين"! والتي تستبطن دعوة أهل الضاحية للبقاء هناك. "إيه والله، معك حق"، ردّ واحد من الشبان، وكانت كلماته تختال بين سحب دخان "الأرغيلة" المتصاعدة بقوة من بين شفتيه.


الفجيعة وسياسات الذاكرة

في كتابه "التاريخ المفروض"، والذي صدر مؤخراً بالعربية عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، يصرّ المؤرّخ الفرنسي هنري لورنس على اعتبار الموسيقى والمسرح والأدب والسينما وغيرها من ضروب الفنون كمحفزات هائلة للذاكرة، إلا أن معايشة أجواء الضاحية اليوم ومجالسة ناسها في المقاهي أو عند "اكسبرسات" الأرصفة والطرقات، يسوق المرء إلى إيلاء الفجيعة المصرّح بها أو المكتومة بشكل خاص، الدور الأكبر في رسم سياسات الذاكرة. من النافل أن ذاكرة أهل الضاحية لا تقتات بالمرة على الموسيقى أو المسرح أو دور السينما واللقاءات الأدبية بالإجمال، إنما تقتات على التهيؤ للحرب ثم التهيؤ للحرب المقبلة، فضلاً عن خطابات النصر وما يحايث هذه الخطابات من فوق وتحت، ومن قيل وقال، ومن غموض وآمال وتاريخ مشتهى، وما شاء ربّك من صدح وهمس. وعلى كل حال ربما النجاة من الموت بسبب صاروخ من هنا أو مسيرة من هناك يقع في باب الفنون، ربما "الزميطة" من أن يتحول المرء داخل بيته لأشلاء هو بدوره فن يجب على ابن الضاحية اتقانه...

ليس السكن في الضاحية واقعة مجردة عن ترقّب الحرب في كل آن، وقد اختُزلت كل توجهات ساكنيها بالحس الأمني، بحكم الأمر الواقع الذي يداخل تفاصيلها السرية والعلنية، في هوية واحدة هي هوية المحارب، أو وبعبارات أهل الضاحية وقوى الأمر الواقع هناك، هوية "المقاوم" إلى أبد الدهر، حيث البيوت مجرد متاريس هشة، وحيث العمارات هي في بعدها الأعمق خنادق متطاولة، وحيث الطرقات هي شعاب معقدة المسالك عندما يستجدّ ما يؤدي إلى الفرار، إلى النجاة ما كان إلى ذلك سبيلاً.. "ما بتعرف بأي لحظة بينزل الصاروخ على بنايتك"، كما قال أحد الأصدقاء بنبرة تتراوح بين المزاح والسخرية والرغبة بالخروج.


أقنعة النصر والصمود

إن الإنحياز إلى محض خطاب واحد، إلى محض سردية واحدة غالباً ما تغلّف بتصور واحد كل جغرافيا هذا الخطاب وكل جغرافيا هذه السردية. إن المكان في هذه السياق هو عينه الخطاب، هو السردية. وثمة انجدال عندئذ بين المكان وكلماته الضاجة الصاخبة والدائمة التواتر والتكرار -وبالنسبة للضاحية- إلى حد الهلاك.

فأن يسعى إبن الضاحية الجنوبية لبيروت إلى مغادرة الضاحية والإنتقال إلى مكان آخر يستبطن بالسر وبالعلن وبتلك المسافة التي تقع بينهما تصوراً عن الضاحية، مفاده أن هذا الحيّز الجغرافي هو مجرد جبهة قتال، مستودع صواريخ، ساحة معركة وقبر يمتدّ لمساحات لا حدود لها... "يا خيي بدنا نعيش بقى"، وكأني بهذه العبارة دعوة للفتك بتلك التصورات عن الضاحية -والمذكورة أعلاه- وأيضاً دعوة لعدم اختزال الجسد إلى مجرد جثة مؤجلة، واختزال البيت إلى مجرد حطام مقبل، بصرف النظر عن الوقوف فوق هذا الحطام ورفع شارات النصر، التي قد ضلّت طريقها. تلك الشارات المسكينة والمعدومة البوصلة والإتجاهات... "بتطلع ساكن فوق مستودع صواريخ وما معك علم"... أردف واحد من الأصدقاء لينهي عبارته بـ: "عفنا الله"!

لست أدري من كتب أن النهايات غالباً ما تستدعي بدايات جديدة. ولعل ذلك الميل المتزايد بقوة لمغادرة الضاحية من قبل عديد قاطنيها، هو استدعاء لبداية جديدة يرغب أهل الضاحية بها إلى حد كبير، وإن لم يصرحوا بالأمر جهارة "وشو بدّي بحكي مسؤولي الحزب"، على حدّ قول واحد من أصدقاء تلك القعدة الصريحة. فكل أقنعة النصر والصمود والقبضات المرفوعة تراها محل تهاو وسقوط لدى معاينة الخراب، ولدى معايشة القلق اليومي من الحرب التالية. ولا يفيد في هذا الصدد ذلك التشبّث الأجوف بهشاشة تلك الأقنعة. إن الحس السليم للبشر بأي مكان في العالم يرى أن البيت هو كنف وواحة لاستجلاء كل سبل الأمان والسكون والطمأنينة. لكنه فيض من الخوف والقلق وانشغال البال عندما يكون مجرّد جدران وسقف، هي في كل لحظة محل توقع لأن تسقط فوق أرواح وأبدان ساكنيها.

لا أخال أن أي من أولئك الشبان -وبصرف النظر عن الإنتماءات والولاءات المقدسة منها أو الدنيوية- يملك مزيداً من القدرة على اجترار قلقه المزمن وخوفه من ذلك المكوث الذي لا نهاية له فوق الجبهة... "والله العظيم بتحس حالك عايش ع جبهة كل الوقت"، قال أحدهم. ما يشير إلى أن قناع الصمود والتصدي ذاك قد أضحى محل ترهّل وملل. وما ذاك الضجيج الأجوف إزاء النصر الآتي، والذي يسوقه "سادة الضاحية" إلا كناية عن كلمات تتدحرج بعبث من فوق ألسنة قد انفرط عقد قاموسها. إن التمعّن في ملامح أصدقائي الضاحيويين يشي بالملل من كل تعاويذ الماضي، وليست رغبة كل منهم بالعيش خارج الضاحية إلا بمثابة تعويذة أخرى تقيهم شرّ ما يداخلهم من قلق المصير وضبابية المشهد، وصولاً ربما إلى الرغبة بهجران الضاحية، وقد تحول بيت كل واحد منهم إلى ما يشبه القنبلة الموقوتة.


أرصدة الكارثة

إن البيت الذي يحتضننا هو الحيّز الأكثر وضوحاً في العالم، كما يجب أن يكون عليه الأمر. إلا أن اجتياح هذا البيت بغموض المصائر وعتمتها، يحوّل العالم، كل العالم، إلى مأزق. فمن العسير أن يكون العالم واقعة انفعالية على الدوام. ومن المتعب بل من المرهق أن يكون البيت مساحة تعكس عسر هذا العالم وغبش ضجيجه. راح يقلّب جمرات الأرغيلة بالملقط المعدني ببطء شديد وهو يكرر علينا، وعلى نفسه بالدرجة الأولى، أن الحياة في الضاحية صارت بمنتهى الصعوبة. إنه العالم وقد تكثّف إلى مجرّد أزمة لا حلّ لها. إنه البيت الذي قد ألمّتْ به كل أرصدة الكارثة. لعل الإنصات إلى صوت الهزيمة هو في بعض متونه انتصار، لعل هذا الإنصات هو الطريق الأمثل لمصالحة الذات مع الأمكنة والأزقة والحواكير والشوارع والساحات والغرف الحميمة. فمن غرائب الأمور ورذائلها أن يكون الانتصار واقعة جهنمية.

حاولتُ الاستقرار بناظري فوق ملامح هؤلاء الرفاق، وحاولت أكثر حفر تلك الملامح في قعر ذهني، إلا أن تلك الحيرة التي ما انفكت ترسم ملامح هؤلاء من كل حدب وصوب، حالت دون رصد تلك الملامح حتى آخر حدود الرصد. إن القلق والخوف الدائم وتلك الرغبة بهجر أماكن الطفولة والشباب والمراهقة وسائر فترات العمر، تسوق المرء لأن يتحول إلى كائن يتراوح وجوده في العالم بين الحضور والغياب، بين التبعثر والسبات وبين الخدر والفطنة... "وشو بدّي بكل فذلكات إنّو انتصرنا يابا وما بعرف شو".

إنها الضاحية حيث الترويض العتيق للأمزجة مع أبد الإنتصارات مهما كانت التكلفة باهظة، وحيث معايشة الرصاص الطائش وغموض الإطلاق الليلي للنار بالحد الأدنى، ومعايشة سقوط البنايات والمساكن، وذلك الموت الذي بلا طائل... إنها الضاحية حيث الأمس هو اليوم، وحيث ثمة من يجهد لجعل هذا الأمس هو أيضاً الغد الضبابي وما بعد هذا الغد... "أقسم بذات الله، وين ما يصحلّي بيت برّات الضاحية، بدّي فِل"... قال شاب الأرغيلة على وقع تلك الجمرات الملتهبة.


كمقبرة مؤجلة

لست أدري إذا كان من باب الاعتباطية اختزال معظم أهل الضاحية بهؤلاء الأصدقاء، حيث الرغبة بالخروج من الضاحية هو جل اهتمامهم. كثر من أهل الضاحية قد لا يجارون موقف أصحاب تلك القعدة الرائعة، غير أن عدم مجاراة هؤلاء لا يلبي على الإطلاق شرط الاستقرار النفسي، والركون إلى "الرواق". ذلك أن مماهاة البيت بالمتراس ومماهاة الحي بالجبهة وترقّب الصاروخ في كل آن، يلغي المكان عن بكرة أبيه، يلغي البيت إلا باعتباره مقبرة مؤجلة.

... راحوا يغادرون المقهى واحد بعد الآخر ليعتلي معظمهم الدراجات النارية وينسلّون داخل الزواريب. أما أنا فقد آليت على نفسي متابعتهم إلى أقصى الحدود... إلى أقصى حدود المتابعة. إن البيت هو العمق الأقصى لاستئناس الذات مع ذاتها، كما ألهمني هؤلاء الأصدقاء. لقد أنبؤوني عبر قلقهم من العيش في الضاحية أن البيت كواقعة أمان ليس بالأمر البديهي، كما قد يتصور المرء البعيد عن هذه الأجواء. لقد كلموني دون أن ينطقون بالأمر بعبارات جلية وواضحة أن البيت في حدّه الأقصى هو أقرب إلى النبض الذي يتاخم نبضات القلب المطمئن... أما هنا، في الضاحية "فما بينعاش يا زلمي". وكأن بهذه العبارة العامية الحقيقية الدقيقة والشاسعة موئل خلاص من قالها، كأني بهذه العبارة البسيطة شعار نجاة هذا الشاب وإخلاصه المطلق مع ذاته ومع زوجته وأطفاله الصغار.

إن موسم الهجرة من الضاحية -التي أحبّ بما يفوق توقعاتي- ينطوي في جل تفاصيله على رغبة بفك الارتباط مع كل ما سبب لهذه الضاحية من خراب وقلق ورعب... "منشان شو، منشان مين؟!"، قال أحدهم ليكمل أثناء توديعنا لبعضنا البعض عند باب المقهى، بعبارات لا تمرّ في أي مقال. لكن لا شيء يحول دون القول إني لم أتوقع بيوم واحد هذا الكم من السباب يتوجه به شاب "ضاحيوي للعضم" ضد نظام الملالي في إيران.


لقد أرشدوني شبان الضاحية هؤلاء إلى حقيقة أن البيت لا يمتّ بصلة إلا إلى محض ذاته... إن البيت هو العالم، وكل شؤون هذا العالم وترتيباته يجب أن تكون فقط لحماية هذا البيت وكل ما دون ذلك "كفر، والله العظيم كفر"... والعبارة الأخيرة -مهما كان حجم المكابرة- ليست لي، إنما لمعظم أهل الضاحية سواء نطقوها أو لا.

تعليقات: